جوانب إنسانية في حياة «أديب نوبل» تعيد عقارب الساعة إلى الوراء

تقبل برحابة صدر قرار منع نشر «أولاد حارتنا» في كتاب

جوانب إنسانية في حياة «أديب نوبل» تعيد عقارب الساعة إلى الوراء
TT

جوانب إنسانية في حياة «أديب نوبل» تعيد عقارب الساعة إلى الوراء

جوانب إنسانية في حياة «أديب نوبل» تعيد عقارب الساعة إلى الوراء

اليوم تحتفل الأوساط الثقافية في مصر والعالم العربي بذكرى ميلاد نجيب محفوظ، ويأتي عرض هذا الكتاب «أيام مع نجيب محفوظ.. حكايات وحوارات» احتفاءً بحياة كاتب أرسى دعائم الرواية العربية، وأكسبها تفرداً خاصاً سيظل ممتداً في الزمان والمكان.
يسلط الكتاب الضوء على بعض الجوانب الإنسانية في حياة صاحب جائزة نوبل، حيث اقترب مؤلفه محمد الشاذلي حين كان صحافياً شاباً في الثمانينيات من محفوظ بصفته المهنية، وسرعان ما تحولت العلاقة بينهما إلى محبّة وثقة وصداقة دامت حتى رحيل محفوظ في 30 أغسطس 2006.
يشير الشاذلي، في بداية الكتاب الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، إلى أن فوز محفوظ بجائزة نوبل عام 1988 فرض عليه التزامات إعلامية ورسمية ودبلوماسية جعلته في مهبّ عاصفة من الفوضى أفسدت عليه حياته المعروفة بالانضباط والبساطة، حتى إنه قال ذات يوم ساخراً: «يبدو أنني أصبحت موظفاً لدى نوبل»! واضطر إلى الارتباط بمواعيد مع عرب وأجانب، وإجراء حوارات ولقاءات مع دبلوماسيين ومسئولين ومثقفين وإعلاميين وزوار من الداخل والخارج يريدون رؤيته والتقاط الصور التذكارية معه، وكان يشكو من ضوء «فلاشات» الكاميرات الذي يؤذي عينيه!
ولم يكن محفوظ قبل نوبل مضطراً إلى أشياء من هذا النوع على الإطلاق، فقد كان يعيش في حرية تامة، والتزاماته هو مَن يحددها. ومن الوقائع ذات الدلالة في هذا السياق أنه في عام 1970 أصدرت مجلة الهلال الشهرية عدداً خاصاً عن نجيب محفوظ قبل الجائزة بــ18 سنة، وضمّت مقالاً بديعاً للكاتب الساخر محمد عفيفي بعنوان «نجيب محفوظ رجل الساعة»، وكان يقصد ساعة يده وقتئذ، وساعة جيبه عند بدء معرفته به. وقال عفيفي، أحد مؤسسي شلة «الحرافيش»: إن محفوظ ينظر في الساعة ليدخن سيجارته، ولا يُخرج العلبة مرة أخرى قبل مرور ساعة، وكما أن سكان مدينة كونيجسبرج كانوا يضبطون ساعتهم على موعد خروج الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط لنزهته اليومية، كذلك فإن جيران نجيب محفوظ يستطيعون ضبط ساعتهم على مواعيد خروجه وعودته، فهو يكتب في ساعة محددة، ويتوقف عن الكتابة في ساعة محددة، ويلتقي أصدقاءه في ساعة محددة، ويغادرهم في ساعة محددة، ويدخل على جلسة الحرافيش في شارع الهرم كل خميس بكيلوجرام من الكباب يحمله من بيته القديم في العباسية».
أما جائزة نوبل فقد قلبت كل ذلك النظام رأساً على عقب، فقد اضطر لأحاديث صحفية وتلفزيونية كثيرة لم يكن يقبل بإجرائها على هذا النحو المتسارع قبل نوبل، كما أنه وافق على الذهاب إلى قصر الرئاسة مرتين؛ الأولى باختياره، والثانية بدعوة وجّهتها إليه وزارة الثقافة. أما الأولى فكانت بعد تلقّي مكالمة هاتفية ثم برقية تهنئة من الرئيس الأسبق حسني مبارك في يوم فوزه بالجائزة الخميس 13 أكتوبر 1988. وردّ محفوظ فوراً وركب تاكسي إلى القصر الجمهوري لكي يكتب اسمه في دفتر التشريفات موجهاً الشكر للرئيس. أما المرة الثانية فكانت بعد الجائزة بثلاثة أسابيع حيث منحه الرئيس مبارك قلادة النيل، في احتفال كبير بقصر الاتحادية.
وبعد شيوع خبر نوبل بنحو ساعتين أو ثلاث دخل بيته في الطابق الأرضي في «172 شارع النيل بالعجوزة»، والذي انتقل إليه من سكن العوامات نحو عام 1961. وهنا داعبه الشاذلي قائلاً له بصوت عال على مرأى ومسمع من الصحافيين في شقته الصغيرة: ها هي نوبل أدخلتنا إلى بيتك أخيراً، فردّ وهو يجلجل بضحكته: وأدخلتني أنا أيضاً!
ومن المفارقات الغريبة التي يكشفها الكتاب أن نجيب محفوظ لم يمتلك يوماً أية نسخة من رواية «أولاد حارتنا» التي أثارت جدلاً حين نُشرت على هيئة حلقات مسلسَلة بصحيفة الأهرام، وطُبعت فقط خارج مصر. كان موقف محفوظ من الرواية هو موقف الدولة نفسه فتقبَّل بصدر رحب قرار منع نشرها في كتاب، وكانت النتيجة أن طبعها ناشر في لبنان، ووُزعت في دول عربية قليلة؛ منها الأردن. ويحكى الشاذلي أنه امتلك نسخة من الرواية عن طريق صديق مصري قادم من الأردن وأصبح من المميزين، ولا يعرف أهمية الكتاب الممنوع أكثر ممن يملكه.
وفي اليوم الرابع بعد نوبل كان المؤلف مع نجيب محفوظ في السيارة باتجاه مبنى التلفزيون في ماسبيرو ليدخله محفوظ، ربما للمرة الأولى ضيفاً في برنامج. لقد وافق من أجل صديقه الصحافي الشاب، وهو ما قاله لرئيسة التلفزيون السيدة سامية صادق- بالحرف الواحد- عندما أكدت أنها شعرت بأنها لن تنام الليل بسبب عدم تصديقها مجيء الأستاذ للمبنى غداً، فذهبت إليه في منزله لتطمئنّ، فقال الأستاذ، وهو يشير إلى الشاذلي، إنه سيأتي لأنه وعد هذا الرجل. ويروي المؤلف أنه كان قد رتّب حلقة مجمعة، فيها كل أصدقاء وتلاميذ نجيب محفوظ من الأدباء والفنانين، تديرها السيدة سميحة غالب زوجة الشاعر صلاح عبد الصبور، بعنوان «سهرة مع نجيب محفوظ».
كان الأستاذ نجيب يعرف أن الشاذلي يمتلك نسخة من «أولاد حارتنا»، وسأله بتواضع جم وهما في سيارة التلفزيون، عن إمكانية استعارة تلك النسخة لكي يقرأها رئيس مجلس الوزراء الدكتور عاطف صدقي، والذي طلبها يوم زيارته لمحفوظ في بيته لتهنئته بالفوز بجائزة نوبل. ومرت سحابة حزن خفيفة حين عرف للمرة الأولى أن الرواية تُطبع وتُزور في كل مكان، في انتهاك صارخ لحقوق المؤلف المادية والأدبية، وسرعان ما عاد إلى تناول أفكار شتى قبل الوصول إلى مبنى ماسبيرو.
وفي طريق العودة سأله المؤلف إن كان سيتوقف عن الكتابة بعد نوبل، فانزعج بشدة وقال: «لا لا لا، الكتابة مستمرة ويجب أن نستغل الوقت المحدود حالياً، فقد كنا نملك الوقت الوفير والجهد الكبير ونحن صغار أيام زمان، لكن الموضوعات والأفكار كانت تستعصي، أما الآن فالرغبة والأفكار موجودة، ولا نملك الوقت والجهد».
ورغم كثرة الحوارات التي أجراها المؤلف مع نجيب محفوظ، لا ينسى ذلك الحوار الذي كان عبارة عن «ضحكة» وحيدة فقط! حدث ذلك عندما ذهب إليه عام 1989 في مكتبه بالطابق السادس في «الأهرام» وفتح جهاز التسجيل وطلب منه أن يضحك، وبعد أن ضحك أغلق الكاسيت وشكره ونهض للانصراف! اندهش الأستاذ فشرح له أنه يُعِدّ برنامجاً بعنوان «لوحة وفنان» للتلفزيون المصري؛ لإذاعته في شهر رمضان عقب الإفطار مباشرة. ولمزيد من التجويد في حلقة الفنان التشكيلي صلاح عناني ولأنه سيتناول اللوحة التي رسمها لمحفوظ بمناسبة حصوله على جائزة نوبل، رأى أن تظهر اللوحة على الشاشة وأديب نوبل يضحك فيها، وذلك هو ما جرى تنفيذه فعلاً على يد مُخرجة البرنامج شادية مختار.
وذات مرة، سأل المؤلف نجيب محفوظ، على سبيل المزاح، عما إذا كان هو نفسه يجسد شخصية «سي السيد» الشهيرة التي ذاعت عبر ثلاثيته الروائية الشهيرة عندما فرض محفوظ تقاليده الشرقية المحافِظة على ابنتيه. وكان الشاذلي قد سافر إلى العاصمة السويدية إستوكهولم ضمن الوفد الصحافي المكلف بتغطية حفل جائزة نوبل، وهناك لاحظ السلوك شديد التحفظ التي تُبديه ابنتا محفوظ «أم كلثوم» و«فاطمة». نفى عميد الرواية العربية الأمر تماماً، وقال إنه أدخلهما الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وسبق أن وافق على سفرهما في رحلة مع الجامعة إلى المجر، كما وافق على قضائهما إجازة صيفية في دول أوروبية من خلال شركات سياحية، واشترى لهما سيارة وهما تعملان حالياً ولهما مطلق الحرية في الصداقة والخروج وحياتهما الكاملة التي تهتم بهما أمهما كأفضل ما يكون، كما أنه دائم الحوار معهما ولا يتردد في الرد على أي استفسار لهما كأي أب، وهو معهما ليس نجيب محفوظ الكاتب والأديب، فكيف يكون «سي السيد» بطل الثلاثية؟!
وحول مسجد نجيب محفوظ الذي جرى بناؤه عند قرية العزيزية على طريق القاهرة الإسكندرية الصحراوي، والذي جرى افتتاحه بعد وفاته بعامين، يشير المؤلف إلى أن الأستاذ بعد أن بدأت أحواله المادية تنتعش، قرر أن يتبرع بجزء من ثروته الطارئة لبناء مسجد، واختار أن يبنيه في تلك القرية تحديداً. وكانت السيدة زوجته قد اشترت قطعة أرض في تلك المنطقة وبنت عليها فيلا صغيرة، وكانت تجهّز للانتقال إليها. وزار نجيب محفوظ المكان مرة واحدة واتفق مع أهل القرية على أن يتكفل ببناء مسجدها، وحضر محاميه جلسةً جمعته وزوجة الأستاذ مع أهل القرية؛ لأنهم تأخروا في إتمام المسجد وافتتاحه للصلاة، رغم أنهم حصلوا على التكاليف كاملة ومقدماً وكانت في حدود نصف مليون جنيه. وهنا أخذت عائلة نجيب محفوظ قرار إتمام البناء بنفسها.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

ثلاثة أفلام تسجيلية تمر على أحداث متباعدة

من «واحد لواحد: جون ويوكو» (مركوري ستديوز)
من «واحد لواحد: جون ويوكو» (مركوري ستديوز)
TT

ثلاثة أفلام تسجيلية تمر على أحداث متباعدة

من «واحد لواحد: جون ويوكو» (مركوري ستديوز)
من «واحد لواحد: جون ويوكو» (مركوري ستديوز)

«ماريا»، الذي سبق وتناولناه هنا قبل يومين، ليس سوى أحد الأفلام المعروضة على شاشة الدورة 81 لمهرجان «ڤينيسيا»، (انطلق في 28 من الشهر الماضي وتسدل ستارته في 7 سبتمبر «أيلول» الحالي)، الذي يتناول حياة شخصيات شهيرة. إذ إن هناك أفلاماً عدّة تتحدّث عن شخصيات حقيقية أخرى بينها ثلاثة أفلام غير درامية.

إنها أفلام وثائقية وتسجيلية عن أسماء مشهورة تتباعد في أزمانها وشخصياتها كما في أدوارها في الحياة. هناك «رايفنشتال» عن المخرجة الألمانية ليني رايفنشتال التي عاشت نحو 101 سنة، و«جون ويوكو» عن حياة المغني جون لينون (من فرقة البيتلز) والمرأة التي ارتبط بها، كذلك يطالعنا فيلم المخرج التسجيلي إيرول موريس «منفصلون» الذي يتناول بعض ما تمر به الولايات المتحدة من أزمات بخصوص المهاجرين القادمين من فنزويلا وكولومبيا ودول لاتينية أخرى.

في هذا النطاق، وبالمقارنة، فإن «ماريا» للمخرج التشيلي بابلو لاراين، يبقى الإنتاج الدرامي الوحيد بين هذه المجموعة متناولاً، كما ذكرنا، الأيام الأخيرة من حياة مغنية الأوبرا.

المخرجة المتّهمة

«رايفنشتال» للألماني أندريس فايَل فيلم مفعم بالتوثيق مستعيناً بصور نادرة ومشاهد من أفلام عدّة للمخرجة التي دار حولها كثير من النقاشات الفنية والسياسية. حققت ليني في حياتها 8 أفلام، أولها سنة 1932 وآخرها «انطباعات تحت الماء» (Impressions Under Water) سنة 2002. لكن شهرتها تحدّدت بفيلميها «انتصار الإرادة» (Triumph of the Will) (1935)، و«أولمبيا» الذي أنجزته في جزأين سنة 1938.

السبب في أن هذين الفيلمين لا يزالان الأشهر بين أعمالها يعود إلى أنهما أُنتجا في عصر النهضة النازية بعدما تبوأ أدولف هتلر رئاسة ألمانيا.

دار «انتصار الإرادة» عن الاستعراض الكبير الذي أقيم في عام 1934 في مدينة نورمبيرغ، الذي ألقى فيه هتلر خطبة نارية أمام حشد وصل تعداده إلى 700 ألف شخص. فيها تحدّث عن ألمانيا جديدة مزدهرة وقوية وعن مستقبل كبير ينتظرها.

الفيلم الثاني من جزأين كان عن الأولمبياد الرياضي الذي أقيم صيف 1936، وحضرته أمم كثيرة بعضها من تلك التي تحالفت لاحقاً ضد الاحتلال الألماني لأوروبا.

شغل المخرجة على الفيلمين فعلٌ فني لا يرقى إليه الشك. تصوّر بثراء كل ما يقع أمامها من الجموع إلى المسيرات العسكرية والرياضية، ومنها إلى هتلر وهو يخطب ويراقب سعيداً الاستعدادات العسكرية التي خاضت لاحقاً تلك الحرب الطاحنة التي خرجت ألمانيا منها خاسرة كلّ شيء.

تبعاً لهذين الفيلمين عدّ الإعلام السياسي الغربي المخرجة رايفنشتال ساهمت في الترويج للنازية. تهمة رفضتها رايفنشتال. وأكدت، في مقطع من الفيلم مأخوذ عن مقابلة مسجّلة، أنها لم تنفّذ ما طُلب منها تنفيذه، ولم تنتمِ إلى الحزب النازي (وهذا صحيح) ولم تكن تعلم، شأن ملايين الألمان، بما يدور في المعتقلات.

ليني رايفنشتال خلال تصوير «أولمبياد» (مهرجان ڤينيسيا)

يستعرض الفيلم حياة المخرجة التي دافع عن أعمالها نُقاد السينما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وإلى اليوم. فيلماها لا يزالان من أفضل ما طُبع على أشرطة في مجال الفيلم الوثائقي إلى اليوم، وذلك عائد إلى اختياراتها من اللقطات والمشاهد وتوثيقها لحدثين مهمّين لا يمكن تصوّر السينما من دون وجودهما بدلالاتهما المختلفة. النتيجة الواضحة إلى اليوم، حتى عبر المقتطفات التي يعرضها الفيلم، تفيد بحرفة متقدّمة وتعامل رائعٍ مع الحدث بأوجهه المتعدّدة.

ينتهج المخرج فايل موقفاً يشيد فيه بالمخرجة ومجمل أفلامها السبعة. لا يفوته الاعتراف بأن رايفنشتال كانت فنانة سينما حقيقية، لكن يوجّه مشاهديه في الوقت نفسه إلى أن هذا الفن لم يكن سوى مظهر دعائي للنازية، وأنها لعبت الدور المباشر في البروباغاندا في الفترة التي سبقت الحرب.

حيال سرد هذا التاريخ يستعين المخرج فايل بمقابلات متعددة أدلت بها (معظمها بعد نهاية الحرب) وواجهت فيها منتقديها كما يعمد المخرج إلى مشاهد من حياتها الخاصة. زواجها. رحلتها إلى السودان خلال اضطرابات عام 2000 حيث تحطمت الطائرة المروحية التي استقلّتها وأصيبت برضوض. رحلتها تلك كانت بصدد التعرّف على البيئة النوبية، وكانت قد حصلت على الجنسية السودانية قبل سنوات (إلى جانب جنسيتها الألمانية وإقامتها البريطانية)، وبذلك كانت أول شخص غربي يُمنح الجنسية السودانية.

لا يأتي الفيلم بجديد فِعليّ لما يسرده ويعرضه. هناك كتب عديدة دارت حولها أهمها، مما قرأ هذا الناقد، «أفلام ليني رايفنشتال» لديفيد هنتون (صدر سنة 2000) و«ليني رايفنشتال: حياة» الذي وضعه يورغن تريمبورن قبل سنة من وفاة المخرجة عام 2003.

هو فيلم كاشف، بيد أنه يتوقف عند كل المحطات التي سبق لمصادر أخرى وفّرتها. محاولة الفيلم لتكون «الكلمة الفصل» ناجحة بوصفها فكرة وأقل من ذلك كحكم لها أو عليها.

جون لينون ويوكو أونو

في الإطار الفني، ولو على مسافة كبيرة في الاهتمام ونوع المعالجة، يأتي (One to One: John & Yoko) «واحد لواحد: جون ويوكو» لكيڤن ماكدونالد، الذي يحيط بحياة الثنائي جون لينون وزوجته يوكو أونو اللذين وقعا في الحب وانتقلا للعيش في حي غرينتش فيلاج في مدينة نيويورك مباشرة بعد انفراط فريق «البيتلز» الذي كان جون لينون أحد أفراده الأربعة.

النقلة إلى ذلك الحي لم تكن اختياراً بلا مرجعية سياسية كون غرينتش فيلاج شهدت حينها حياة ثقافية وفنية وسياسية حافلة تعاملت ضد العنصرية وضد حرب فيتنام، وكانت صوت اليسار الشّعبي الأميركي إلى حين فضيحة «ووترغيت» التي أودت بمنصب الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون. يكشف فيلم مكدونالد (الذي سبق وأُخرج قبل أعوام قليلة، فيلماً عن المغني الجامايكي بوب مارلي) عن اهتمام لينون وزوجته بتلك القضايا السياسية. جون الذي باع منزله المرفّه في ضواحي لندن واستقر في شقة من غرفتين في ذلك الحي، ويوكو التي لعبت دوراً فنياً وتثقيفياً في حياته.

لا يكتفي الفيلم بالحديث عن الثنائي معيشياً وعاطفياً بل عن المحيط السياسي العام ما يُعيد لمشاهدين من جيل ذلك الحين بعض الأحداث التي وقعت، ويوجه المشاهدين الذين وُلدوا سنوات صوب تقدير الثنائي، كما لم يفعل فيلم ما من قبل. ليس لأن «واحد لواحد: جون ويوكو» فيلم سياسي، بل هو استعراض منفّذ مونتاجياً بقدر كبير من الإجادة لحياة ثنائيّ موسيقيّ مطروحة على الخلفية المجتمعية المذكورة.

إرث ترمب

نيسكون مضى ومعه قناعاته وبعد عقود حلّ دونالد ترمب ليسير على النهج اليميني نفسه.

يرتسم ذلك في «منفصلون» (Separated) للمخرج المتخصص بالأفلام التسجيلية والوثائقية السياسية إيرول موريس. من بين أفضل أعماله «ضباب الحرب» (The Fog of War)، الذي تناول الحرب العراقية وكيف تضافرت جهود الحكومة الأميركية على تأكيد وجود ما لم يكن موجوداً في حيازة العراق، مثل القدرات النّووية والصواريخ التي يمكن لها أن تطير من العراق وتحط في واشنطن دي سي (وكثيرون صدّقوا).

«منفصلون» لديه موضوع مختلف: إنه عن ذلك القرار الذي اتخذه ترمب خلال فترة رئاسته ببناء سياج على الحدود الجنوبية للولايات المتحدة لمنع تدفق المهاجرين القادمين من الدول اللاتينية بدافع الفقر وانتشار العنف.

كان يمكن تفهّم هذا القرار لو أنه توقف عند هذا الحد، لكن ترمب تلاه بقرار آخر يقضي بفصل الأطفال عن ذويهم الراغبين في دخول البلاد عبر الحدود. بذلك لدى هؤلاء إمّا العودة من حيث أتوا مع أولادهم، أو العودة من دونهم على أساس وجود هيئات ومؤسسات أميركية ستعني بهم.

مثل هذا الموقف، يؤكد الفيلم، غير الأخلاقي، وكان له معارضون ومؤيدون. بعض المعارضين من أعضاء الكونغرس انقلبوا مؤيدين ما بين مؤتمر صحافي وآخر.

محور الفيلم هو رفض هذا الانفصال على أسس أخلاقية وإنسانية والمتهم الأساسي في فرض العمل به هو ترمب الذي لم يكترث، والكلام للفيلم، لفظاعة الفصل بين الآباء والأمهات وأطفالهم. تطلّب الأمر أن يخسر ترمب الانتخابات من قبل أن يلغي بايدن القرار على أساس تلك المبادئ الإنسانية، لكن بذلك تعاود أزمة المهاجرين حضورها من دون حل معروف.

يستخدم المخرج موريس المقابلات لتأييد وجهة نظره المعارضة وأخرى لرفضها، لكنه ليس فيلماً حيادياً في هذا الشأن. مشكلته التي يحسّ بها المُشاهد هي أن الفيلم يتطرّق لموضوع فات أوانه منذ أكثر من عامين، ما يجعله يدور في رحى أحداث ليست آنية ولا مرّ عليه ما يكفي من الزمن لإعادة اكتشافها ولا هي بعيدة بحيث تُكتشف.