هل يشبه اليوم البارحة فعلاً بالصراعات والمصالح؟

صورة نشرها الجيش اللبناني في «تويتر» لموقوف ومخدرات ضبطها في أثناء إحدى مداهماته
صورة نشرها الجيش اللبناني في «تويتر» لموقوف ومخدرات ضبطها في أثناء إحدى مداهماته
TT

هل يشبه اليوم البارحة فعلاً بالصراعات والمصالح؟

صورة نشرها الجيش اللبناني في «تويتر» لموقوف ومخدرات ضبطها في أثناء إحدى مداهماته
صورة نشرها الجيش اللبناني في «تويتر» لموقوف ومخدرات ضبطها في أثناء إحدى مداهماته

الماضي هو ذاكرة الحاضر، كما الحاضر هو ذاكرة المستقبل، علّنا نأخذ العبر من أخطاء الماضي كي لا نكررها.
إذا عدنا إلى الماضي؛ أي حقبة الخمسينات والستينات والسبعينات، نرى أن دول المنطقة، غير المستقرة سياسياً، لم تشجع العرب على تنفيذ أي مشاريع فيها لأسباب عديدة، أهمها:
- الاقتصاد الموجّه والمتقلب تبعاً للأمور السياسية، مما ولّد في بلدان عربية سلسلة من الانقلابات العسكرية بين الفينة والأخرى، في العراق وسوريا مثلاً، حيث كان هناك أكثر من انقلاب في الشهر الواحد تقريباً، مما جعل هذه البلدان غير مستقرة ومعرضة للمشكلات في أي لحظة.
- التأميم الذي حدث في مصر خلال عهد الرئيس جمال عبد الناصر، والذي كان مطلباً شعبياً، غالباً ما أدى إلى اهتزاز الوضع المالي والتمويلي للمستثمرين العرب، لذا فضلوا عدم المخاطرة وخسارة ثرواتهم هناك.
- البيئة الاجتماعية التي جعلت من الصعب على الأجنبي الاختلاط بالمجتمع وبالحياة اليومية للسكان الأصليين.
من المفيد أن نذكر فرضية نظرية الجماعة «Goup Hypthesis» في وضعية بلد عالم ثالثي... وسنختار فرضية ستة مفكرين حول تفسّخ الدول، كمثال قبرص ودول البلقان. وهذه الفرضية قابلة للتطبيق على أوضاع وأنماط مختلفة. وعلى أساس فرضية نظرية الجماعة، بالإمكان تكوين فرضية قابلة للتطبيق على وضع ما. وكان الهدف الأساسي لمنظّري الصراع الأوائل، مثل ميكيافيللي، وهوبس، ولوك، معرفة الروابط التي تجمع الدول بعضها ببعض. أما روسو، وبيرك، وماركس، فقد ركزوا أفكارهم على تماسك الجماعات والدفاع عنها وتطورها.
أما دويتش، فيعتبر أن أياً من المفكرين الستة لم يهتم بمسألة تفسخ الدول، أو المجموعات السكانية الكبيرة، إلى دول ومجموعات أصغر. لذا، فإن هؤلاء المفكرين الستة، بتركيزهم على تفسير لا تقسيم الجماعات، قد أهملوا جزءاً من العملية الاجتماعية – السياسية.
يفترض دويتش أن النظم الصراعية تتصف بالتفاوت أو التعارض السلبي. وفي تعامله وعلاقاته، يشجع النظام شريكاً على حساب آخر، حيث يُكافَأ الشريك الأول ويُعاقب الشريك الثاني. وإذا ما استطاعت الجماعات المتصارعة داخل النظام الواحد الوجود والتعايش لفترة طويلة، فسيكون باستطاعتها، في النهاية، تطوير وتكوين مصالح مشتركة. وهي؛ أي هذه المجموعات، ستستمر في تعايشها رغم الصراع إذا ما كانت الإجراءات والمصالح التي تحافظ على التعايش كثيرة ومتنوعة. ولكي تستمر النظم بالحياة، على العلاقات والمعاملات أن تبنى على أساس التشجيع والمكافأة للأفراد والأجهزة التي تؤلف النظام، لا على أساس المعاقبة والقهر. فيما يعتبر هورتم أن النظام الصراعي بمثابة صراع سياسي مكثف ومستمر بين المجموعات ذات الأهداف العالمية المتعارضة. هذا الصراع يؤدي إلى ما يسميه لاغون بـ«نموذج – الصراع». وهذا النموذج يحدد النظم السياسية المؤلفة من وحدات متعارضة. وتتصف أهداف هذه الوحدات بالممانعة المتبادلة. إنها تعمل في «وضع نتيجة جمعه صفر»؛ بمعنى أن ربحاً لمجموعة ما يوازيه خسارة مماثلة لمجموعة أخرى. ويمكن عرض تلخيص لاغون لفرضيات «النموذج – الصراع» على الشكل التالي:
1 – تتصف كل النظم الاجتماعية بدرجات متفاوتة من اللامساواة.
2- إن التغيير كامن في نظام اجتماعي.
3- يتأثر كل من الاستمرار والتغيير بالقوة النسبية للأحزاب المتنافسة، وليس بالصراع بحد ذاته. وبمعنى آخر، يأتي التغيير الاجتماعي من التحولات الحاصلة في موازين القوى.
إن الصراع المستمر بين المجموعات المتنازعة والمتنافسة ذات الأهداف والغايات المتعارضة، سيؤدي حتماً إلى تحول في ميزان القوى، وسيؤدي أيضاً إلى التغيير واللامساواة في النظام الاجتماعي، إلا أنه إذا ما أرادت هذه المجموعات أن تتعايش وتوجد بعضها مع بعض لفترة طويلة من الزمن، فيمكن ساعتئذ أن تطور وتنمي مصالح مشتركة. ومع ذلك، عادة ما تتجاهل المصالح المشتركة أي نظام صراعي يمكن أن يشكّل عائقاً أمام التعايش بين الأحزاب الموجودة والمتنازعة؛ لأن هذه الأحزاب ستنمي مع مرور الزمن مصالح مشتركة شكّلتها الإجراءات التي تكافئ الأفراد الذين يؤيدون النظام.
أما بالنسبة إلى لبنان خلال الحرب الأهلية التي بدأت في 13 أبريل (نيسان) 1975، واستمرت سنوات طويلة، حيث نرى أن الجماعات المتصارعة والمتقاتلة والمتضاربة المصالح في نظام واحد، أخذت على المدى الطويل تتقارب بعضها من بعض لتكوّن مصالح مشتركة وتتعايش معها؛ تتحارب نهاراً وتتسامر و»تتجاور» ليلاً. لذا نرى من المفيد أن نذكر فرضية الجماعة؛ إذ إنه على الرغم من أن بعض القطاعات فيه قد بدت لفترة ما أنها موحدة ومتينة إلى حد ما (كالمؤسسات العسكرية والحكومة خلال الحرب الأهلية)، فإن لبنان لم يكن بشكل عام وطناً ودستوراً موحداً لمجتمع مترابط وموحد وذي انتماء، ولم يعمل كل أبنائه بوحدة متراصة من أجل كل أفراده وجماعاته. وهذه الهوة المحفورة هي التي شكّلت الأرض الخصبة التي شجعت بعض الأفراد على أن تشكّل وتصبح أحزاباً متنافسة، أو مجموعات ذات مصالح متصارعة. وكرّست كل مجموعة حزبية معرفتها ومهاراتها لمصلحة الحزب أو المجموعة، لا لمصلحة الجمهور والمجتمع بأسرهما.
في عام 1987، أخبرني أحد الإيطاليين، وهو صديق عزيز لأحد أصدقائي، بهذه المغامرة المدهشة التي عاشها خلال وجوده في لبنان بين عامي 1976 و1977:
«في صباح يوم قارس، وقفت في بيروت على ضفة البحر، حيث كوّة من المياه تفصل بيروت عن نقطة الالتقاء الرمزية لبيروت الشرقية والغربية، من هناك يمكنك أحياناً رؤية الزوارق التجارية وهي تدفع الأمواج باتجاه البحر المتوسط. وفي الجهة الخلفية، ارتفعت مآذن وقباب الجوامع في المدينة بشكل رائع وساحر، ثم ما لبثت أن توجهت إلى الجانب الأسوأ لخط الاتصال التجاري القديم هذا... وعند الغسق انعطفت نحو شارع قذر باتجاه مقهى الملقى (café redez-vous)، حيث قابلت هناك تاجراً معروفاً كان يشكّل مصدر معلوماتي. وأخذت من الرجل أسماء وأماكن وتواريخ كانت كلها عبارة عن قطع متنافرة تجمّع بعضها مع بعض في تلك الليلة ليولد بعد أشهر من البحث والمحاولة صورة مذهلة: إن المخططين قد أنشأوا تجارة ضخمة لتجار المخدرات في الغرب ولطالبي السلاح من الإرهابيين في كل لبنان. وأخبرني مصدر المعلومات هذا بأنه سيُقتل إذا ما كُشف أمره».
إن مصادري غير الرسمية المدعمة باستنتاجات علمية واقتصادية ثابتة، تصب في هذا الاتجاه ذاته. فجأة، وكالطاعون، انتشرت عملية تعاطي المخدرات في أرجاء كثيرة من العالم، محطمة الأرواح، وحاصدة الموت والدمار والجريمة. ولسنوات عديدة شكّلت هي والإجرام المحرك الأساسي لتجارة المخدرات، لكن هذا البلد الصغير (لبنان) لم يتوقف عن زراعة نبتة الحشيش بشكل غير مشروع حتى يومنا هذا، وتصنيعها بأشكال مختلفة، كحبوب «الكبتاغون» وغيرها، والتفنن في إخفائها والاتجار بها وتصديرها إلى الخارج، حتى وصل أخيراً إلى دول الخليج، وخاصة المملكة العربية السعودية، مما تسبب في قطع علاقاتها مع لبنان لفترة، دبلوماسياً واقتصادياً وتجارياً... إلخ، لفترة. أما الآن فعادت العلاقات إلى مجاريها أخيراً؛ لأن لبنان لا يستطيع أن يعيش بسلام ووئام وازدهار من غير أشقائه العرب في المنطقة العربية.
لم يستسلم المخططون على الإطلاق، بل بدأوا بعد دراسة معمقة حرب التجويع. فعبر أجهزة شيطانية غير قانونية، بدأ الدولار بالارتفاع، أحياناً رويداً رويداً، وأحياناً بجنون، ليضاعف سعره في نحو ثلاثة عقود آلاف الأضعاف؛ إذ كان يساوي 2.25 ليرة لبنانية في السبعينات، ووصل في عام 2022 إلى عتبة الأربعين ألفاً.
وبدأت الاتحادات العمالية والصناعية تطالب، آنذاك، بتعديل الأجور من دون أن يكون هناك إنتاج موازٍ (كما يحدث اليوم)، مما دفع بحلقة التضخم نحو الارتفاع والجنون؛ أي الكثير من المال لشراء القليل من السلع. ولم تشكّل الزيادات في الأجور مالاً حقيقياً بسبب فقدان الإنتاج الموازي، ولم يكن هذا المال ذا قوة شرائية. وكلما حصل العمال على زيادات في الأجور، ارتفع التضخم وبدأ الاقتصاد يسير في حلقة مفرغة. وازدهرت المرافئ غير الشرعية في طول البلاد وعرضها، حارمةً الدولة من دخل جمركي مهم جداً. ولم تُدفع الضرائب ولا فواتير الهاتف والكهرباء في مناطق واسعة من لبنان، مما حرم الدولة كذلك من جزء من السيولة النقدية، وتبعاً لذلك كان على مصرف لبنان المركزي إما أن يتردد في فتح الاعتمادات أو يرفضها، وخاصة في مجالات استيراد النفط الخام، وقطع الغيار الضرورية لتشكيل الكهرباء، وسائل الغاز، وغيرها من المشتقات لتلبية الطلبات اللامتناهية.
وبدأ الدولار بالارتفاع، وبدأت الاتحادات تطالب بتعديل الأجور (تُستعمل كلمة «أجور» هنا مكان كلمة «زيادة»). والتضخم ووتيرة التضخم تتصاعد بشكل جنوني، وأصبح من المستحيل منع توقف زيادة أسعار السلع الاستهلاكية.
في وضعنا القائم، وما يحدث اليوم في عام 2022، أننا نشهد ارتفاعاً جنونياً في سعر صرف الدولار بشكل يومي، وحتى بين ساعة وأخرى، مما ينعكس سلباً على حياة الناس ومعيشتهم. لذا، أود أن أقترح حلاً قد يوافق عليه البعض ويرفضه البعض الآخر، وهو كالآتي: بما أن السعر يحدده العرض والطلب في السوق، وأسعار السلع التجارية خاضعة لهذه القاعدة، فلماذا لا نعتبر العملة سلعة تجارية أخرى تخضع للنظام نفسه، ونترك للسوق الحر تحديد سعر العملة؟ إذا حدث ذلك فحينئذ يشترط على الدولة، إن وجدت الإرادة والجدية، اتخاذ إجراءات صارمة لإقفال كل مكاتب الصيرفة غير الشرعية، وجعل المصدر الوحيد للعملة هو البنوك ومكاتب الصيرفة الشرعية التي تقوم بعملية صرف الدولار والعملات الأخرى. وبهذا تتوقف السوق السوداء تلقائياً، ويتوقف عملها. وهكذا ينخفض الطلب على الدولار، ومن ثم ينخفض سعره مقابل الليرة. وبما أننا في ظروف استثنائية، فيجب أيضاً، فرض ضريبة استثنائية غير عادية أيضاً على شراء الدولار. وهذا الاقتراح لا يتناقض والوضع القائم في البلد، ولا يؤدي إلى أي تغيير في القوانين الضرائبية التي تفرضها الدولة. إن الأمر لا يتعدى ببساطة تثبيت سعر العملة الأجنبية على أساس العرض والطلب في سوق حر (لنسمها ضريبة شراء العملة الأجنبية)، تقدر بخمسين في المائة (يمكن زيادتها وقت الضرورة) على مشتري الدولار والعملات الأجنبية الأخرى. من المفيد أن نذكر هنا أن المضاربين والتجار هم الذين يشترون العملة الأجنبية. فيما يخص مستوردي السلع (التجار والصناعيين)، فمن الممكن إعادة الضريبة لهم، شرط أن تكون البضائع قد وصلت فعلاً، لا عبر السندات التجارية المطلوبة فقط.
ما يحدد الوضع الاقتصادي لبلد ما، هو مدى تأثيره ومركز قوته داخل الأسرة الدولية من جهة، وداخل منطقة جغرافية معينة من جهة أخرى. كما أن حجم ومصدر نمو وإنتاج هذا البلد ودخله القومي يحددان وضعه العسكري أيضاً. لهذا كله، فعلى لبنان أن يطور وضعه الاقتصادي بغية تحسين مركزه وتأثيره في الأسرة الدولية، خاصة أنه، وبعد طول انتظار منذ الخمسينات، ستبدأ عملية الحفر قريباً، وسيُكتشف النفط في مناطقه البرية وبلوكاته البحرية، لينضم ويأخذ مكانه ضمن الأسرة النفطية كبلد نفطي.
* باحثة لبنانية



الربيع العربي... تكاليف السلطة وعوائد الحكم

القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
TT

الربيع العربي... تكاليف السلطة وعوائد الحكم

القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)

ما لم يكن أكثرها أهمية، فإن الربيع العربي أحد أهم أحداث الربع الأول من القرن الحادي والعشرين في الشرق الأوسط. الذكريات السلبية التي يثيرها حديث الربيع تزيد كثيراً عما يثيره من مشاعر إيجابية. هناك بهجة الحرية المرتبطة بمشهد آلاف المحتشدين في الميادين؛ احتجاجاً ضد حكام طغاة، أو احتفالاً بسقوطهم. لكن هذا المشهد يكاد يكون لقطة خاطفة تبعها شريط طويل من المناسبات المحزنة. فما الذي سيبقى في ذاكرة التاريخ من الربيع العربي: لقطة الحرية القصيرة، أم شريط المعاناة الطويل؟

بين ديسمبر (كانون الأول) 2010 ومارس (آذار) التالي، اشتعلت نيران العصيان في عدة بلاد عربية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. انفجار الثورة بشكل متزامن في عدة بلاد لا يكفي لافتراض التجانس بينها. للمشرق العربي خبراته التاريخية وتركيبته الاجتماعية المختلفة عن شمال أفريقيا.

في المشرق فسيفساء عرقية ودينية وقومية لا يشبهها شيء في شمال أفريقيا التعددي، لكن غير المفتت. تاريخياً، أدى قرب المشرق من مركز الحكم الإمبراطوري العثماني إلى حرمانه من تكوين خبرة خاصة مع السلطة ذات الأساس المحلي. البعد الجغرافي عن مركز السلطة العثماني سمح بظهور سلطات ذات منشأ محلي، لها علاقة ما بالمحكومين في الشمال الأفريقي.

لقاء جمع بشار الأسد بالرئيس المصري الراحل حسني مبارك في القاهرة عام 2000 (أ.ف.ب)

مصر بين مركزين

وقوع مصر في منتصف المسافة بين مركز الحكم العثماني والمغرب البعيد، أسس لعلاقة مراوحة مترددة بين السلطة في مصر ومركز السلطنة، حتى جاء محمد علي باشا الكبير ليحسم التردد. الصحراء الليبية المحرومة من تجمعات سكانية كبرى، والمنجذبة إلى مراكز متعددة للسلطة شرقاً وغرباً، تأخر قيام السلطة المحلية وظهور تقاليد السياسة والحكم فيها.

الأفكار والآيديولوجيات والمشاعر والخيالات والأوهام تنتقل بين الجمهوريات على لغة جامعة ووسائل إعلام يجري استهلاكها بشكل مشترك، وإن كانت تَصنَع في كل «جمهورية» أثراً مختلفاً طبقاً لطبيعته الخاصة المميزة. لهذا انتقل الربيع من مكان إلى آخر، ولم تنتقل مؤثرات الموجة الديمقراطية الثالثة قبل ذلك. لهذا أيضاً أنتج الربيع نتائج مختلفة في كل بلد. التركيز هنا سيكون على بلاد الشمال الأفريقي، خاصة مصر وتونس، مع ملاحظات وتعريجات على خبرات أخرى بغرض الإيضاح.

السقوط السريع لأنظمة حكمت لعقود في شمال أفريقيا مستخدمة قبضة أمنية قوية، برهن على وجود أخطاء جسيمة غير قابلة للاستمرار. التفاوت الاجتماعي، وبطالة الشباب والجامعيين، واحتكار السلطة، وانتهاك الحقوق، واستباحة المال العام، وخواء مؤسسات التمثيل السياسي، وتجريف الحياة السياسية والفكرية في جمهوريات عدة؛ كل هذا أفقد الطبقة الحاكمة الأساس الأخلاقي المبرر لأحقيتها وجدارتها بالسلطة، وهو أمر ضروري في مجتمع «الجماهير الغفيرة» الحديث.

سقوط النظام القديم

هذا هو الفارق بين الهيمنة والسيطرة. كلما تآكل الأساس الأخلاقي للسلطة، ازدادت الحاجة للقمع، وارتفعت تكلفة ممارسة الحكم، حتى نصل إلى لحظة تزيد فيها تكلفة السلطة على عوائدها، فينهار النظام. هذا بالضبط ما حدث في الربيع، فعندما تراخت القبضة الأمنية، أو تعرضت لتعطل مفاجئ عجزت السلطة عن الاستمرار.

سقوط النظام القديم لم يتبعه ظهور نظام جديد بروعة الشعارات المرفوعة في الميادين. لقد تعلمنا بالطريقة الصعبة أن ما كان لدينا من عناصر التمرد على النظام القديم أكبر بكثير مما كان لدينا من عناصر بناء النظام الجديد، وأن النجاح في هدم الجمهوريات القديمة لا يضمن النجاح في إقامة جمهوريات جديدة.

خلال أسابيع قليلة تحرَّرت دول شرق أوروبا الشيوعية، وأسست ديمقراطيات فعالة. عقد ونصف العقد بعد الربيع العربي، وما زالت حروبه مستمرة في بعض البلاد، وأسئلته الكبرى مُعلَّقة بلا إجابات في كل البلاد، أسئلة الديمقراطية، ونظام الحكم المناسب، والإسلام السياسي، والاستمرارية والتغير.

سقطت أنظمة، وتم إطلاق الوعد الديمقراطي. تأسست ديمقراطية عرجاء وانشغل القائمون عليها بالمكايدات والانقسامات، فلم تعمل سوى لفترة قصيرة، عادت بعدها أشكال من النظام القديم إلى الحكم. هذه جمهوريات لا تعيش فيها دولة الاستبداد الأمني، ولا تعيش فيها الديمقراطية أيضاً. إنها محيرة، فيها ما يكفي لتقويض الاستبداد الأمني، لكن ليس لديها ما يلزم لقيام ديمقراطية مستدامة.

لدى المصريين تعبير بليغ عن الراقصين على السلم، لا شاهدهم سكان الطابق الأعلى ولا سمع بهم سكان الطابق الأسفل. هذا هو حال بلاد الشمال الأفريقي مع الديمقراطية.

