في مدينة الخرطوم وداخل أحد أحيائها العريقة يقع «بيت جالوص» ممثلاً لمركز فنون وصالة عرض مفتوحة بالمجان لكل التشكيليين. هذا البيت كما قال مؤسسه التشكيلي المغيرة عبد الباقي: «حلم ظل يراوده ليكون ساحة إبداع وملتقى يجذب الفنانين بمختلف حرفهم... لم يكن الطريق مفروشاً بالورود، فالبداية كانت في أم درمان 2016 ثم بالقرب من كلية الفنون، وأماكن الفعاليات الثقافية ودور العرض في الخرطوم بجامعة السودان... بعدها قمت بافتتاح أستوديو، موقعه في الخرطوم في السوق العربي... وبعد فترة انتقلت في العام 2022 إلى جالوص في الخرطوم 2 شارع كترينا... وهنا ظل المشروع يكبر كل مرة من خلال منتدى داخلي كنا نناقش فيه جميع قضايا التشكيل وإشكاليات صالة العرض للهواة من الفنانين، إلى أن وصلنا إلى بيت جالوص، والاسم يعني باللغة المحلية السودانية بيتاً من الطين».
وتمت إقامة جالوص على مساحة 300 متر، وهو بيت قديم تم توظيف كل التفاصيل العتيقة فيه لصالح الإبداع، فبدت الحوائط بألوانها القديمة والنوافذ من الحديد المصقول، ورممت الأرضيات محافظة على شكلها القديم، غرف المنزل تحتوي على فضاءات عرض، ويحتوي فناء المنزل على بعض القطع التراثية و «زير » يحتضن شجرة نيم عتيقة.
ويوضح المغيرة عبد الباقي قائلاً: «صالات العرض أصبحت مرتبطة بمراكز ثقافية كالمركز الفرنسي والألماني، وداون تاون، فهذه لا تعرض لأي فنان، إلا إذا تمت تزكيته من قبل فنان معروف، مثل الصلحي، أو العتيبي، أو راشد دياب، لأنك مجهول بالنسبة لهم. مضيفاً أن هناك صراعاً يعيشه الفنانون، فإن لم يتم عرض أعمالهم داخل صالات المراكز الثقافية الكبيرة، لا يشعرون أنهم فنانون، وهذه ليست مشكلة، لكن ما تم تداوله جعل كثيرين يعيشون حالة من الإحباط، لأنه لا توجد معايير تحدد هل أنت فنان بمجرد عرضك فيها أم لا . ومن هنا جاءت فكرة (جالوص) لعرض أعمال الفنانين والهواة ممن لم يجدوا فرصتهم في تلك الأماكن، وبدأ كثير من الفعاليات يقام في (جالوص) وتم تصويب انحراف أن العرض في مساحة غير معروفة لا يعني أنك فنان أقل قيمة».
وأكد عبد الباقي قائلاً: «هدفنا نشر قيمة الفن لمن يشغلون مسارات مختلفة من الفنون أيضاً، مثل السعف، التربزيه، والإسكاف... وغيرهم... برأيي جميعهم فنانون سودانيون، والفكرة هنا تعزيز ثقافتنا السودانية المحلية، ويجب أن يعترفوا بالفنانين السودانيين في المقام الأول».
ويرى عبد الباقي أن «جالوص» وسيلة مقاومة يقف وراءه كثير من الفنانين التشكيليين، و«فكرة يمكن أن تساعدنا على الاحتراف وأن نقدم رسوماتنا وموسيقانا التي نعرفها دون تمييز، هم يقولون فنون شعبية وفنون حديثة حسب تقسيمات المستعمر سابقاً، لكن إذا جئنا ونظرنا لحضارتنا فسنجد أننا كنا سابقين متقدمين. أهل الدنيا في فنوننا وثقافتنا. ولم يكن هناك فصل بينا وبين تاريخنا»، مشيراً إلى وجوب الرجوع وتصحيح ذلك والارتباط بجذورنا لنقدم محتوى جديداً وفناً لا يشبه أحداً.
ويقول التشكيلي أيمن الحاج إن «جالوص» أسهم في خلق بيئة جاذبة للفنانين التشكيليين لأن الفكرة نبعت من قِبلهم لتأسيس صرح لهم، ما وفر مساحة عرض مريحة، حيث يتلقي فيها الفنانون مساعدات إبداعية من أطياف مختلفة، مشيراً إلى أنه بعد قيام ثورة ديسمبر، ظهر دور التشكيليين بصورة واضحة، وجذبت مساهمتهم جمهوراً كبيراً، واحتاج الفنانون أن يعكسوا هذا الدور بصورة أفضل فكانت المعارض التي تحتويها صالات «جالوص» حلاً عظيماً لإشكالية مساحات العرض. وأنسب مثال لذلك، معرض «الفن للجميع» الذي ضمّ تجمعاً كبيراً من التشكيليين، وبعضهم لا يزال في مقاعد الدراسة.
ويؤكد الحاج أن «جالوص» أصبح مساحة لمزيد من التعلم بعد المرحلة الجامعية والتخرج من كلية الفنون الجميلة والتطبيقية، من خلال الورش والنقد والجلسات المختلفة، مثل «دور التشكيليين الشباب في تغيير الواقع الحالي للتشكيل في السودان»، و«الفنان التشكيلي بين تحولات الواقع وشروط السوق» من أهم العناوين وجلسات النقاش التي قامت بدور توعوي كان مفقوداً في الحقب السابقة، مع أهمية ذلك للفن التشكيلي السوداني.
وتأتي معارض البيع المخفض كإحدى أفكار «جالوص»، حيث يتشارك الهواة والمحترفون وأساتذة الجامعات فكرة حصول كل بيت سوداني على لوحة، بعد تغيير النظرة المجتمعية للفن التشكيلي إبان الثورة، ومرد ذلك إحساس بعرفان الجميل لما قدمه التشكيليون وهم محتشدون في ساحة الاعتصام يزرعون الأمل في غد أفضل.
ويرى معتز علي (متذوق للفن التشكيلي) أن تجربة «جالوص» مهمة في المشهد التشكيلي السوداني، كما أنها خطوة أولى للوقوف على الإشكاليات التي يتعرض لها الفنانون، وتعد فرصة للهواة والمحترفين والجمهور على حد سواء بسبب عرض ومشاهدة عدد كبير من الأعمال المختلفة.
وكما يلفت معتز علي إلى قلة مساحات العرض، على الرغم من تغير نظرة المجتمع للفن التشكيلي، واعتباره رافداً من روافد الثقافة، يعود إلى عدم وجود مستثمرين سودانيين حتى الآن، ربما بسبب الوضع المحلي الذي يفتقر للسوق الفنية، بالإضافة إلى أن الفن يحتاج إلى نوع من الانفراج السياسي... ويختم: «إن المشهد الفني كله معقد ويعاني من الارتباك كما هو حال البلد».
«بيت جالوص»... تحول فني في السودان يشجع التشكيليين
«بيت جالوص»... تحول فني في السودان يشجع التشكيليين
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة