مهرجان القاهرة السينمائي المستمر بروح الصبر والمثابرة

ينطلق غدا في دورته الـ44

فيلم «بعيداً عن النيل»
فيلم «بعيداً عن النيل»
TT

مهرجان القاهرة السينمائي المستمر بروح الصبر والمثابرة

فيلم «بعيداً عن النيل»
فيلم «بعيداً عن النيل»

هناك أمر يستدعي الاحترام المطلق بالنسبة لمهرجان القاهرة السينمائي، وهو الإصرار على المثابرة لتنظيم دوراته في أوقاتها ومع مجموع أفلامها وبحضور ضيوفها.
هذا ليس أمراً سهلاً على مهرجان ربما يملك ما يصل بالكاد إلى نصف ميزانية مهرجان مراكش مثلاً، أو ثلث مهرجان من تلك الثلاثة التي تقود هذه المحافل، وهي بحسب تواريخ إقامتها، برلين وكان وڤنيسيا.
وليس أمراً سهلاً حين تتغير الإدارات على نحو متوالٍ فتنتقل، في غضون عشرين سنة، من رئيس إلى آخر من دون أن يستمر بعضهم لأكثر من عام واحد. ومع كل تغيير في القمّة تتحدر مجموعة تغييرات إدارية بعضها غير ملحوظ، وتبقى أخرى لا بد من بقائها لسبب أو لآخر.
عبر تاريخه الذي يمتد من منتصف السبعينات وإلى اليوم، صاحب الإصرار على أن يكون للعاصمة المصرية مهرجانها السينمائي الكبير والدولي. كلتا الصفتين (كبير ودولي) تحتويان على مصاعب عديدة مرّ بها المهرجان العريق في العديد من الدورات السابقة، ويأمل هذا العام في تحقيق انطلاقة جديدة تنتمي إلى أيام المهرجان في أفضل سنواته.

فيلم المسابقة المصري «19 ب»

- فيلم مصري وحيد
الدورة الرابعة والأربعون التي تنطلق اليوم، في الثاني عشر من الشهر الحالي، وتستمر حتى الثالث والعشرين منه، زاخرة بالأفلام المنتقاة بعناية. هذا ليس غريباً لكون المدير الفني للمهرجان، المخرج أمير رمسيس، يمتلك عيناً لاقطة وتجربة لافتة من خلال عمله لسنوات في مهرجان الجونة بالقرب من مديره الفني انتشال التميمي.
ليس غريباً كذلك حقيقة أن رئيس المهرجان بدءاً من هذه الدورة هو حسين فهمي، أحد كلاسيكيي السينما العربية بخبرات مختلفة تمتد لخمسة عقود. كأي مدير في أي مهرجان تُسند إليه مهمّة إدارته، سعى حسين فهمي منذ توليه الثاني (الأول كان في أواخر القرن الماضي) لإنجاز دورة جديدة تلد جديداً ونتائج فنية وإدارية أفضل من السنوات السابقة.
نتائج هذا المسعى لا يمكن الحكم عليها لا اليوم ولا في الغد، بل مع اقتراب نهاية الدورة وما بعدها، لكن بالحكم على الأفلام المشتركة فإن الجهد المبذول في هذا الشأن ملحوظ، باستثناء أن مصر غائبة عن المسابقة الرئيسية، إلا من خلال فيلم واحد.
الفيلم هو «19 ب»، فيلم جديد للمخرج أحمد عبد الله الذي سبق أن خص دورات سابقة من مهرجان القاهرة ببعض أفلامه، ومنها «ديكور» (2014) و«خارجي/ ليلي» (2018). فيلمه الجديد يدور حول حارس فيلا تحمل رقم «19 ب»، يواجه عداوة أحد أبناء الحي. من المتوقع أن يعلّق المخرج على التباين في الأزمنة، وبين الأجيال والبيئة الحاضنة لحياة معاصرة لرجل من خارج هذا العصر.
وكان المهرجان ردّ، خلال المؤتمر الصحافي الذي انعقد في أواسط الشهر الماضي، على السؤال حول السبب الذي تغيب فيه السينما المصرية عن الحضور.
هذا الأمر ليس لغزاً، ورئيس المهرجان أجاب عن هذا السؤال بالقول إنه كان يأمل أن يجد بين ما هو جديد أعمالاً أخرى تليق بمهرجان القاهرة، لكنه لم يرَ ما يستحق ضمّه إلى المسابقة من بين ما شاهده. هذا الوضع في الواقع هو نتيجة استمرار السينما المصرية (ممثلة في منتجيها) بتمويل أفلام تحمل الهوية المصرية، وليس النبوغ المصري.
هناك مخرجون ممتازون لا يعملون، والعاملون هم مستنسخون لأعمال هوليوودية في مجالي الكوميديا والأكشن غالباً. كيف يمكن أن تحقق فيلم أكشن ذا قدرة على طرح ما يُثير اهتماماً اجتماعياً وبأسلوب فني متميّز؟
الجواب كان دائما حاضراً في سينما جيل الثمانينات، والمخرج الراحل محمد خان نجح في هذا المزج الثلاثي أكثر من مرّة. بؤرة اهتمامه كانت أرض الواقع الاجتماعي وسماء الشخصيات الحالمة بالخروج من أزماتها الشخصية.
اليوم، هناك مخرجون مصريون مُغيّبون؛ لأنه لا أحد يريد الاستثمار في السينما الفنية، ولو أنها هي من ترفع اسم البلد عالياً في المحافل الفنية. من بين هؤلاء تامر السعيد («آخر أيام المدينة»)، ومحمد حمّاد («أخضر يابس»)، وهالة القوصي («زهرة الصبّار»)، وكريم حنفي («باب الوداع»)... ألم يؤدِ ذلك إلى قرار داود عبد السيد الاعتزال عن العمل السينمائي؟

مشهد من فيلم «بِركة العروس»

- مقارنات
بمثل هذا الوضع كيف يمكن للسينما المصرية أن تشارك فعلياً في مهرجان القاهرة أو في أي مهرجان آخر؟ صحيح أن هناك أفلاماً منفردة تُعرض هنا وهناك، ولو على نحو ما يتيسّر من أعمال متباعدة، لكن هذا، بطبيعة الواقع، لا يكفي.
الحال ذاتها لأكثر من سينما عربية، ويتجلى ذلك باختيارات محدودة في شتّى أقسام مهرجان القاهرة، كما كان الحال بالنسبة لمهرجان أيام قرطاج السينمائية الذي بدأ وانتهى في مطلع هذا الشهر من دون كثير ضجة.
في المقابل، يحتوي مهرجان «البحر الأحمر الدولي» الذي سينطلق مع أول يوم من الشهر المقبل، على سبعة أفلام سعودية روائية طويلة تم إنجازها في غضون الأشهر الاثني عشر الماضية. هذا تم بسبب الرعاية الرسمية والتوجه الجديد على الأصعدة كافة، بما في ذلك صعيدا الفن والثقافة للمملكة، وبسبب نظرة شاملة لكيف يمكن لصناعة الفيلم السعودي أن تتقدّم في المجالات كافة (عروض، وتصوير أفلام أجنبية، ومهرجانات، وتحقيق أفلام سعودية) في وقت واحد.
طبعاً، المقارنة بين مهرجاني القاهرة والبحر الأحمر ليست نموذجية لأسباب مختلفة. الوضع الاقتصادي المصري يختلف، والميزانية التي يعمل مهرجان القاهرة بمقتضاها تنجز - في حدودها - أقصى ما تستطيعه، لكن المقارنة تصح أكثر عندما ننظر إلى ما يستطيع كل مهرجان توفيره من أفلام محلية، فنجد أن السينما المصرية، بتاريخها العريق، واقعة تحت براثن منتجين يعاملونها كبضاعة استهلاكية فقط، مع غياب نظام شامل لتقدّم هذه السينما لتواكب العصر الذي نحن فيه.
الأفلام العربية المعروضة في المسابقة الرسمية أربعة، وهي المصري «19 ب»، والسوداني/ اللبناني «السد» لعلي الشري (ويبدو أن التمويل الرئيسي لهذا الفيلم أتى من فرنسا)، والفيلم التونسي «جزيرة الغفران» للمخرج رضا الباهي، يجاوره فيلم آخر من تونس (تحت أعلام السعودية وفلسطين وفرنسا أيضاً) هو «علَم» لفراس خوري.
لا توجد أفلام عربية مطلقاً في برنامج «عروض رسمية خارج المسابقة»، ولا في برنامج «العروض الخاصة»، وهناك فيلم واحد من مصر في تظاهرة «أسبوع النقاد» (إلى جانب ستة أفلام أخرى).
ما يتوفر من أفلام عربية تحتشد في التظاهرة المهمّة، عاماً بعد عام، «آفاق السينما العربية» التي تعرض هذه السنة ثمانية أفلام تتنافس لنيل جائزة هذه التظاهرة الخاصّة؛ هذه الأفلام هي «بعيداً عن النيل» لشريف القطشة (مصر، والولايات المتحدة)، و«رحلة يوسف» لجود سعيد (سوريا)، و«جلال الدين» لحسن بنجلون (المغرب)، و«العايلة» لمرزاق علواش (الجزائر)، و«أرض الوهم» لكارلوس شاهين (لبنان، وفرنسا)، و«حورية» لمنيا ميدور (إنتاج فرنسي/ بلجيكي)، و«بِركة العروس» لباسم بريش (لبنان، وقطر)، و«نرجعلك» لياسين الرديسي (تونس).

فيلم «علَم» لفراس خوري

- اختيارات كلاسيكية
إلى كم تعكس هذه الاشتراكات وضع السينما العربية؟ أمر متروك لما بعد المشاهدة، لكن المرء لا يستطيع أن يغفل أن هذه التظاهرة، إلى جانب برنامج المسابقة الرئيسي، هما ما يستحوذان على الاهتمام الأكبر من قِبل الجمهور والنقاد على حد سواء.
كل هذه العروض تمضي في دار الأوبرا المصرية كما هي العادة، كذلك المحاضرة التي سيلقيها المخرج المجري بيلا تار حول الإخراج السينمائي، مع عرض فيلميه «ألحان مركمايستير» و«حصان تورينو» المشتركين في تظاهرة «كلاسيكيات القاهرة».
هذه التظاهرة هي ثروة للمعرفة يتم فيها عرض اثني عشر فيلماً، من بينها أربعة أفلام مصرية من سنوات خلت، وهي «أغنية على الممر» لعلي عبد الخالق، و«الاختيار» ليوسف شاهين، و«يوميات نائب في الأرياف» لتوفيق صالح، و«جنة الشياطين» لأسامة فوزي.


مقالات ذات صلة

«زوجة رجل مش مهم» يُعيد ياسمين عبد العزيز إلى السينما

يوميات الشرق ياسمين عبد العزيز في كواليس أحدث أفلامها «زوجة رجل مش مهم» (إنستغرام)

«زوجة رجل مش مهم» يُعيد ياسمين عبد العزيز إلى السينما

تعود الفنانة المصرية ياسمين عبد العزيز للسينما بعد غياب 6 سنوات عبر الفيلم الكوميدي «زوجة رجل مش مهم».

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق رئيسة «مؤسّسة البحر الأحمر السينمائي» جمانا الراشد فخورة بما يتحقّق (غيتي)

ختام استثنائي لـ«البحر الأحمر»... وفيولا ديفيس وبريانكا شوبرا مُكرَّمتان

يتطلّع مهرجان «البحر الأحمر السينمائي» لمواصلة رحلته في دعم الأصوات الإبداعية وإبراز المملكة وجهةً سينمائيةً عالميةً. بهذا الإصرار، ختم فعالياته.

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق الفيلم يتناول مخاطرة صحافيين بحياتهم لتغطية «سياسات المخدّرات» في المكسيك (الشرق الأوسط)

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

فاز الفيلم الوثائقي «حالة من الصمت» للمخرج سانتياغو مازا بالنسخة الثانية من جائزة «الشرق الوثائقية».

«الشرق الأوسط» (جدة)
سينما «من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬

8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

تُحرّك جوائز «الأوسكار» آمال العاملين في جوانب العمل السينمائي المختلفة، وتجذبهم إلى أمنية واحدة هي، صعود منصّة حفل «الأوسكار» وتسلُّم الجائزة

محمد رُضا‬ (سانتا باربرا - كاليفورنيا)
سينما «موعد مع بُل بوت» (سي د.ب)

شاشة الناقد: تضحيات صحافيين وانتهاكات انظمة

يأتي فيلم «موعد مع بُل بوت» في وقت تكشف فيه الأرقام سقوط أعداد كبيرة من الصحافيين والإعلاميين قتلى خلال تغطياتهم مناطق التوتر والقتال حول العالم.

محمد رُضا‬ (لندن)

كيف أنهى ماريسكا كوابيس تشيلسي في لمح البصر؟

المدرب الإيطالي يهنئ لاعبيه عقب إحدى الانتصارات (إ.ب.أ)
المدرب الإيطالي يهنئ لاعبيه عقب إحدى الانتصارات (إ.ب.أ)
TT

كيف أنهى ماريسكا كوابيس تشيلسي في لمح البصر؟

المدرب الإيطالي يهنئ لاعبيه عقب إحدى الانتصارات (إ.ب.أ)
المدرب الإيطالي يهنئ لاعبيه عقب إحدى الانتصارات (إ.ب.أ)

في 29 نوفمبر (تشرين الثاني) 2008، كان الإيطالي إنزو ماريسكا يلعب محور ارتكاز مع إشبيلية، عندما حل فريق برشلونة الرائع بقيادة المدير الفني جوسيب غوارديولا ضيفاً عليه. واتضح بعد ذلك أن هذه اللحظة كانت حاسمة في حياته المهنية، نظراً لأنها قلبت أفكار ماريسكا، البالغ من العمر 28 عاماً آنذاك، عن اللعبة رأساً على عقب. لقد مر أكثر من 8 سنوات قبل أن يحاول ماريسكا، بصفته مديراً فنياً شاباً، تطبيق ما شاهده في تلك الليلة التي حقق فيها برشلونة فوزاً سهلاً بثلاثية نظيفة، بينما قضى إشبيلية معظم فترات اللقاء وهو يحاول معرفة كيفية الحصول على الكرة!.

كان ماريسكا يعرف دائماً أنه يريد أن يكون مديراً فنياً، لكن الآن وبفضل غوارديولا وتلك الليلة في إشبيلية، أصبح يعرف بالضبط ما هي الفلسفة التي يريد اتباعها في عالم التدريب. والآن، يقود المدير الفني الإيطالي، تشيلسي لاحتلال المركز الثاني في جدول ترتيب الدوري الإنجليزي الممتاز بعد مرور 15 جولة.

لاعبو تشيلسي يحييون جماهيرهم عقب الفوز الأخير على أستانا الكازاخستاني (أ.ف.ب)

وبعد أن تعلم الكثير أيضاً من مديرين فنيين آخرين من أمثال كارلو أنشيلوتي ومارسيلو ليبي ومانويل بيليغريني، عندما كان لاعباً، استمتع ماريسكا بالعمل لفترات مساعداً للمدير الفني في أسكولي وإشبيلية ووست هام، تحت قيادة بيليغريني. وبعد ذلك، انضم إلى مانشستر سيتي تحت قيادة غوارديولا، في البداية من خلال العمل مع فريق النادي تحت 23 عاماً، قبل أن يعود إلى مانشستر سيتي مساعداً للمدير الفني بعد فترة غير موفقة في إيطاليا مع بارما في الدرجة الثانية.

وبعد قيادة ليستر سيتي للترقي إلى الدوري الإنجليزي الممتاز في أول مهمة تدريبية، تواصل معه مسؤولو تشيلسي لتولي قيادة الفريق.

وصل ماريسكا، رابع مدير فني للفريق اللندني منذ استحواذ المستثمر الأميركي تود بوهلي، وشركة الأسهم الخاصة «كليرليك كابيتال» على النادي، في مايو (أيار) 2022، وبعد أن أنفق الملاك الجدد أكثر من 1.5 مليار جنيه إسترليني على تدعيم صفوف الفريق.

لكن وسط تحديات هائلة تتمثل في تضخم قائمة الفريق والحديث عن أن قيادة تشيلسي أصبحت مهمة مستحيلة تقريباً، نال ماريسكا إشادات كبيرة بسبب الأداء الذي يقدمه الفريق داخل الملعب تحت قيادته.

لقد حقق تشيلسي سلسلة من 6 انتصارات وتعادلين في 8 مباريات في جميع المسابقات، بما في ذلك الفوز على توتنهام 4-3، الأحد الماضي، وهو ما يعني أن الفريق أصبح يحتل مركزاً أفضل من آرسنال ومانشستر سيتي في جدول ترتيب الدوري.

تشيلسي وجد ضالته في ماريسكا بعد فترة مرحلة من الاخفاقات (إ.ب.أ)

> كيف ولماذا تعاقد تشيلسي مع ماريسكا؟

خلال الموسم الماضي، عانى تشيلسي أمام ماريسكا بشكل مباشر، عندما خسر بأربعة أهداف مقابل هدفين أمام ليستر سيتي في ربع نهائي كأس الاتحاد الإنجليزي، لكن تلك المباراة كانت مجرد تأكيد لما رآه صناع القرار في النادي بالفعل في المدير الفني الإيطالي. لقد اتخذ تشيلسي قراراً شجاعاً بإقالة ماوريسيو بوكيتينو في الصيف، بعد أن شعر كثيرون بأن المدير الفني الأرجنتيني لن يستطيع تغيير الأمور إلى الأفضل، والنادي بحاجة إلى مدير فني من نوعية مختلفة؛ شخص قادر على قبول هيكل النادي والسياسة القائمة على التعاقد مع اللاعبين الشباب فقط.

طُلب من ماريسكا السفر إلى لندن لحضور اجتماع أولي مع مالكي تشيلسي، والمديرين الرياضيين للنادي بول وينستانلي ولورانس ستيوارت. في ذلك الوقت، كان مسؤولو النادي لا يزالون يفكرون في التعاقد مع أسماء من قبيل توماس فرانك وروبرتو دي زيربي وكيران ماكينا، لكنهم شعروا بأنهم وجدوا ضالتهم في ماريسكا. أحضر ماريسكا جهاز الكمبيوتر الخاص به في الاجتماع الثاني مع مسؤولي النادي، وأخبرهم برغبته في العمل مع الفريق الذي درسه بالفعل بالتفصيل.

وقال لهم: «أنا أحب هؤلاء اللاعبين»، وكان حريصاً جداً على تدريب أحد أصغر الفرق سناً في تاريخ الدوري الإنجليزي الممتاز. كان تشيلسي يبحث عن مدير فني للفريق الأول يقدم كرة جذابة وممتعة، ويعتمد على الاستحواذ على الكرة، والتحكم في رتم وزمام المباريات، ويلعب بطريقة حماسية لكن بتوازن ومرونة. وبالفعل، كان ماريسكا يفي بجميع هذه الشروط، لذا قرر تشيلسي التعاقد مع المدير الفني الإيطالي.

ومع ذلك، أبلغ ماريسكا النادي أن أولويته المباشرة هي الذهاب في إجازة عائلية مخطط لها في ماربيا. وأخبرهم بأنه سيأخذ الأسرة إلى إسبانيا، ثم سيسافر في اليوم التالي إلى لندن. تفهم مسؤولو تشيلسي موقف ماريسكا وأولوياته، وقرروا السفر إليه في إسبانيا. وفي ظل اهتمام أندية أخرى بما في ذلك مانشستر يونايتد بالتعاقد مع ماريسكا، سافر ممثلو النادي اللندني إلى جنوب إسبانيا لإنهاء الأمور.

وبمجرد وصوله إلى ماربيا، صافحه مُلاك تشيلسي قبل الانتهاء من تفاصيل العقد، وأخبروه بأنهم لا يريدون موظفاً في النادي بل شريكاً. كانوا يريدون أن يكون المدير الفني الإيطالي مقتنعاً تماماً بفلسفة النادي، وبالفعل تم الاتفاق وإمضاء العقود. لقد وقع ماريسكا عقداً لمدة 5 سنوات، بعد 12 شهراً فقط من إكمال موسمه الأول مديراً فنياً.

تشيلسي صعد ثانيا في الدوري الإنجليزي الممتاز (أ.ب)

> ماذا وجد ماريسكا في تشيلسي؟

كان لابد من اتخاذ قرارات جادة عند وصوله، ولا سيما بيع النجم الصاعد من أكاديمية الناشئين بالنادي كونور غالاغر إلى أتلتيكو مدريد. تحدث مسؤولو النادي مع ماريسكا حول نواياهم في هذا الشأن. لم يكن يتبقى في عقد غالاغر مع تشيلسي سوى عام واحد فقط، ووجد تشيلسي وماريسكا نفسيهما بين المطرقة والسندان: فإذا بقي اللاعب، فسيتعين عليه تجديد عقده، لكن النادي يعاني من أجل الوفاء بقواعد الربح والاستدامة، ولم يكن تشيلسي ليسمح أبداً بانتهاء عقد اللاعب ورحيله مجاناً. وبالتالي، كان الخيار الأفضل للجميع هو رحيل اللاعب.

وفي المقابل، جاء من أتلتيكو مدريد، جواو فيليكس، الذي عاد إلى البلوز بعد فترة إعارة غير ناجحة هناك في عام 2023، ولكن بأجر أقل بكثير وعقد لمدة سبع سنوات. وعلى الرغم من الصعوبات الكبيرة التي واجهها فيليكس، فإن مسؤولي تشيلسي كانوا مقتنعين بأنه سيكون مفيداً وأن العمل الدؤوب الذي يقوم به ماريسكا سيجعل فيليكس أفضل. في النهاية، قَبِل المدير الفني الإيطالي التحدي.

كان فيليكس استثناءً للقاعدة، حيث تقوم سياسة تشيلسي على التعاقد مع نجوم صغار في السن لديهم قدرات فنية كبيرة ويحصلون على مبلغ مالي ثابت، بالإضافة إلى حوافز مرتبطة بالأداء. ويقول المُلاك الجدد إنهم لا يريدون أن يتقيدوا بأجور مرتفعة كما كان الحال مع النظام السابق.

ويتعلق الأمر كله بمحاولة بناء نموذج مستدام على المدى الطويل يسمح للاعبين الذين يقدمون مستويات جيدة بالحصول على مكافآت مالية وتمديد عقودهم، كما حدث مع نيكولاس جاكسون، وكول بالمر، في عقودهما الجديدة، مع السماح للنادي بالتخلي عن اللاعبين الذين لا يؤدون بشكل جيد، وهو الأمر الذي يكون أسهل عندما يحصلون على أجور متوسطة بالمقارنة بباقي لاعبي الدوري الإنجليزي الممتاز.

على سبيل المثال، تم التعاقد مع إنزو فرنانديز من بنفيكا في يناير (كانون الثاني) 2023 مقابل 107 ملايين جنيه إسترليني، لكن بعقد مدته 9 سنوات ونصف السنة. كانت الصفقة بالتأكيد أفضل بكثير مما كان لاعب خط الوسط يحصل عليه في بنفيكا، لكن لا يزال يُقال إن ما يحصل عليه من تشيلسي أقل مما كان يمكن أن يحصل عليه في أماكن أخرى.

يقول مالكو تشيلسي إنه لا يتعاقد مع اللاعبين بعقود طويلة من أجل توزيع قيمة التعاقد على عدد من السنوات، ولكن لبناء النموذج الصحيح لجعل النادي مستداماً، بما في ذلك بناء فريق يمكن أن يلعب معاً لسنوات. لا يهم كم يكلف اللاعب خزينة النادي، لكن يجب أن يأتي بشرط واحد مهم، وهو أن تكون لديه الخلفية المناسبة والشخصية والقدرة على أن يكون لاعباً جماعياً.

ويمكن لماريسكا، الذي حدده النادي مديراً فنياً للفريق على مدار العقد المقبل، التعاقد مع أي لاعب يريده طالما أنه أقل من 24 عاماً، وعلى استعداد للالتزام بسياسة الفريق على المدى الطويل. إنه يريد لاعبيَن اثنين لكل مركز حداً أدنى، ولا يتصور الآن أن يتم التوقيع مع أكثر من لاعبين أو ثلاثة في كل فترة انتقالات.

وبالنسبة لمن هم خارج تشيلسي، فإن أحد أكثر الأشياء المثيرة للإعجاب التي قام بها ماريسكا هو خلق حالة من الاستقرار في الفريق الذي كان يُنظر إليه على أنه «متضخم للغاية»، في ظل الحديث عن وجود أكثر من 45 لاعباً. ومع ذلك، فإن المدير الفني الإيطالي لديه فريق أول مكون من 23 لاعباً، وهذا ما يتعامل معه منذ اليوم الأول له في النادي.

من مباراة تشيلسي الأخيرة في دوري المؤتمر الأوروبي أمام أستانا (أ.ب)

> ما الذي يميز ماريسكا بصفته مديراً فنياً؟

من المعروف أن مالك تشيلسي رجل عملي يحب أن يكون جزءاً من عملية صنع القرار، لكنه يحترم مديري كرة القدم، وينستانلي، وستيوارت، اللذين يعملان عن كثب مع المدير الفني. يهتم ماريسكا بأدق التفاصيل، وهو أول مَن يصل إلى النادي، وأخر مَن يغادر كل يوم، ويعمل على بناء ثقافة في النادي تجعل العديد من النجوم الشباب يؤمنون بأن انتقالهم إلى تشيلسي كان تحقيقاً لطموحاتهم الكبيرة.

من المؤكد أن الحصول على ثقة اللاعبين أمر بالغ الأهمية بالنسبة لأي مدير فني. ولكي يفعل مارسكا ذلك، فإنه يفوض أقرب زملائه لتحليل المباريات والمنافسين، والبحث عن الجوانب والنقاط التي يجب تطويرها وتحسينها، وتصحيح الأخطاء، والتخطيط للمستقبل. وأعني بهؤلاء الأشخاص هنا مساعد المدير الفني ويلي كاباليرو حارس مرمى مانشستر سيتي وتشيلسي السابق والمدربين داني ووكر وروبرتو فيتييلو، ومدرب اللياقة البدنية ماركوس ألفاريز، والمحلل خافي مولينا، ومدرب حراس المرمى ميشيل دي برناردين.

ويوجد لدى تشيلسي حالياً مدربان لحراس المرمى. لقد أحضر ماريسكا دي برناردين معه حتى بعد أن قيل له إن النادي لديه بالفعل هنريك هيلاريو. وكان ماريسكا واضحاً عندما قال إنه لن يأت من دون دي برناردين. إنه يريد أن يكون طاقمه المفضل من حوله؛ لأنه يعتقد أن ذلك يساعده على اتخاذ قرارات أفضل.

في الواقع، يمكننا أن نعد على أصابع اليد الواحدة اللاعبين الموجودين في تشيلسي الآن الذين فازوا من قبل بألقاب كبرى على المستوى الأوروبي أو العالمي. ويدرك ماريسكا جيداً أنه يتعين عليه أن يبني مجموعة جديدة من الثوابت في التدريبات، ويحتاج إلى الأشخاص الذين عمل معهم من قبل لمساعدته في هذه المهمة.

وكان يتعين على ماريسكا بالفعل أن يواجه بعض التحديات التي لا علاقة لها بالخطط والأمور الفنية والتكتيكية، مثل الجدل الذي أثير حول فرنانديز خلال فترة الاستعداد للموسم الجديد، عندما نشر لاعب خط الوسط الأرجنتيني مقطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي يظهر فيه هو وزملاؤه في الأرجنتين وهم يهتفون بعبارات عنصرية وتمييزية يتساءلون فيها عن أصول اللاعبين السود والمختلطين في فرنسا!

من المؤكد أن هذا الأمر لم يرقَ للعديد من اللاعبين السود والمختلطين الفرنسيين الذين يلعبون في تشيلسي، وكان من الممكن أن يؤثر ذلك بالسلب على الأجواء داخل غرفة خلع ملابس تشيلسي قبل بداية الموسم.

لقد اعترف فرنانديز بالخطأ الذي ارتكبه عندما تحدث مع مدربه على الهاتف، وكان قلقاً بشأن رد فعل زملائه في الفريق عندما انضم إليهم في معسكر الاستعداد للموسم الجديد في الولايات المتحدة. لكن الأمر الأكثر أهمية هو أنه لم يحاول تبرير ما فعله، وتقبل خطأه على الفور أمام زملائه في الفريق. لذا، فإن الأمور تسير في الاتجاه الصحيح في الوقت الحالي، وهناك ثقة كبيرة من جانب ملاك النادي في المدير الفني واللاعبين.

لقد التقى ماريسكا بأحد المديرين الفنيين الذين لعب تحت قيادتهم من قبل، وهو المدير الفني لريال مدريد كارلو أنشيلوتي، عندما لعب تشيلسي أمام النادي الملكي في فترة الاستعداد للموسم الجديد. ورحب به مواطنه الإيطالي بعبارة تعني «الآن أصبح كل شيء جدياً، يا صديقي»، فضحك ماريسكا. همس أنشيلوتي في أذن ماريسكا قائلاً: «أعد خط دفاعك إلى الخلف نحو 10 ياردات وستستمتع هذا العام».

لكن ماريسكا أخبره بأن هذا أصبح جزءاً من الماضي، وأنه سوف يعيد الأمور إلى نصابها الصحيح لكي تتناسب مع أفكاره وأسلوبه. وبالفعل نجح المدير الفني الإيطالي الشاب في القيام بذلك، وأخرج تشيلسي من حالة الفوضى العارمة التي كان يعاني منها ليحتل المركز الثاني في جدول ترتيب الدوري الإنجليزي الممتاز.

خدمة «الغارديان»