ينطلق الكاتب والباحث المصري صلاح سالم في كتابه «كهف التأسلم» الصادر حديثاً عن دار «الرافدين» ببيروت من فكرة الارتباط الشرطي بين الكهوف والأوهام، فلكل وهمٍ كهفٌ يعيش فيه، ولكل كهف أوهامه التي يمتلئ بها، ولعل أشهر تلك الأوهام هي التي تحدث عنها «فرنسيس بيكون»، مؤكدا أن لكل شخص كهفاً خاصاً به يعترض ضياء الطبيعة ويشوهه، أي يحرف فهمه للحقيقة والعالم. وإذا كانت فكرة الكهف كما طرحها «بيكون» في هذا السياق تصح على صعيد الفرد، فالأغلب أنها تصح على صعيد الجماعة الثقافية. واللافت أن تيارا أساسيا في العقل الثقافي العربي يعاني من أوهام كهف مزمنة، على رأسها ما يتعلق بذلك المجد التاريخي الذي فقدته الأمة والعز الحضاري الذي ضاع منها.
ويوضح الكاتب أن مفهوم «الجهاد» هنا ينتزع من سياقه التاريخي ليصبح ظاهرة محض دموية، رد فعل يتسم بالعبثية على الأزمة الشاملة التي يعيشها العالم الإسلامي وإن مورس بأشكال مختلفة. ترى التيارات الدينية العربية أن نظم الحكم القائمة عاجزة عن الرد على التحدي الحضاري الغربي، ومن ثم ترى أن الخروج عليها فرض كفاية على عموم المسلمين، وهو الدور الذي تؤديه ما يسمى بـ«الطليعة المجاهدة» نيابة عن الأمة. في هذا السياق تتبدى المفارقة الكبرى في دنيا الإسلام، فالكثير من «الجهاديين» المعاصرين يعرفون كيف يموتون في سبيل الله بحثا عن الشهادة، حيث تقول إحدى أدبياتهم مفاخرة «نحن طلاب موت»، لكنهم في المقابل لا يعرفون كيف يحيون في سبيل الإسلام، بل يشوهونه ولا يدركون المعنى الحقيقي لرسالة الاستخلاف التي تطالبنا بتحقيق التقدم وترسيخ العمران، وهنا يجري تجاهل قيمتي المعرفة والحرية، ويظل الضعف ساكنا في كهفنا العتيق، ولو كان واسعاً وممتداً ما دام قد امتلأ بالظلام والجهل وأمعن فقط في طلب الوحدة الشكلية وربما الموت البائس.
ويرد المؤلف على ادعاء الإسلام السياسي، لافتاً إلى أنه يمثل استنتاجاً متعسفاً من مقدمة صحيحة. المقدمة هي أن الإسلام دين إنساني صالح لكل زمان ومكان، وهو فهم صحيح، أما النتيجة المتعسفة، فهي أن استمرارية صلاحه تقتضي منه أن يتحدث في كل شيء فلا يسكت عن أي شيء، وأن يطرح كل الأسئلة، ويقدم كل الإجابات، وهو الفهم الذي ينطوي على مفارقة، فالدين يكون إنسانياً حقاً عندما يصمت عن التفاصيل ويتسامى عن الوقائع المتغيرة، ولا يطرح إجابات إلا عن الأسئلة الوجودية الكبرى حول البدايات والنهايات، المثل والغايات، المآلات والمصائر النهائية. وفي المقابل يتوقف عن طرح الأسئلة العلمية، عن الكيف والعملية عن الوسائل، فما يُراد له أن يكون إنسانياً لا بد من أن يكون عاماً ينشد المبادئ المؤسسة، ويصمت عن كيفية إنزالها عن دنيا الناس، ومن ثم لا معنى للحديث عن أسلمة السلطة وإن ألهمتنا نصوص القرآن مُثلاً عليا لممارستها كالعدل والشورى وزهد الحاكم، يمكن القول إنها مُثل إنسانية قبل أن تكون إسلامية؛ إذ تتعلق بتمكين الإنسان من ترسيخ العمران وزيادة الخير العام.
ويلفت الكتاب إلى تلك المثل التي تنبع من شمولية الدين الوجودية وانشغاله بالمصير الإنساني، ولذا تتمتع بدرجة عالية من الثبات، فقيمة كالعدل لم تتراجع أهميتها منذ بداية التاريخ بل ازدادت، وأيضاً قيمة الشورى لم تتوار، بل ارتقت إلى مستوى الديمقراطية، وكذلك زهد الحاكم الذي لم يذبل دوره، بل تنامى وصار موضوعاً لمفاهيم عصرية كالحوكمة.
وبحسب المؤلف، يكمن هنا الالتباس العميق لدى كثيرين بين فقدان المُثل العليا للحكم في الإسلام وبين فقدان ما يتصوره البعض «دولة الإسلام الشرعية»، فلا يوجد في النص الإسلامي نظرية إسلامية في المعرفة السياسية تحتكر وصف «الشرعية» تطرح أسئلة الكيف المعرفية، وتشرح وتفصل لنا طبيعة السلطة وكيفية تشكيلها، وأشكال العلاقة بين فروعها وكيفية تحقيق التوازن بينها، وكيفية ممارسة الرقابة عليها مثلما تفعل النظريات السياسية الحديثة. وما حدث في التاريخ ابتعادا عن تجارب الحكم الإيجابية والفعالة في العصر الراشد التي يبكي العقل السلفي على أنقاضها حتى اليوم لم يكن تنازلاً عن الخلافة الشرعية، بل كان تدهوراً في قدرة الحكام على تجسيد هذه المُثل بفعل التدهور الحضاري والاستبداد السياسي، وهي على الرغم من ذلك مُثل خالدة تبقى في انتظار من يجسدها عبر أي تكوين سياسي معاصر، وليس بالضرورة عبر بناء دولة دينية يعتقدون بوجودها التاريخي، وأيضاً بإمكانية استعادتها ترجمة لما يدعونه «الحاكمية الإلهية» على حساب الدولة العصرية المدنية التي تجسد في اعتقادهم سيادة الإنسان غير الشرعية على الأرض.
ويخلص المؤلف في النهاية إلى أنه لا يوجد إذن، ولا يمكن أن يوجد نظام سياسي نموذجي يحتكر التاريخ بكل مراحله أيا كانت فصائله، ومن ثم فإن تطويع الدين لأشكال جديدة من الحكم وصيغ معتدلة من المدنية وأنماط مستحدثة للديمقراطية لإدارة المجتمعات الإنسانية لا يبدو أمراً مشروعاً فحسب، بل يعد مطلباً وجودياً، فالدين بوصفه أفقاً إنسانياً يبغي الشمول والصلاح لا يجسد بنية فكرية مكتملة نهائياً أو نسقاً مغلقاً ينتفي عنه كل ما عداه، بل هو نسق مفتوح يستوعب كل فكرة خلاقة في التاريخ ما دامت كانت قادرة على ترقية وتزكية الحضور الإنساني في الأرض.
لا نموذج سياسياً يحتكر التاريخ بكل مراحله
طبيعة السلطة وأشكال التوازن بين فروعها في «كهف التأسلم»
لا نموذج سياسياً يحتكر التاريخ بكل مراحله
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة