«السباحتان» يسرى وسارة مارديني... قصة الأحلام العنيدة

فيلم يحاكي مآسي اللجوء وجمالية الإرادة

الأختان اللبنانيتان نتالي (يسرى) ومنال (سارة) عيسى في فيلم «السّباحتان»
الأختان اللبنانيتان نتالي (يسرى) ومنال (سارة) عيسى في فيلم «السّباحتان»
TT

«السباحتان» يسرى وسارة مارديني... قصة الأحلام العنيدة

الأختان اللبنانيتان نتالي (يسرى) ومنال (سارة) عيسى في فيلم «السّباحتان»
الأختان اللبنانيتان نتالي (يسرى) ومنال (سارة) عيسى في فيلم «السّباحتان»

تبدأ الأحداث عام 2011 في إحدى ضواحي دمشق. نزل الناس إلى الشارع وعلت الهتافات. أرادوا أياماً بطعم الحرية. بينما الغليان يشتد، صوّب الأب طريق ابنتيه: «حددا الهدف وانطلقا. ارسما مساركما».
فيلم «السباحتان (The Swimmers)»، الذي عرض على «نتفليكس» وإنتاجها، ومن إخراج الويلزية من أصول مصرية سالي الحسيني يُخبر عن قصة الأحلام العنيدة، تلك التي لا تُقتل بطلقة ولا تختنق تحت الماء، ومعاناة لجوء السباحتين السوريتين يسرى وسارة مارديني في سردية ملهمة لا تعرف المستحيل.
ساعتان وربع الساعة من النجاة بالإنسان وطموحه وأهدافه الجميلة. ومن جمالية الإرادة وجدوى السعي. تأخذ الأختان اللبنانيتان نتالي (يسرى) ومنال (سارة) عيسى، الشخصيتين إلى ما يليق بحجم تضحية صاحبتَي السيرة في الواقع، ومن خلالهما تحاكيان عذابات اللاجئين جميعاً على الأرض. تقودان روح الفيلم إلى ما قبل الغرق بقليل، حيث الانتشال يمنح الفرص الثانية. اقتناصها جدير بمَن يكثف المحاولة.
لم يبقَ وطن بعد أربعة أعوام منذ التفجر في عام 2011، تحصد القذائف أرواحاً عزيزة وتفرق الشمل. الأسوأ هو العيش على وقع الضربة القاضية. تتبعثر الصداقات بمقتل أطرافها ويفرط العقد. يعاند الأب رغبة ابنتيه باللجوء إلى ألمانيا، وحين تسوء الأحوال ويصبح الموت على مسافة خطوة، يهز الرأس معلناً الموافقة.
ليس الأب لثلاث فتيات، منهن اثنتان سباحتان محترفتان، نموذجاً تقليدياً للأبوة (يؤدي الدور علي سليمان). أورثَ يسرى وسارة عشقه للسباحة وأراد لهما تحقيقَ فوزٍ حال دونه التحاقه بالخدمة العسكرية. تحوله إلى مدربهما، قدمه بصورة الأب المحرض على الحلم. ثلاثية الأب - الابنتين، يسيطر عليها نبل الروابط.
يسقي الأب ما غرسه في يسرى تحديداً، في حين تذهب سارة وراء شغف آخر. يسرى نسخته عن نفسه، ورغبته المُصادَرة بحصاد الميداليات. هي خفقانه في كل منافسة وشعوره تحت الماء. يحملها حلمه: الوصول إلى الأولمبياد، وطوال الفيلم تُعارِك، من أجله، الأمواج والتجاوزات والتعب.
مقتل صديقتهما يحملهما إلى حسم قرار الهجرة وتنفس الحياة خارج شروط الموت. الأوطان هي الجحيم حين تُجهز على سلام المرء وشعوره بالطمأنينة. وحين يغدو أبناؤها وحوشاً يفترسون النساء، ومزاجها أسود كمدينة بلا كهرباء. النجاة بأعجوبة، صدفة. والصدف ليست لطيفة طوال الوقت. تجهز يسرى وسارة الأمتعة وتغادران النار نحو «الجنة الأوروبية».
أجمل ما في الفيلم أنه ينبثق من الشقاء. تتعدل وِجهة الشابتين فتعبران من دون تخطيط مسارات أخرى للسفر. وهي الأقسى على الإطلاق: قوارب الموت! هنا الإنسان أمام ما لم يستعد له، لكنه يضطر لمواجهته. لا لأي سبب، إلا للبقاء على قيد الحياة. تكتشف سارة شغفها حين توضع في أزمة فتُجيد التصرف. يتعطل القارب وسط البحر، فتمزق استغاثة ركابه سكينة الفضاء. لأم وطفلتها، عائلة كاملة، شباب وشابات، يائسين وحالمين... في الخضم، بين غدرات الموج، في المصير المفتوح على الاحتمالات السيئة.
حجب التفاصيل حقُ متابع إن شاهد، لجرته المُشاهدة إلى صميمها. كل الدقائق ممتلئة بما لا يتيح الشرود ويُسرب الضجر. يقبض المهرب المبلغ ويُسلم «رؤوس» البشر للبحر. لا يأبه أن يعطف أو يقسو. يحشو جيبه ويدير ظهره. تتأتى الجمالية السينمائية في التقاط الحد الفاصل بين الحياة والموت. ورغم مرارتها، فإنها تتحلى بالروعة. تُكمل الشقيقتان بالسباحة الطريق إلى اليابسة. بعد لبنان وتركيا واليونان والحدود المجرية... تطل برلين من عمق المأساة.
يوم سارت الشقيقتان بجانب كلمات على الجدار تقول: «طائراتكم لا تستطيع أن تقتل أحلامنا»، كانت الحرب قد قتلت وشردت. لكن الحلم أزهر. ثمة ما يحبس الأنفاس ثم يُطلقها كما تُطلَق عصافير سجينة من أقفاصها. الوطن قد يكون ذريعة للاختناق، ومع ذلك لا يكف ناسه عن الالتصاق به وإغلاق القلوب عليه ليسكن عميقاً.
الفرصة الأولى التي أتيحت ليسرى مارديني في الأولمبياد، أرادتها سباحة من أجل سوريا. لم تُحملها فظاعة تلك الليلة حين هَم البحر على ابتلاع التائهين إلى الأماكن الآمنة. لم ترمِ عليها قسوة التعرض لمحاولة اغتصاب وثمن الخدوش النفسية. انتشلتها من العتب وأهدتها الإنجاز.
وهو تحقق عام 2016 في أولمبياد «ريو» بفوزها عن فئة اللاجئين أمام ملايين المشجعين. ترأف الأقدار بلقاء الأرواح الطيبة. على مسافة من مخيم اللجوء الألماني، تقدم يسرى نفسها لمدرب سباحة يمنحها الثقة. كأبيها، يقودها إلى ما لم يستطع تحقيقه. هو الآخر، يحملها أحلامه المُجهضة.
في أولمبياد البرازيل، تسبح أيضاً من أجله. ومن أجل العائدين إلى أوطانهم الكئيبة لأن الحياة ليست عادلة. حتى مراكب الموت لا تُتاح للجميع، ولا النجاة وقلْب الصفحة. أحياناً، لا يبقى سوى الخذلان.
لم تكن الأم كندة علوش كسائر الأمهات، تحلم بالفستان الأبيض لبناتها. والدة يسرى وسارة مارديني، أرادتهما سعيدتين في العلم والوظيفة. أنقذتهما مما هو عادي، لترفعهما، كما الأب، إلى حيث التصفيق الحار.
تعجز رصاصة عن خرق خيالات تطارد الحلم حتى البعيد. تصبح فوراً طلقة مرتدة. «على هذه الأرض ما يستحق الحياة»، يقول محمود درويش. إنها الأحلام.


مقالات ذات صلة

«قصف إسرائيلي» يُخرج مطار حلب من الخدمة

المشرق العربي «قصف إسرائيلي» يُخرج مطار حلب من الخدمة

«قصف إسرائيلي» يُخرج مطار حلب من الخدمة

أعلنت سوريا، أمس، سقوط قتلى وجرحى عسكريين ومدنيين ليلة الاثنين، في ضربات جوية إسرائيلية استهدفت مواقع في محيط مدينة حلب بشمال سوريا. ولم تعلن إسرائيل، كعادتها، مسؤوليتها عن الهجوم الجديد الذي تسبب في إخراج مطار حلب الدولي من الخدمة.

«الشرق الأوسط» (دمشق)
المشرق العربي لا تأكيد أميركياً لقتل تركيا زعيم «داعش» في سوريا

لا تأكيد أميركياً لقتل تركيا زعيم «داعش» في سوريا

في حين أعلنت الولايات المتحدة أنها لا تستطيع تأكيد ما أعلنته تركيا عن مقتل زعيم تنظيم «داعش» الإرهابي أبو الحسين الحسيني القرشي في عملية نفذتها مخابراتها في شمال سوريا، قال وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو إن قوات بلاده حيدت (قتلت) 17 ألف إرهابي في السنوات الست الأخيرة خلال العمليات التي نفذتها، انطلاقاً من مبدأ «الدفاع عن النفس».

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
المشرق العربي إردوغان يعلن مقتل «الزعيم المفترض» لتنظيم «داعش» في سوريا

إردوغان يعلن مقتل «الزعيم المفترض» لتنظيم «داعش» في سوريا

أعلن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، يوم أمس (الأحد)، مقتل «الزعيم المفترض» لتنظيم «داعش» في سوريا خلال عملية نفذتها الاستخبارات التركية. وقال إردوغان خلال مقابلة متلفزة: «تم تحييد الزعيم المفترض لداعش، واسمه الحركي أبو الحسين القرشي، خلال عملية نفذها أمس (السبت) جهاز الاستخبارات الوطني في سوريا». وكان تنظيم «داعش» قد أعلن في 30 نوفمبر (تشرين الأول) مقتل زعيمه السابق أبو حسن الهاشمي القرشي، وتعيين أبي الحسين القرشي خليفة له. وبحسب وكالة الصحافة الفرنيسة (إ.ف.ب)، أغلقت عناصر من الاستخبارات التركية والشرطة العسكرية المحلية المدعومة من تركيا، السبت، منطقة في جينديرس في منطقة عفرين شمال غرب سوريا.

«الشرق الأوسط» (إسطنبول)
المشرق العربي الرئيس التونسي يعيّن سفيراً جديداً لدى سوريا

الرئيس التونسي يعيّن سفيراً جديداً لدى سوريا

قالت الرئاسة التونسية في بيان إن الرئيس قيس سعيد عيّن، اليوم الخميس، السفير محمد المهذبي سفيراً فوق العادة ومفوضاً للجمهورية التونسية لدى سوريا، في أحدث تحرك عربي لإنهاء العزلة الإقليمية لسوريا. وكانت تونس قد قطعت العلاقات الدبلوماسية مع سوريا قبل نحو عشر سنوات، احتجاجاً على حملة الأسد القمعية على التظاهرات المؤيدة للديمقراطية عام 2011، والتي تطورت إلى حرب أهلية لاقى فيها مئات آلاف المدنيين حتفهم ونزح الملايين.

«الشرق الأوسط» (تونس)
المشرق العربي شرط «الانسحاب» يُربك «مسار التطبيع» السوري ـ التركي

شرط «الانسحاب» يُربك «مسار التطبيع» السوري ـ التركي

أثار تمسك سوريا بانسحاب تركيا من أراضيها ارتباكاً حول نتائج اجتماعٍ رباعي استضافته العاصمة الروسية، أمس، وناقش مسار التطبيع بين دمشق وأنقرة.


غرفة «عمليات القاهرة» لتعزيز صمود اتفاق «هدنة غزة»

فلسطيني ينقل طفلاً مصاباً إلى المستشفى بعد غارة إسرائيلية في دير البلح وسط قطاع غزة (أ.ف.ب)
فلسطيني ينقل طفلاً مصاباً إلى المستشفى بعد غارة إسرائيلية في دير البلح وسط قطاع غزة (أ.ف.ب)
TT

غرفة «عمليات القاهرة» لتعزيز صمود اتفاق «هدنة غزة»

فلسطيني ينقل طفلاً مصاباً إلى المستشفى بعد غارة إسرائيلية في دير البلح وسط قطاع غزة (أ.ف.ب)
فلسطيني ينقل طفلاً مصاباً إلى المستشفى بعد غارة إسرائيلية في دير البلح وسط قطاع غزة (أ.ف.ب)

مخاوف عديدة تصاحب انطلاق اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة، صباح الأحد، وسط ترقب مساعي غرفة عمليات تشكّلت في القاهرة بمشاركة مصرية - قطرية - إسرائيلية - فلسطينية - أميركية؛ لمتابعة تنفيذ الصفقة و«معالجة أي خلل».

تلك المتابعة من غرفة العمليات تأتي في ظل تهديدات من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بالعودة للقتال، وانقسام إسرائيلي داخلي تجاه الاتفاق، ويعدّها خبراء تحدثوا لـ«الشرق الأوسط» بمثابة ضمانة حقيقية لمنع انهيار الهدنة وتعزيز صمودها في مواجهة أي مماطلات ومراوغات إسرائيلية متوقعة مع التنفيذ.

وأفادت «الخارجية القطرية»، في بيان صحافي، السبت، بأن وقف إطلاق النار في غزة سيبدأ صباح الأحد، داعية الفلسطينيين إلى «أخذ الحيطة وممارسة أقصى درجات الحذر وانتظار التوجيهات من المصادر الرسمية».

جاء ذلك التحذير غداة انتهاء اجتماع بالقاهرة خُصص لمناقشة آليات تنفيذ الاتفاق خلص إلى تشكيل غرفة عمليات مشتركة في القاهرة لمتابعة تنفيذ الإجراءات، وفق ما ذكره مصدر مصري مطلع، لقناة «القاهرة الإخبارية» الفضائية، مساء الجمعة، لافتاً إلى أن «الغرفة تضم ممثلين عن مصر وفلسطين وقطر والولايات المتحدة وإسرائيل».

إجلاء سكان مخيمي النصيرات والبريج للاجئين خلال العمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة (إ.ب.أ)

وغرفة العمليات المشتركة في القاهرة بمثابة «آلية لمعالجة أي خلل في هذا الاتفاق والتأكد من عدم حدوث أي مشكلة قد تؤدي إلى انهياره»، وفق ما ذكر رئيس وزراء قطر الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، في مقابلة متلفزة، مساء الجمعة.

وبرأي مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، السفير رخا أحمد حسن، فإنه كان من الضروري وضع ضمانات لمتابعة تنفيذ الصفقة في ظل وجود أحاديث إسرائيلية عن أن نتنياهو يريد التركيز على المرحلة الأولى، ومن ثم يعود للحرب، مؤكداً أهمية تشكيل غرفة العمليات بهدف صمود ذلك الاتفاق باعتبار أنها «الوسيلة الوحيدة التي تستطيع (كبح جماح) إسرائيل خاصة وهي معنية بتنفيذ التفاصيل».

ويرى المحلل السياسي الأردني، صلاح العبادي، أن الغرفة من شأنها مراقبة مجريات تنفيذ الاتفاق في مراحله كافة والتواصل مع إدارة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب لضمان عدم حدوث خروقات.

ورغم انقسام داخلي، وافقت الحكومة الإسرائيلية، فجر السبت، على الهدنة حسبما جاء في بيان رسمي مقتضب، في حين أفاد موقع «أكسيوس» الإخباري بأن 24 وزيراً صوّتوا لصالح الاتفاق، في حين عارضه 8 وزراء.

رد فعل فلسطينيين على مقتل صحافي فلسطيني خلال غارة إسرائيلية في خان يونس جنوب قطاع غزة (أ.ف.ب)

ولتجاوز الخلافات، قال نتنياهو خلال جلسة الحكومة: «حصلنا على ضمانات قاطعة، من الرئيس الأميركي جو بايدن والرئيس المنتخب ترمب، بأنه في حال فشل المفاوضات حول المرحلة الثانية ورفض (حماس) مطالبنا الأمنية، سنعود إلى القتال»، في حين قال رئيس جهاز الموساد دافيد برنياع إن إسرائيل تركت أدوات ضغط على «حماس»، إذا لم تقم بدورها في الصفقة، دون أن يوضحها.

وكشف تقرير لشبكة «سي إن إن» الأميركية عن انقسامات عميقة في السياسة الإسرائيلية يمكن أن تهدد طول عمر الصفقة، لافتاً إلى أنه «سيحدث التفاوض على المرحلة الثانية بدءاً من اليوم الـ16 من الهدنة وقد تملي تقلبات السياسة الإسرائيلية ما إذا كان أي من ذلك سيحدث».

«وإذا أراد رئيس الوزراء الإسرائيلي التراجع عن الاتفاق فيمكنه أن يخلق ألف سبب للعودة للحرب مهما كانت الضمانات»، وفق تقدير رئيس وزراء قطر، مضيفاً أنه بخلاف ضمانة غرفة العمليات، ننتظر كذلك صدور قرار ملزم من مجلس الأمن لدعم الاتفاق، وسط حديث منه عن مخاوف من حدوث بعض الاحتكاكات عند عودة السكان إلى منازلهم.

وبخلاف ما يروجه نتنياهو، يعتقد العبادي أن «ترمب سيواصل الضغط على رئيس وزراء إسرائيل لمنع انهيار الاتفاق، خاصة أنه تم بضغط منه سعياً لإنهاء تلك الحرب، وهو جاد بذلك».

وباعتقاد رخا، فإن الوسطاء وترمب لن يسمحوا لنتنياهو بأن يفسد الاتفاق وسيقدمون كل الجهود لصموده، خاصة أن الولايات المتحدة والدول الغربية لن تتحمل إنفاقات مالية ضخمة دعماً لإسرائيل، و«وارد أن تصل الضغوط للذهاب لانتخابات لإبعاد رئيس الوزراء المعرقل والبحث عن بديل مناسب لتحقيق السلام حسبما ترى واشنطن».