المعارك الأدبية وحيوية الاختلاف

تشكل جزءاً من النسيج العام للثقافة التي لا تعرف الثبات أو الجمود (1 - 2)

لويس عوض - توفيق الحكيم - محمود شاكر - طه حسين
لويس عوض - توفيق الحكيم - محمود شاكر - طه حسين
TT

المعارك الأدبية وحيوية الاختلاف

لويس عوض - توفيق الحكيم - محمود شاكر - طه حسين
لويس عوض - توفيق الحكيم - محمود شاكر - طه حسين

تعد المعارك الأدبية الحقيقية نموذجاً دالاً على حيوية الجماعة الثقافية من جهة، وقدرة الثقافة ذاتها على استيعاب مساحات أشد من التعدد، والاختلاف من جهة ثانية.
وربما مرت المعارك الأدبية بأطوار متعددة، أبرزتها السجالات الأدبية والفكرية الممتدة في ثقافتنا العربية منذ أواخر القرن التاسع عشر وصولاً إلى اللحظة الراهنة، عبر تحولات في الكيفية، وعِظم المعارك وهوانها، بل وآلياتها المستخدمة.
ويمكن أن نتعاطى مع المعارك الأدبية بوصفها جزءاً من النسيج العام للثقافة التي لا تعرف الثبات، أو الجمود، أو التصورات الأحادية صوب العالم، والواقع والأشياء، ولذا ليس بغريب في هذا السياق أن تصبح قضايا من قبيل الصراع بين القديم والجديد، الأصالة والمعاصرة، التراث والحداثة مجلى لهذه المعارك، وعناوين أكثر موضوعية في التعبير عن جوهر بعضها، حيث تصبح المعارك الفكرية هنا علامة على انحيازات رؤيوية بالأساس، ومن ثم جمالية أيضاً.
وليست المعارك الأدبية حكراً على أمة دون غيرها، أو صنواً لثقافة عدا الأخرى، فقد شهد الأدب العالمي معارك عديدة، كان من أبرزها المعركة التي دارت بين مذهبين أدبيين رئيسين في العصر الحديث، وهما الكلاسيكية والرومانسية، حيث سعت الرومانسية إلى خلخلة البنى المركزية التي تنهض عليها الكلاسيكية، من قبيل إيلاء العقل الأهمية القصوى، وإغفال الوجدان، والانطلاق من فكرة المحاكاة للعالم الخارجي، وتجاهل المشاعر الذاتية للإنسان الفرد، حيث كانت الكلاسيكية نظامية صارمة للغاية، بينما كانت الرومانسية مثالية النزعة، وجدانية الطابع، تتجه صوب الداخل الثري للإنسان، وحينما أتت الواقعية مثلاً نحت باللائمة على أولئك الرومانسيين الذين لا يسعهم سوى الغناء لهذا العالم ألماً! وبدت الواقعية منصرفة إلى الواقع المعيش، ومع حلقاتها المتباينة (الواقعية النقدية/ الواقعية الاشتراكية/ الواقعية السحرية)، وغيرها، مثلت ثورة عنيفة على التيارات الأدبية التي سبقتها، وهكذا يمكن النفاذ إلى جوهر المذاهب الأدبية الأخرى لنجد هذه الروح الشاكة والناقدة لما سبق لها، ومن الحتمي هنا أن نشير إلى طبيعة الذهنية الأوروبية التي ترى العالم نسبياً، متغيراً، ومن ثم فالتجديد سمة مركزية، والتجاور وليس الصراع علامة على ذهنية منفتحة باستمرار.
لكن هل يمكن التأصيل لمنحى المعارك الأدبية في تراثنا العربي، وهل ثمة مرتكزات داخله حملت هذه الروح الولود المتجددة؟ يمكن في هذا المسار أن نشير ولو من بعيد إلى الصراع الفني الذي دار بين أنصار البحتري وأنصار أبي تمام على سبيل المثال، هذا الصراع الذي دعا ناقداً مثل الآمدي في كتابه «الموازنة» إلى الاشتباك معه، وإن بدأ الآمدي في جوهر كتابه وبنيته العميقة منتصراً للقديم بوصفه تماهياً مع عمود الشعر العربي آنذاك.
ولا يمكن أن تفوتنا المعارك الشعرية التي اتخذت في غالبها وجهة الهجاء بين جرير والفرزدق، وما قاله مالك بن الأخطل في تبيان المباعدة الفنية بين شعريهما بقوله «الفرزدق ينحت من صخر، وجرير يغرف من بحر».
ويمكن أن نحيل في هذا المسار أيضاً، ولكن وفق وجهة مغايرة، إلى ما طرحه القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني في كتابه «الوساطة بين المتنبي وخصومه».
وفي العصر الحديث بدأت المعارك الأدبية منذ أواخر القرن التاسع عشر تقريباً، بدأت متسربلة بحيز اللغة، وإطارها الصلب، وكان من الطبيعي أن تبدأ هذه المعركة في ميدان المسرح، الذي يتجه إلى المتلقي العام، وقد باعدت السبل بينه وبين الفصحى، وفي سياق فن جماهيري بالأساس، يتوجه في طابعه الكلي إلى متلق غير نوعي، كانت مسرحيات مارون النقاش تدير حواراتها الدرامية بالعامية، وبما أفضى إلى ممانعة ورفض من قبل البعض، وإذا كان المسرح بحكم طبيعة تلقيه وإعداده وتنفيذه قد خاض غمار المعركة بداية، فإن إشكالية الفصحى والعامية قد اتسع صداها في السرد أكثر، وتحديداً عبر الاتهام الصارخ المبكر نسبياً الذي رمى به الأديب عيسى عبيد القاص محمد تيمور، حين استعمل اللغة المحكية في نصوصه القصصية، ووصف عبيد الكتابة بالعامية بالفكرة «المتطرفة الخطرة»، وفق ما أورده الأديب يوسف الشاروني في مؤلفه «لغة الحوار بين العامية والفصحى في حركات التأليف والنقد في أدبنا الحديث».
ولم تكن معارك الفصحى والعامية كتلة واحدة، بل حوت تنويعات متعددة داخلها، انتقلت فيها من حيز التجريم لاستخدام العامية في الأدب، والاتهامات التي أخذت صيغاً دينية وقومية، من قبيل العداء للغة القرآن الكريم، ومحو العربية، وظلت هذه الاتهامات متداولة بين أوساط النخب، ومثلت سردية جاهزة يمكن أن تراها في الهجمة الشرسة التي طالت سلامة موسى وعبد العزيز فهمي؛ ومن بعدهما لويس عوض.
إن الاستقصاء التاريخي للمعارك الأدبية، ومن أبرزها معركة الفصحى والعامية ليس هاجساً لنا هنا، وإنما نسعى إلى تفكيك ما جرى، وفهمه على نحو دقيق، وإبداء بعض الملاحظات الموضوعية التي تعيننا على فهم طبائع الأشياء، وتحولاتها في الآن نفسه، ومن ثم سنرى ثمة حضوراً متزايداً للبعض في هذه المعركة تحديداً، ونخص بالذكر الشيخ المحقق محمود شاكر الذي انطلق من تصورات ماضوية، تماهت فيها اللغة مع المقدس، وأصبح التخلي عنها من وجهة نظره حرباً على العقيدة ذاتها، وقد قدم الشيخ دفاعاً رصيناً في معظمه عن اللغة العربية، لكن فاته أنماط التطور الدلالي التي تمر بها أي لغة من اللغات، فاللغة كائن حي، تنمو بالممارسة اللغوية، ومن ثم فهي قرينة التحولات السياسية والثقافية، وليست إطاراً جامداً على الإطلاق. وقد تعددت معارك الشيخ شاكر في هذا السياق، ولعل من أبرز معاركه ما كتبه معقباً على دعوة عبد العزيز باشا فهمي بشأن كتابة اللغة العربية بالحروف اللاتينية، وهي دعوة خرقاء لا محل لها من الممارسة الاجتماعية قبل التعبير اللغوي ذاته. وقد دعا سلامة موسى إلى ما سماه «التسوية» في سياق تصوره للتقريب بين الفصحى والعامية، وهذا ما أغضب الشيخ شاكر، وجعل من موسى محلاً دائماً للهجوم.
وبعد أن أصدر سلامة موسى كتابه «البلاغة العصرية واللغة العربية» الذي دعا فيه إلى استخدام الأسلوب التلغرافي بدلاً من الأسلوب البياني، وإلى كتابة الحروف العربية باللغة اللاتينية، وصف عباس العقاد، موسى، في مقال مقذع بأنه «يكتب ليحقد، ويحقد ليكتب».
وربما كانت المعركة الأكثر اشتعالاً في هذا المسار تلك التي كانت بين الشيخ شاكر والدكتور لويس عوض، وقد عاد كل منهما إليها في فترات مختلفة من حياته، ومن ثم في مقالاته وكتبه، ويمكن أن نشير هنا إلى كتاب محمود شاكر «أباطيل وأسمار» الذي دعا فيه لويس عرض بـ«أجاكس عوض»، اتكاء على شخصية أجاكس شديد البطش والبأس، محدود العقل والحكمة في ملحمة هوميروس، وهو ما رد عليه لويس عوض حين أطلق على الشيخ شاكر اسم «مجاهد بن الشماخ»، نسبة إلى الشماخ الشاعر العربي القديم، وحصراً لشاكر في منطقة لا يفارقها ولا يجيد في غيرها.
إن هذه التباينات جميعها لا تكشف فحسب عن محض اختلافات لغوية، وإنما تكشف عن رؤى مغايرة للعالم، حيث يرى كل كاتب من الكتاب الثلاثة (شاكر، وموسى، وعوض) الأمر من زاويته الفكرية، والمعيب حقاً كانت الاتهامات الظاهرة والمضمرة التي طالت سلامة موسى ولويس عوض، وحمل موقفهما على الوجهة الدينية.
ورأينا دعوات متعددة، تسعى إلى مجاوزة الخلافات التي يشتد أوارها بين الحين والآخر، ومن اللافت أن هذه الدعوات العملية خرجت من رحم الفن ذاته، وكان من أبرزها ما طرحه توفيق الحكيم بشأن استخدام لغة وسيطة، سماها «اللغة الثالثة»، وقد رأيناها في مسرحيته «الصفقة» على سبيل المثال، ويمكن أن ننظر إلى ما طرحه توفيق الحكيم بوصفه حلاً فنياً بالأساس، لا ينفصل عن تصوراته الجمالية المغايرة عن السائد والمطروق أيام صدور روايته المؤسسة لما يمكن تسميته فيما بعد «رواية الذات»، وأعني رواية «يوميات نائب في الأرياف».
وفي الخمسينات والستينات من القرن الماضي أخذت معركة الفصحى والعامية ظلالاً فنية أكثر نضجاً في التعاطي معها، تتصل بالأساس بالعلاقة بين وعي الشخصية الروائية والخطاب الذي تطرحه، وقد انحاز مثلاً يوسف إدريس إلى العامية في حواراته انحيازاً كلياً، خالقاً من خلالها الإيهام بواقعية الحدث القصصي أو الروائي، في مقابل كثيرين آثروا كتابة الحوار بالفصحى، وآخرين سعوا إلى تشكيل منطق جمالي حاكم للغة الحوار، على غرار ما صنعه نجيب محفوظ في كتابة حواراته بالفصحى الخاضعة لمنطق اللهجة العامية، وكان هذا خياراً جمالياً مركباً يتبناه محفوظ، وعسيراً في الوقت نفسه.
وقد أصدر الروائي يوسف القعيد روايته «لبن العصفور» بالعامية المصرية في التسعينات من القرن الماضي، وقد أثارت جدلاً، أعاد إلى الأذهان الجدل الذي شهدته صدور رواية «قنطرة الذي كفر» المكتوبة بالعامية أيضاً للدكتور مصطفى مشرفة في فترة الستينات.
ومن اللافت أيضاً تواتر معارك الفصحى والعامية في الفضاء الثقافي العربي حتى اللحظة الراهنة، ففي عام 2020 فازت الكاتبة التونسية فاتن الفازع بجائزة علي الياجي عن روايتها «شرع الحب» المكتوبة بالدارجة التونسية، وقد حمل هذا الإعلان صخباً أثاره عديدون، وبما أعاد للواجهة من جديد تلك القضية القديمة/ المتجددة في الآن نفسه.
ثمة معارك أدبية، اتسمت بتغليب الموضوعية، وسلكت مساراً تقنياً بالأساس، من قبيل الانتقادات الفنية التي وجهها طه حسين لثلاث من القصائد الشعرية التي جعلت من مناسبة صدور ترجمة كتاب «الأخلاق» لأرسطو على يد أحمد لطفي السيد موضوعاً لها.
كان أحمد لطفي السيد مفكراً تنويرياً بامتياز، وكان أستاذاً وصديقاً وداعماً لطه حسين باستمرار، إلا أن ذلك لم يحُل دون أن يُقرع طه حسين مادحي ترجمة أحمد لطفي السيد لكتاب أرسطو الشهير «الأخلاق»، حيث خاض طه حسين غمار معركة موضوعية مع ثلاثة من الشعراء الكبار، وهم أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، وأحمد نسيم، الذين سطروا القصائد في امتداح الترجمة، وامتداح الكتاب الذي لم يقرأوا نصه الأصلي الذي كتبه أرسطو، وقد أثبت طه حسين ما أورده بشأن هذه المعركة في الجزء الثالث من «حديث الأربعاء»، وكان نقده حاملاً نزوعاً ساخراً عن أولئك الذين وظفوا قريحتهم الشعرية فيما لا يعلمون! وكان طه حسين قد كتب في أكثر من موضع عن هذا الكتاب، وأوفاه حقه متناً أصلياً لأرسطو، وترجمة دقيقة نافذة للمعلم لطفي السيد.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

«لون لا يموت»... معرض يستحضر الأساطير الشعبية في الريف المصري

إحدى لوحات المعرض (الشرق الأوسط)
إحدى لوحات المعرض (الشرق الأوسط)
TT

«لون لا يموت»... معرض يستحضر الأساطير الشعبية في الريف المصري

إحدى لوحات المعرض (الشرق الأوسط)
إحدى لوحات المعرض (الشرق الأوسط)

عبر أكثر من 100 لوحة في فن الجرافيك والرسم بالأبيض والأسود، وكذلك الأعمال الملونة التي ترصد تفاصيل الحياة الشعبية بالشارع المصري، استضاف متحف محمود مختار بالجزيرة (وسط القاهرة)، معرضاً استعاديّاً للفنان الراحل وحيد البلقاسي، الملقب بـ«شيخ الحفارين»، تضمن رصداً لأعماله وجانباً كبيراً من مسيرته الفنية.

المعرض الذي انطلق 18 ديسمبر (كانون الأول) الحالي ويستمر حتى 28 من الشهر نفسه في قاعتي «نهضة مصر» و«إيزيس» رصد مراحل فنية متنوعة للفنان الراحل، وبرزت خلاله فكرة الأسطورة الشعبية من خلال رموز بعينها رسمها ضمن اللوحات، مثل: العين الحارسة، والأجواء الأسطورية، للحكايات التي تتضمنها القرية المصرية.

وبينما تضمنت إحدى القاعات الأعمال الملونة والغرافيك المميز الذي قدمه الفنان وحيد البلقاسي، والتي تعبر عن الأسرة المصرية بكل ما تمثله من دفء وحميمية، كذلك ما يبدو فيها من ملامح غرائبية مثل القصص والحكايات الأسطورية التي يتغذى عليها الخيال الشعبي.

البورتريه الملون من أعمال الفنان وحيد البلقاسي (الشرق الأوسط)

ولد وحيد البلقاسي في محافظة كفر الشيخ (دلتا مصر) عام 1962، وتخرج في كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية، قسم الغرافيك عام 1986، واشتهر بأعماله في فن الغرافيك، وله عشرات المعارض الفردية والجماعية، كما أسس جماعة فنية باسم «بصمات»، وكان لها دور فاعل في الحياة الفنية عبر معارض وفعاليات متنوعة.

يقول عمار وحيد البلقاسي، منسق المعرض، نجل الفنان الراحل، إن المعرض يمثل تجربة مهمة لشيخ الحفارين وحيد البلقاسي، مضيفاً لـ«الشرق الأوسط» أن «اختيار اسم المعرض للتأكيد على أن أعمال الفنان لا تموت وتظل خالدة للأبد، تحمل اسمه وتحيي أعماله الفنية»، وتابع: «قبل وفاة الفنان عام 2022 كان يتمنى أن يعرض هذه المجموعة المتنوعة من أعماله الفنية، بما فيها الحفر على الخشب في دار الأوبرا المصرية، واستطعنا أن نعرض من مجموعته 100 عمل فني تصوير، من بينها 30 عملاً فنياً بطول مترين وعرض 170 سنتمتراً، بالإضافة إلى مجموعة من الأعمال الصغيرة».

وأشار إلى أن الأعمال في مجملها ترصد القرية والحياة الريفية بمصر، وتتضمن موتيفات ورموزاً شعبية كثيرة تدل على الأصالة وعشقه للقرية والحياة الشعبية بكل ما تتضمنه من سحر وجمال.

ويصف الإعلامي المصري والفنان طارق عبد الفتاح معرض «لون لا يموت» بأنه «يعبر عن مسيرة الفنان وحيد البلقاسي»، مضيفاً لـ«الشرق الأوسط»: «أعدُّ الفنان الراحل فناناً عالمياً؛ لأنه جمع بين الإغراق في المحلية ومفردات التراث في لوحاته، واللوحات التي تنطق بالتعبيرية وتمثل الروح المصرية الأصيلة، واستخدم الأبيض والأسود في أغلب أعماله، لكن له مجموعة أعمال بالألوان مبهرة، ويظهر في أعماله مدى اهتمامه بالجمال والاحتفاء بالمرأة وبالمفردات الشعبية وتفاصيل القرية المصرية».

الفنان الراحل وحيد البلقاسي (الشرق الأوسط)

وتابع عبد الفتاح: «لوحات المعرض سواء الكبيرة، التي يصل ارتفاعها إلى مترين، أو الصغيرة، فيها طاقة تعبيرية تبهر المتلقي الذي ينجذب فوراً للتفاصيل الموجودة بها».

وإلى جانب أعماله الفنية المتميزة، فقد شارك وحيد البلقاسي في الحركة التشكيلية عبر أنشطة عدّة، وأُنتج فيلم تسجيلي عن مسيرته الفنية بعنوان «شيخ الحفارين»، من تأليف علي عفيفي، وإخراج علاء منصور، سجل رحلته الفنية وعلاقته بالقرية والمفردات التي استقى منها فنه.


«روح ومحبة»... احتفالات مصرية بأعياد الميلاد في «متحف الحضارة»

أيقونات قبطية ضمن المعرض الأثري بمناسبة أعياد الميلاد (متحف الحضارة المصرية)
أيقونات قبطية ضمن المعرض الأثري بمناسبة أعياد الميلاد (متحف الحضارة المصرية)
TT

«روح ومحبة»... احتفالات مصرية بأعياد الميلاد في «متحف الحضارة»

أيقونات قبطية ضمن المعرض الأثري بمناسبة أعياد الميلاد (متحف الحضارة المصرية)
أيقونات قبطية ضمن المعرض الأثري بمناسبة أعياد الميلاد (متحف الحضارة المصرية)

تحت عنوان «روح ومحبة» أطلق المتحف القومي للحضارة المصرية احتفالية بمناسبة رأس السنة الميلادية وأعياد الميلاد المجيد، تضمّنت معرضاً أثرياً مؤقتاً يستمر لمدة شهرَين بالتعاون مع المتحف القبطي في القاهرة.

ورأى الرئيس التنفيذي للمتحف القومي للحضارة المصرية، الدكتور الطيب عباس، أن تنظيم هذا المعرض يأتي في إطار الدور الثقافي والمجتمعي الذي يضطلع به المتحف، مشيراً في بيان للمتحف، الجمعة، إلى أن رسالة المتحف لا تقتصر على عرض القطع الأثرية فحسب، بل تمتد إلى إبراز القيم الإنسانية والروحية التي أسهمت في تشكيل الهوية الحضارية لمصر عبر العصور. وأكد أن المعرض يعكس رسالة مصر التاريخية بوصفها حاضنة للتنوع الديني والثقافي، ومركزاً للتسامح والتعايش.

وافتُتح المتحف القومي للحضارة المصرية عام 2021 بالتزامن مع احتفالية «موكب المومياوات»، حيث نُقلت «المومياوات الملكية» من المتحف المصري بالتحرير إلى المتحف القومي للحضارة بالفسطاط، ويضم المتحف 1600 قطعة أثرية تحكي تاريخ مصر عبر العصور.

ويضم المعرض الأثري المؤقت مجموعة متميزة ونادرة من روائع الفن القبطي تُعرض لأول مرة، تشمل أيقونات ومخطوطات قبطية ومشغولات فنية كانت تُستخدم في الأديرة والكنائس، من أبرزها أيقونة لميلاد السيدة العذراء، ومنظر حجري يُجسّدها وهي تُرضع السيد المسيح، بما يعكس ثراء هذا التراث وقيمته الفنية والرمزية، وفق تصريحات للدكتورة نشوى جابر، نائبة الرئيس التنفيذي للمتحف القومي للحضارة المصرية.

وقالت، في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»، إن «المعرض الأثري جاء بالتعاون مع المتحف القبطي، وهي المرة الثانية التي يتعاون فيها المتحف مع آخر، حيث تم التعاون من قبل مع المتحف الإسلامي خلال احتفالات المولد النبوي الشريف».

جانب من معرض أثري مؤقت بمناسبة أعياد الميلاد (متحف الحضارة المصرية)

وأكدت أن «القطع المعروضة فريدة من نوعها فلم تُعرض من قبل، ومن بينها 15 قطعة من المتحف القبطي، و8 قطع من متحف الحضارة، تعود إلى القرون الميلادية الأولى»، وأهم القطع التي تضمنها المعرض وفق نائب الرئيس التنفيذي للمتحف «أيقونة ميلاد السيدة العذراء نفسها، فالشائع والمنتشر هي أيقونات ميلاد السيد المسيح عليه السلام، ولكن من النادر وجود لوحة أيقونية تصور ميلاد السيدة العذراء. كما توجد قطعة حجرية منقوش عليها رسم للسيدة العذراء والسيد المسيح، وتُعدّ امتداداً للفن المصري القديم الذي كان يجسّد في لوحات مشابهة لإيزيس وهي تُرضع الطفل حورس».

من جانبه، أكد رئيس قطاع المتاحف في وزارة الآثار المصرية، الدكتور أحمد حميدة، أن «المعرض يُجسّد نموذجاً للتعاون المثمر بين المؤسسات الثقافية»، مشيراً إلى أن «اختيار السيدة العذراء مريم محوراً للمعرض يحمل دلالات إنسانية وروحية عميقة».

بينما أشارت مديرة المتحف القبطي، جيهان عاطف، إلى أن المعرض يُبرز تكامل الجهود بين المؤسسات الثقافية، لإظهار ثراء الموروث الحضاري المصري وتعدد روافده عبر مختلف الحقب التاريخية.

وحسب بيان للمتحف القومي للحضارة، تضمّنت الفعاليات الاحتفالية الكثير من الأنشطة، من بينها معرض للتصوير الفوتوغرافي، تضمن 22 صورة فوتوغرافية لاحتفالات عيد الميلاد ورأس السنة الميلادية في مصر، وهو ما عدّته نائبة رئيس المتحف «ضمن خطة للربط بين الاحتفالات والأعياد الكبرى من جهة عرض القطع الأثرية التي تعبّر عنها، وكذلك توثيق مظاهرها الحديثة والمعاصرة وحضور هذه الأعياد ومظاهرها في الشارع المصري المعاصر للربط بين التاريخ والحاضر».

وشهدت الاحتفالية فعاليات فنية، مثل عروض لفرقة كورال «أغابي» التي قدمت مجموعة من الأغاني القبطية احتفاء بقيم المحبة والسلام، إلى جانب عروض لكورال الأناشيد بالتعاون مع كنيسة القديس بولس الرسول بمدينة العبور.

وتضمنت الاحتفالية أيضاً أنشطة تفاعلية متنوعة لتنفيذ أعمال فنية ورسم حي لأيقونات المعرض، وممارسة ألعاب تفاعلية، وتوزيع هدايا الميلاد.


شارع فيكتوري تحت بريستول… أسرار التاريخ تحت أقدامنا

يضم الشارع المدفون محالاً تجارية وطريقاً قديماً (إنستغرام)
يضم الشارع المدفون محالاً تجارية وطريقاً قديماً (إنستغرام)
TT

شارع فيكتوري تحت بريستول… أسرار التاريخ تحت أقدامنا

يضم الشارع المدفون محالاً تجارية وطريقاً قديماً (إنستغرام)
يضم الشارع المدفون محالاً تجارية وطريقاً قديماً (إنستغرام)

كشفت مغامرة تاريخية جريئة عن وجود شارع فيكتوري كامل مدفون تحت إحدى المدن البريطانية، يضم محالاً تجارية وطريقاً قديماً، بعد أن قرر المؤرخ ديفيد ستيفنسون النزول إلى الأعماق لتوثيق ما عثر عليه بعدسته ومصباحه اليدوي.

على مدى سنوات، أثار الشارع الواقع أسفل منطقة «لورانس هيل» في مدينة بريستول قصصاً وشائعات عدّة، من بينها رواية عن رجل يُقال إنه سقط في حفرة بعد خروجه من إحدى الحانات ليجد نفسه فجأة في شارع «متجمد في الزمن». كما تحدثت الروايات عن بقايا واجهات محال قديمة ومصابيح غاز تعود للقرن الـ19، دون أن تتأكد صحتها.

ساعات طويلة من البحث كشفت عن زقاق يمتد تحت الأرض (إنستغرام)

لكن ستيفنسون تمكن من وضع حد للتكهنات، وعاد بمجموعة مذهلة من الصور التي أعادت إحياء ماضٍ ظل طي النسيان لعقود. ساعات طويلة من البحث كشفت عن زقاق يمتد تحت الأرض، يضم أقبية سرية وغرفاً مخفية، بينها ملهى ليلي تحت حانة «ذا باكهورس»، ومخزن استخدمه متعهدو دفن الموتى، وإسطبل قديم تابع لشركة «كو - أوب»، وموقع استُخدم ملجأً خلال الغارات الجوية في الحرب العالمية الثانية، بحسب صحيفة «ذا ميرور».

كما اكتشف ستيفنسون نفقاً تحت أحد المصارف أُغلق بعد محاولة اقتحام، وتعود أجزاء من هذه الممرات لأكثر من قرنين، إلى فترة إدارة عائلة هيراباث لمصنع الجعة المرتبط بحانة «ذا باكهورس إن»، الذي امتد من شارع «لينكولن» حتى شارع «داك ستريت».

في عام 1832، مر خط سكة حديد تجره الخيول عبر لورانس هيل، ومع توسع السكك الحديدية البخارية لاحقاً، طُمرت الحانة والمحلات المجاورة تحت الأرض بعد تشييد أقواس جديدة لدعم الطريق. باع ويليام هيراباث معظم ممتلكاته لشركة سكة الحديد مقابل 3 آلاف جنيه إسترليني، وبحلول عام 1879، رُفع مستوى الطريق واستُبدل الجسر الخشبي، ما أدى إلى اختفاء الحانة القديمة والمحلات تحت الطريق الجديد، في حين بُنيت الحانة الحالية مباشرة فوقها مع الاحتفاظ بالسلالم المؤدية إلى الموقع الأصلي.

بعد أكثر من عقدين، تذكَّر ستيفنسون مغامرته حين رفع شبكة حديدية وأنزل سلماً داخل بئر ليصل إلى الشارع المدفون. واكتشف 4 أنفاق، كان أحدها فقط ممتداً عبر الشارع بالكامل، وأُغلقت الأخرى بالطوب لمنع السرقة.

في أحد المتاجر المدفونة، عثر ستيفنسون على إطار نافذة فيكتورية قديمة، وأنقاض بناء، وأغراض متفرقة مثل حوض للخيول وكرسي متحرك مهجور. ولم تُشاهد أعمدة الإنارة خلال رحلته، إذ أُزيلت في خمسينات القرن الماضي حسب أحد تجار الخردة.

إحياءُ ماضٍ ظل طي النسيان لعقود (إنستغرام)

اليوم، أُغلقت هذه الأنفاق نهائياً نظراً لخطورتها، لكن ستيفنسون سبق أن انضم إلى بعثة منظمة لاستكشاف الغرف الواقعة أسفل الحانة، برفقة فريق متسلقين ذوي خبرة. ويستعيد ذكرياته قائلاً: «كانت خيوط العنكبوت كثيفة، والمدفأة لا تزال مغطاة بالغبار، وعارض فولاذي ضخم محفور عليه حروف (GWR) لتدعيم المبنى».

ويضيف: «الطريق أعلاه بُني أساساً للخيول والعربات. ورغم حركة المرور الكثيفة اليوم، بما في ذلك مئات الحافلات والشاحنات الثقيلة، لا يزال الطريق صامداً، ولا يدري كثيرون ما الذي يرقد تحت أقدامهم».