في عام 2016، أعلن في باريس وكانبيرا عن التوصل إلى اتفاق «تاريخي» بين فرنسا وأستراليا تحصل بموجبه الثانية على 12 غواصة من طراز «باراكودا» تعمل بالدفع التقليدي (ديزيل - كهرباء) وتصنع في ميناء أدلاييد الواقع جنوب البلاد. وفي عام 2019 تم التوقيع نهائياً على العقد المذكور الذي بلغت قيمته 58 مليار دولار وسمي وقتها «عقد القرن» الذي شكل أساس «الشراكة الاستراتيجية» بين البلدين، وراهنت عليه باريس ليكون عماد استراتيجيتها في منطقة الهندي-الهادئ. بيد أن الأمور انقلبت من النقيض إلى النقيض عندما قررت الحكومة الأسترالية، برئاسة المحافظ سكوت موريسون، خريف العام الماضي، نقض العقد واستبداله بعقد ثلاثي أسترالي-أميركي-بريطاني؛ للحصول على غواصات تعمل بالدفع النووي. وترافق ذلك مع إطلاق تحالف دفاعي ثلاثي سمي «أوكوس» غرضه مواجهة الأطماع الصينية في بحر الصين وجنوب المحيط الهادئ، ووصلت إلى المنطقة الاقتصادية الأسترالية الخالصة. وبالطبع، كانت باريس الخاسر الأكبر تجارياً واقتصادياً ودفاعياً من جهة، واستراتيجياً من جهة أخرى، حيث إنها أبقيت خارج التحالف الجدي رغم وجودها الفعلي في منطقة الهندي-الهادئ بفضل ممتلكاتها البحرية هناك؛ أبرزها مجموعة جزر وأرخبيل كاليدونيا الجديدة الواقعة جنوب المحيط الهادئ. وأدى الانقلاب الأسترالي إلى أزمة سياسية بين باريس والعواصم الثلاثة المعنية، ما انعكس على علاقاتهما، خصوصاً بين الرئيسين إيمانويل ماكرون وجو بايدن.
بيد أن الأمور لم تبق طويلاً على هذه الحال، ذلك أن واشنطن فهمت خطأها ونجحت في استرضاء باريس بمناسبة اللقاء الذي جمع ماكرون وبايدن في روما، على هامش قمة الحلف الأطلسي. بالمقابل، بقيت العلاقة متوترة مع رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون الذي لعب دوراً محورياً في دفع موريسون لفصل العقد. أما مع كانبيرا، فإن الأمور عادت شيئاً فشيئاً إلى طبيعتها مع فوز حزب العمل في انتخابات الربيع الماضي ووصول أنتوني ألبانيز إلى رئاسة الحكومة الجديدة. وكانت من بين أولوياته إصلاح حال البين مع باريس التي زارها بداية يوليو (تموز) الماضي، وأعرب عن نية بلاده فتح صفحة جديدة معها. ومع هذا التحول، عاد «عقد القرن» ليطفو على السطح خصوصاً بعد أن تبين أن حصول البحرية الأسترالية على الغواصات الجديدة لن يحصل قبل 15 إلى 20 عاماً، وأن أستراليا ليست لها «مؤهلات نووية» للتعاطي مع هذه الغواصات التي اعتبر خيارها سياسياً أكثر منه دفاعياً.
هكذا باتت الأمور مهيأة لتعيد باريس طرح خياراتها. وجاءت هذه المرة على لسان رئيس الجمهورية الذي التقى ألبانيز في بالي، على هامش أعمال قمة العشرين. ومن بانكوك، حيث يشارك في قمة مجموعة آسيا-المحيط الهادئ الاقتصادية التي انطلقت أمس، وهو ضيفها الأوروبي الوحيد، استغل ماكرون مناسبة مؤتمره الصحافي ليؤكد في اليوم التالي للقائه ألبانيز، أنه ناقش معه ملف صفقة الغواصات، وليؤكد أن «العرض الفرنسي معروف وهو مطروح على الطاولة».
وأشار ماكرون إلى أن باريس ما زالت «منفتحة» من أجل إعادة النظر في الاتفاق السابق، وأن موقفها «لم يتغير». وفي التفاصيل، قال الرئيس الفرنسي إن «الخيار ما زال متاحاً» لأستراليا؛ إن لجهة شراء غواصات فرنسية الصنع أو لبنائها معاً (وفق ما نص عليه العقد السابق). ولما سئل عن الصعوبات التي ستواجهها أستراليا إن لجهة تأخر حصولها على الغواصات النووية أو تشغيلها والتعامل معها، فضل التريث في الإجابة ملتزماً جانب الحذر أقله علناً؛ إذ أكد أن الأستراليين «لم يقرروا (بعد) تغيير الاستراتيجية بشأن هذا الموضوع» راهنا. كذلك، امتنع موريسون لاحقاً عن الخوض في تفاصيل الملفات العسكرية، إلا أن ماكرون لجأ إلى حجة يراد منها أن تكون عامل ضغط على الطرف الأسترالي؛ إذ أشار إلى وجود «خيار مفصلي وهو معرفة ما إذا كان الأستراليون يرغبون أم لا في أن ينتجوا بأنفسهم الغواصات (التي يحتاجونها)، وإذا كانوا يريدون التحول إلى الغواصات النووية أم لا»، موضحاً أن بلاده رفضت دوماً تصدير غواصات نووية.
وفي أي حال، أكد ماكرون أن باريس توفر لكانبيرا «خياراً بديلاً يضمن حريتها وسيادتها»، فضلاً عن نقل المعرفة والمهارات إليها باعتبار أن الغواصات كانت ستبنى في موانئها. ولأن لباريس مصالح في هذه المنطقة من العالم، فقد شدد ماكرون على أن استراتيجية بلاده «في المنطقة المتنازعة، حيث ثمة مواجهة بين القوتين الأوليين في العالم (الولايات المتحدة الأميركية والصين) تقوم على الدفاع عن الحرية والسيادة وعلى التوازنات التي تحفظ حرية الإبحار والتبادل الثقافي المتوازن، والمبادلات الاقتصادية والتنمية التكنولوجية من غير أن يهمين نموذج (سياسي - اقتصادي) على الآخر».
رغم الحذر من الطرفين، ما زالت ترن في أسماع الفرنسيين كلمات نائب رئيس الوزراء الأسترالي ووزير الدفاع ريتشارد مارل، خلال زيارته إلى باريس في سبتمبر (أيلول) الماضي، حيث زار برفقة نظيره الفرنسي سيباستيان لوكورنو مرفأ شيربورغ، حيث قاعدة الغواصات النووية الفرنسية. وقال مارل هناك إن الصناعات الدفاعية الفرنسية «يمكن أن تلعب دوراً رئيسياً في تحديث القوات الأسترالية»، مضيفاً أن بلاده «تدخل في مرحلة يتعين عليها أن تزيد خلالها ميزانيتها العسكرية وتحديث أسلحتها، ونحن واثقون من أن صناعة الأسلحة الفرنسية ستلعب في هذا السياق دوراً رئيسياً». كذلك عبر الوزير الأسترالي عن سعادته بـ«الدفء» الذي عاد إلى العلاقات الفرنسية-الأسترالية. وكان رد الوزير الفرنسي أن باريس «تضع قاعدتها الصناعية بتصرف الحكومة الأسترالية».
هل سيعني ذلك إعادة الحياة إلى «عقد القرن» أو إبرام عقد جديد أقل طموحاً؟ السؤال مطروح والإجابة عنه رهن القابل من الأيام.
شهر عسل بين فرنسا وأستراليا بعد فترة الطلاق
ماكرون يعرض مجدداً تزويد كانبيرا بغواصات فرنسية
شهر عسل بين فرنسا وأستراليا بعد فترة الطلاق
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة