لماذا غار لويس السادس عشر من فولتير... وودعت فرنسا كلها هيغو؟

على هامش كتاب آلان مانك: التاريخ السياسي للمثقفين الفرنسيين

فولتير  -  آلان مانك
فولتير - آلان مانك
TT

لماذا غار لويس السادس عشر من فولتير... وودعت فرنسا كلها هيغو؟

فولتير  -  آلان مانك
فولتير - آلان مانك

إنه لشيء ممتع أن تمضي بعض الوقت في صحبة آلان مانك. وهو لمن لا يعرفه أحد المثقفين النافذين في الساحة الفرنسية، ليس ثقافياً فقط، وإنما سياسياً أيضاً. إنه «صانع» الرؤساء من ساركوزي إلى ماكرون... ولكن يقال إن جاك أتالي هو الذي يقف خلف ماكرون. والله أعلم. على أي حال ليس هذا موضوعنا حالياً. وإنما موضوعنا هو استعراض كتابه الشيق الذي يتحدث فيه عن كبار مثقفي فرنسا منذ عصر التنوير حتى اليوم. كيف كانت علاقتهم بالسياسة أو بالسلطة على مدار العصور؟ كيف كانت علاقة فولتير بملوك فرنسا، أو علاقة شاتوبريان بنابليون، أو علاقة فيكتور هيغو بالإمبراطور نابليون الثالث، أو علاقة سارتر بديغول... إلخ؟ شيء ممتع أن نعرف كل ذلك.
يخصص المؤلف لفولتير فصلاً كاملاً بعنوان شديد الإيحاء والدلالة «الملك المضاد!»، وهذا تفخيم ما بعده تفخيم. بمعنى أنه إذا كان لويس الخامس عشر هو ملك فرنسا الفعلي سياسياً فإن فولتير هو ملك فرنسا ثقافياً. والمنافسة دائرة بين الاثنين على مدار 30 سنة متواصلة. هذا يتربع على عرش السياسة، وذاك على عرش الفكر. ثم يقول لنا الباحث ما معناه؛ على الرغم من نواقصه الشخصية الكثيرة فإن فولتير احتل أكبر مكانة في تاريخ فرنسا الثقافية. لماذا؟ لأنه أصبح أكبر مدافع عن المضطهدين على أساس طائفي أو مذهبي. لأنه دافع، وهو الكاثوليكي الأكثري، عن عائلة جان كالاس الأقلية البروتستانتية المضطهدة من قبل طائفته الخاصة بالذات. لقد تصدى للتعصب المذهبي الأعمى الذي كان يهيمن على فرنسا آنذاك. لقد تحدى الأفعوان الأصولي وهو في أوج قوته وجبروته. كم هو عدد المثقفين العرب الذين أدانوا جرائم «داعش» المروعة في العراق وجبل سنجار ضد إخواننا الإيزيديين وسواهم؟ تراهم في قلب باريس أو لندن أو واشنطن يتشدقون باسم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ثم ينبطحون في ذات الوقت أمام الأصوليين و«الإخوان المسلمين» الذين هم أصل «الدواعش». لماذا فقدوا مصداقيتهم؟ ما معنى ربيع عربي يقوده يوسف القرضاوي أو راشد الغنوشي؟ هل هذا ربيع؟ هل هذا هو الوجه المشرق للإسلام والعروبة؟ لو كان فولتير حاضراً لأقام الدنيا وأقعدها من أجل الإيزيديين المستباحين في عقر دارهم على أساس طائفي محض. لو كان حياً لهيّج الرأي العام العالمي كله ضد الوحوش البرابرة. هنا تكمن عظمة فولتير، ولهذا السبب ظل اسمه يلمع على صفحة التاريخ منذ عام 1763 حتى اليوم، أي منذ أصدر كتابه الشهير «رسالة في التسامح». وهو الكتاب الذي نقلته هنرييت عبودي إلى العربية بكل تمكن واقتدار عام 2009 عن دار بترا - دمشق، رابطة العقلانيين العرب. لقد دافع عن الأقلية ضد الأكثرية، على الرغم من أنه ينتمي أباً عن جد إلى الأكثرية الساحقة، لا إلى الأقلية. هنا تكمن عظمة المثقف، أن يتحدى طائفته الخاصة بالذات، وبخاصة إذا كانت قادرة على أن ترهب الآخرين وتخرس أصواتهم. بل تستطيع أن تكفرهم وتبيدهم عن بكرة أبيهم إذا شاءت. لأول مرة أصبح «الرأي العام» سلطة مهابة بحد ذاتها في فرنسا. قبل ذلك لم يكن له وجود. ماذا يعني الشعب بالنسبة للملوك الجبابرة؟ لا شيء. كمٌ مهمل من البشر الذين يقادون كالقطيع. كان ملك فرنسا في تلك العصور الغابرة يستطيع أن يبيد منطقة بأسرها دون أن يرف له جفن، ودون أن يتجرأ أحد على الاحتجاج أو الاعتراض. الآن تغير الوضع في عهد فولتير وبفضل فولتير. ومن يكسب الرأي العام إلى صفّه يكسب المعركة. لنتأمل في المشهد ولو للحظة؛ نحن أمام 3 أقطاب؛ القطب الأول فولتير، القطب الثاني الأغلبية الكاثوليكية الجبارة التي اعتدت ظلماً وعدواناً على الأقلية البروتستانتية، القطب الثالث الرأي العام. ميزة فولتير هي أنه استطاع استقطاب الرأي العام لصالحه، ولذلك ربح المعركة ضد الأصولية الكاثوليكية. هنا يكمن ذكاؤه. هنا تكمن براعته وعبقريته. وبدءاً من تلك اللحظة، أصبح استقطاب الرأي العام هو هدف جميع المثقفين في معاركهم مع السلطات الدينية أو السياسية الاستبدادية المهيمنة. بدءاً من تلك اللحظة، أصبح فولتير ملكاً متوجاً على عرش الثقافة الفرنسية.

هذه الكلمات والأفعال هي التي أدخلت فولتير التاريخ. لو لم يتصدى فيلسوف فرنسا الأول لطائفته الكاثوليكية البابوية المتحكمة تاريخياً بمقاليد فرنسا لما بقي منه شيء يذكر. لو لم يتجرأ على التصدي لـ«الإخوان» المسيحيين (الكاثوليكيين) الذين يشاركهم منذ طفولته الأولى ذات العقيدة وذات الدين لما أصبح فولتير.
والآن نطرح هذا السؤال؛ من سيخلف فولتير على عرش الآداب الفرنسية والانخراطات السياسية؟ شخصان اثنان؛ فيكتور هيغو في القرن التاسع عشر، وجان بول سارتر في القرن العشرين. لم يحظَ أي مثقف بالأمجاد الشعبية مثلما حظي هؤلاء الثلاثة. عندما عاد فولتير من المنفى بعد ربع قرن هبّ شعب باريس كله لاستقباله إلى درجة أن ملك فرنسا في قصر فرساي غار منه ومنع زوجته ماري أنطوانيت من المشاركة في الاحتفالات... وكانت راغبة في ذلك. كانت تريد أن ترى بأم عينيها أشهر مثقف في تاريخ فرنسا. كان الناس يترامون على العربة التي تقله لكي يلمسوها فقط. كانوا يتساقطون على ركابه. كانت الشوارع مكتظة بالبشر، والزلاغيط والأهازيج والهتافات تتعالى في كل مكان؛ يعيش فولتير! يعيش فولتير! وكأنهم في عرس. لحسن الحظ أنه شهد كل هذا المجد قبل أن يموت بـ3 أشهر فقط عام 1778. عندئذ عرف فولتير أن نضالاته لم تذهب سدى. لقد ذاق طعم العودة إلى الوطن بعد منفى ربع قرن، وأي عودة! وراح البعض يتساءلون؛ من هو ملك فرنسا الحقيقي يا ترى؛ فولتير أم لويس السادس عشر؟
وهذا ما حصل لفيكتور هيغو بعده بقرن واحد. بل استمتع شاعر فرنسا الأكبر بالمجد مرتين أو 3 مرات. فعندما عاد بعد 20 سنة من منفاه الإنجليزي كان الناس أيضاً يستقبلونه في محطات القطار بالهتافات الصارخة؛ يعيش فيكتور هيغو! يعيش فيكتور هيغو! وهو يلوح لهم بيده من نافذة القطار. ثم بجّلوه مرة ثانية عندما بلغ الثمانين حيث احتفلت فرنسا الرسمية والشعبية بهذه الذكرى المجيدة، واعتبروه أباً للأمة ومجداً للوطن. لكن الاحتفال الأكبر سيكون بعد موته في جنازته عام 1885. عندئذ خرجت الملايين، ليس فقط في باريس، وإنما في كل أنحاء فرنسا، لكي تودع مجدها الوطني الكبير. لم تشهد فرنسا في حياتها كلها جنازة في مثل هذا الحجم والمستوى. لكن قبل موته أثناء احتضاره الذي دام عدة أيام كانت فرنسا كلها تحبس أنفاسها انتظاراً لوقع الخبر. كانت تتمنى ألا يموت رغم أنها تعرف أنه سيموت. كانت تتمنى أن تحصل معجزة ما تبقيه معهم فترة إضافية أخرى. يقول الفيلسوف الكبير إرنست رينان، واصفاً تلك اللحظات الحاسمة: «لقد كانت فرنسا كلها بجميع أحزابها وطبقاتها الاجتماعية وتياراتها الفكرية شبه مشلولة تنتظر بفارغ الصبر نتائج احتضار فيكتور هيغو. الجميع نسوا أعمالهم وهمومهم، الجميع نسوا أنفسهم كلياً، وما عادوا يفكرون إلا بمصير شخص واحد، هو فيكتور هيغو. وعندما وقع الخبر المحتوم عليهم كالصاعقة خرجت الملايين إلى الشوارع، وهي تبكي وتهتف وتبتهل وتودع». وعندئذ قال غونكور هذه الكلمات البليغة: «يا له من شعب غريب الأطوار هذا الشعب الفرنسي! لم يعد يعبد الله ولا يؤمن بالدين ولا بيسوع المسيح، ولكنه أصبح يعبد فيكتور هيغو! شيء عجيب». وهذا يعني أن المقدس العلماني الحديث حل محل المقدس الديني الأصولي القديم. عندئذ خرس صوت الحزب الأصولي الكاثوليكي. وماذا يستطيع أن يفعل أمام زحف الملايين؟ أخيراً، انتصر فيكتور هيغو على الأصوليين أو «الإخوان المسيحيين» الذين كانوا لا يزالون أقوياء في فرنسا ومرهوبي الجانب. وعندما فتحوا وصيته وجدوا مكتوباً فيها ما يلي: «أعطي 50 ألف فرنك للفقراء. وأتمنى أن أنقل إلى المقبرة في عربتهم. أرفض صلوات وتضرعات كل الطوائف والمذاهب. لكني أطلب دعاء كل البشر. أومن بالله. التوقيع: فيكتور هيغو».
من هذه الوصية نفهم أن الصراع بين الحزب العلماني التقدمي- والحزب الأصولي الرجعي كان لا يزال محتدماً آنذاك في فرنسا. ونفهم أيضاً أن فيكتور هيغو لم يكن كافراً بالدين، ولا بالله، وإنما فقط بالأصولية والأصوليين، بالطائفية والطائفيين. وذلك على غرار فولتير الذي كان مثاله وقدوته. فهو يعلن صراحة إيمانه بالله وبالقيم العليا المثالية للدين. وبالتالي، لا ينبغي أن نفهم موقفه خطأ. فيكتور هيغو لم يكن مادياً ملحداً. لكنه كان يفرق بين الدين ورجال الدين، أو قل بالأحرى كان يفرق بين الدين والمتاجرين بالدين. ماذا يفعل الإسلام السياسي حالياً؟ كل الذين كانوا يستخدمون الدين لأغراض شخصية انتهازية كان يرفضهم. كل الذين كانوا يستخدمون الدين كأداة فعالة وفتاكة للتفريق بين أبناء الشعب الواحد على أساس طائفي أو مذهبي كان يكرههم. ولهذا السبب تحداهم ورفض صلواتهم.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

الشاي... تفضّله مالحاً أو بالجبنة أو أزرق اللون؟

الشاي... تفضّله مالحاً أو بالجبنة أو أزرق اللون؟
TT

الشاي... تفضّله مالحاً أو بالجبنة أو أزرق اللون؟

الشاي... تفضّله مالحاً أو بالجبنة أو أزرق اللون؟

مرّت 5 آلاف سنة على أول جلسة شاي في الصين القديمة، لكنّ الموعد ما زال يتجدّد يومياً انطلاقاً من بكين، مروراً بالقاهرة، وصولاً إلى لندن، وما بين تلك العواصم من محطّاتٍ تفرّدت في إنتاج الشاي وتقديمه.

وإذا كانت الصين بلد المنشأ والانطلاقة، فمن البديهيّ أن تكثر فيها الغرائب المرتبطة بثقافة الشاي. لا يتساهل الصينيون في صناعته ويقضي التقليد القديم بأن يُحضّر بمهارة، ما يعرف بالـ«كونغ فو تشا». ويتطلّب ذلك استخدام أوراق الشاي وتقديم المشروب في الأواني الصينيّة التقليدية. هذه ثقافة متوارثة منذ أجيال، لا سيّما في جبال فينغ هوانغ، حيث يبلغ عمر بعض نبتات شاي «أولونغ» أو «التنّين الأسود» 700 عام.

كيلو شاي بـ1.5 مليون دولار

الشاي ذهبُ الصين، وقد يصل سعر الكيلوغرام الواحد منه إلى مليون و400 ألف دولار. ففي عام 2002، ووفق خبر نشرته شبكة «بي بي سي» آنذاك، اشترى رجلٌ ثريّ 20 غراماً من شاي «دا هونغ باو» الأسطوري مقابل 28 ألف دولار. وفي عملية حسابية بسيطة، يتبيّن أن الكيلوغرام الواحد يتجاوز المليون.

نظراً لندرته، يباع شاي «دا هونغ»، وهو من فصيلة الأولونغ الأسود، في المزادات العلنيّة حيث يتجاوز سعر الكيلوغرام الواحد 30 ألف دولار.

شاي دا هونغ باو الصيني الأغلى في العالم (إنستغرام)

حروب من أجل الشاي

أمران يمنحان الشاي الصيني فرادته: الأقدميّة أولاً، وتقنيات التعتيق ثانياً. في ولاية يونان جنوب غربي الصين، يتجاوز عمر أشجار شاي «بويريه» الألف عام. ووفق الخبراء، فإنّ هذا النوع هو أقدم وأنقى شاي متوفّر حالياً حول العالم. أما سعر الكيلوغرام الواحد من أوراقه المعتّقة والمخمّرة فيصل أحياناً إلى 10 آلاف دولار. لا غرابة بالتالي في أن تكون قد خيضت حروب وجُمعت ثروات بسببه، وفق تاريخ الصين القديم.

شاي بويريه المخمّر والمعتّق من الأصناف النادرة جداً (ويكيبيديا)

شاي الباندا والحشرات

لا تتوقف غرائب الشاي الصيني عند حدود أسعاره الخياليّة، بل يبلغ الذهول ذروته عند الاطّلاع على بعض مصادره. من بين تلك الأصناف مثلاً، «باندا دونغ»، وهو شاي أخضر يُستخدم في زراعته براز دب الباندا كسمادٍ طبيعي. لا يؤثّر ذلك بشيء على سعره، بل على العكس، إذ يبلغ الكيلوغرام الواحد منه 70 ألف دولار!

ليس دب الباندا وحده من بين الحيوانات المشاركة في صناعة الشاي الصيني، فللحشرات دورٌ محوَريّ كذلك. ويُعدّ «شاي الحشرات» من بين الأغلى في العالم، نظراً للتقنيّات الفريدة والدقيقة التي تُعتمد في تصنيعه. وفي التفاصيل، فإنّ الحشرات النادرة المستخدمة تُغذّى بأوراق نبتة الشاي ثم يُجمع برازها ويُحوّل إلى أكياس من الشاي. أما المنافع الصحية لهذا الصنف فكثيرة جداً، من بينها خفض نسبة السكّري والدهون وضغط الدم.

نكهات تايوانيّة غريبة

لم تصدّر الصين أوراق الشاي فحسب إلى الدول المجاورة، بل أرسلت معها مزيداً من الغرائب. ففي تايوان على سبيل المثال، تفرّغ خبراء الشاي لابتكار نكهاتٍ غير متوقّعة.

«نايغاي تشا» أو الشاي بالجبنة! هو مزيج من الشاي المثلّج بنكهات الفاكهة والمغطّى بطبقة كثيفة من الجبنة المخفوقة والمملّحة. وقد تخطّت هذه الموضة حدود تايوان فعادت إلى بلد المنشأ أي الصين، كما انتقلت إلى الولايات المتحدة، وأستراليا، وبريطانيا.

الشاي بالجبنة صناعة تايوانيّة انتشرت عالمياً (إنستغرام)

ومن بين أصناف الشاي التايواني التي غزت العالم، «بوبا» أو شاي الفقّاعات. ابتُكر عام 1980 وهو مزيج من الشاي والحليب وعصير الفاكهة، أما المكوّن الخارج عن المألوف فيه فكُريات التابيوكا.

«بوبا» أو شاي الفقّاعات المكوّن من الشاي والحليب وعصير الفاكهة والتابيوكا (إنستغرام)

شاي بزبدة الياك

يفوق عدد أصناف الشاي الـ3000 حول العالم، لكن من بينها ما يتميّز فعلاً بفرادته. وليست الجبنة والتابيوكا النكهات الغريبة الوحيدة في عالم الشاي، ففي أعالي جبال التيبت يتناولونه ممزوجاً بالزبدة، وهو يُعرف بالـ«بو تشا».

دخل الشاي إلى تلك المنطقة الشاهقة والمثلجة في القرن العاشر. لكنّ النبتة السوداء لم تكن كافية بالنسبة للسكّان الأصليين، الذين أضافوا الزبدة الحيوانيّة والملح إلى الشاي الأسود. ولم يحصل ذلك بهدف ابتكار سلعةٍ تجاريّة، إنما لتحويل الشاي إلى مشروبٍ يقيهم البرد القارس ويكون بمثابة وجبة غذائية تمنحهم الطاقة. أما الزبدة التي يضيفون إلى الشاي في التيبت، فمستخرجة من حيوان الياك، الذي ينتشر حصراً في جبال الهيمالايا.

يستغرق تحضيره وقتاً طويلاً بما أنّ أوراق الشاي الأسود تُنقع لساعات، حتى تسودّ المياه تماماً. ثم يُسكب الشراب في وعاء مصنوع من خشب البامبو. بعد ذلك، تُضاف بضعة ملاعق من الزبدة إليه وحليب عند الرغبة، إلى جانب الملح.

شاي أزرق

إلى تايلاند حيث يتلوّن الشاي بالأزرق، فهو مصنوع من الـbutterfly pea أو زهرة بازلاء الفراشة الزرقاء. وإذ يصطبغ هذا الشاي بلونٍ مميّز، هو يكتسب كذلك نكهة الأزهار. وبمجرّد إضافة بعضٍ من عصير الليمون إليه، يتحوّل الشاي التايلاندي إلى اللون البنفسجي.

الشاي الأزرق التايلاندي مشروب نباتي من دون ملوّنات صناعية (إنستغرام)

مهد الماتشا

في اليابان طقوس الشاي مقدّسة، وهو مشروبٌ يوازي الماء أهميةً إلى درجة أن الشاي الأخضر يقدّم مجاناً في المطاعم مع أطباق السوشي والساشيمي.

للشاي احتفاليّةٌ خاصة تُدعى «شادو»، وهي تعبيرٌ عن حسن الضيافة اليابانية. يجلس الضيوف أرضاً في غرفة الشاي التقليدية، على البساط المعروف بـ«تاتامي». تمتدّ الطقوس لساعات ويتخلّلها تناول وجبات خفيفة، كما أنها تتميّز بحركات يدَين معيّنة ترافق سكب الشاي وشربه.

تمتدّ احتفالية الشاي التقليدية في اليابان لساعات (رويترز)

اليابان هي أيضاً مهدُ الماتشا، فالشراب الأخضر الذي يغزو العالم حالياً آتٍ من هناك. والماتشا هي مسحوق الشاي الأخضر المطحون الذي يُمزج مع المياه الساخنة. وغالباً ما يُقدّم الماتشا في اليابان مع حلوى «واغاشي».

شاي الماتشا الياباني مع حلوى الواغاشي (إنستغرام)

شاي بالعربي

من الشرق الأقصى إلى العالم العربي، حيث يحتلّ الشاي مرتبة متقدّمة على قائمة العادات اليومية. في مصر مثلاً، الشاي هو المشروب الوطني ويتنوّع ما بين «الكُشَري» الذي يُعتبر خفيف المذاق مقارنةً مع الشاي الصعيدي أو «الثقيل».

في المغرب كذلك، الشاي زينة المائدة، وهو يُغلى مع أوراق النعناع. أما تقديمه فله تقنية خاصة تقضي بسكبه من الإبريق عن مسافة 30 سنتيمتراً من الكوب، كتعبير عن احترام الضيف.

ومن بين الدول الأكثر استهلاكاً للشاي واحتراماً لطقوسه، تركيا التي تنتج 10 في المائة من مجمل إنتاج الشاي العالمي. أما البريطانيون فهم في المرتبة الثالثة للشعوب الأكثر استهلاكاً للشاي، بمعدّل كيلوغرامَين منه سنوياً لكل مواطن بريطاني.