إخفاق المحاولات الديمقراطية في منطقتنا يدعونا لنقاش جدّي حول شروط الديمقراطية. النشطاء المتحمسون لا يحبون النقاش الجدي في هذه المسألة؛ لأنها في نظرهم تهرُّب من الاستحقاق الديمقراطي الصالح لكل مكان وزمان. ما نعرفه هو أن الديمقراطية الحديثة بدأت في الظهور في القرن الثامن عشر، وليس قبله، عندما نضجت الظروف اللازمة لقيامها. حدث ذلك في بعض البلاد أسبق من غيرها؛ لأن المجتمعات لا تتطور بشكل متكافئ.

هذه جمهوريات محيرة... فيها ما يكفي لتقويض الاستبداد الأمني لكن ليس لديها ما يلزم لقيام ديمقراطية

يحدث التحول الديمقراطي في موجات تعكس عملية تاريخية، نطاقها النظام الدولي كله، لإنضاج شروط التحول الديمقراطي في البلاد المختلفة. محاولة دول الربيع تحقيق الديمقراطية جاءت منفصلة عن أي موجة عالمية للتحول الديمقراطي.

على العكس، فقد حدثت المحاولة العربية للتحول الديمقراطي عندما كان العالم يشهد موجة عكسية للانحسار الديمقراطي. وصلت الديمقراطية الليبرالية إلى ذروة ازدهارها بعد نهاية الحرب الباردة. في عام 2006 كان 60 في المائة من سكان العالم يعيشون في دول تحكمها نظم ديمقراطية ليبرالية، لكن طوال الثمانية عشر عاماً التالية، وفقاً لمؤسسة «بيت الحرية» التي ترصد وتقيس حالة الحرية في بلاد العالم المختلفة، فإن عدد الدول التي تناقص مستوى الحرية المتاح فيها زاد عن عدد الدول التي زاد مستوى الحرية المتاح فيها، بمعدل اثنين إلى واحد. هناك أيضاً تراجع في جودة الديمقراطية.

فبعد أن شهدت الدول والمجتمعات الغربية ما بدا أنه إجماع على القيم الليبرالية واقتصاد السوق والعولمة خلال العقد التالي لانتهاء الحرب الباردة، تزايدت خلال العقدين الأخيرين الشكوك حول القيم الليبرالية، وتآكل الإجماع حول المقصود بالقيم الديمقراطية، وانكمشت اتجاهات الوسط الآيديولوجي والسياسي. في ظل هذه الشروط غير المواتية حدثت محاولة الربيع الفاشلة لتحقيق الديمقراطية.

عتبة قيام الديمقراطية

للديمقراطية شرط اقتصادي. الدراسات الجادة تبين أن هناك عتبة معينة يكون قيام ديمقراطية فعالة ومستدامة تحتها أمراً غير مرجح. ستة آلاف دولار لمتوسط دخل الفرد هي العتبة التي رصدها الدارسون، فعند هذا المستوى تحقق الطبقات الاجتماعية درجة مناسبة من التبلور، وتظهر طبقة وسطى تلعب دوراً مركزياً في التحول الديمقراطي.

تحدث التمردات الديمقراطية حتى قبل الوصول إلى هذه العتبة، لكنها نادراً ما تقود إلى تأسيس ديمقراطية مستدامة. لم تشهد كل البلاد التي اجتازت العتبة الاقتصادية تحولاً ديمقراطياً، ولا كل البلاد الواقعة تحتها تعاني من الاستبداد. الشرط الاقتصادي لا يختزل التاريخ والواقع الاجتماعي والسياسي المعقد في عامل واحد، إلا أن العلاقة بين الديمقراطية والثروة تظل قائمة، فالحديث هنا عن نمط واتجاه واحتمالات، لا عن حالات بعينها. في كل الأحوال ليس من بين دول الشرق الأوسط التي جربت حظها في أثناء الربيع من اجتاز العتبة الاقتصادية للديمقراطية، وربما كان هذا أحد أسباب إخفاق المحاولة.

للديمقراطية شرط ثقافي - سياسي. قيام الديمقراطية يحتاج إلى قدر مناسب من الإجماع والتوافق الآيديولوجي والقيمي بين قوى المجتمع الرئيسية. الديمقراطية نظام فعال لحل الخلافات الآيديولوجية، لكن فقط ضمن حدود معينة.

عندما انقسم الأميركيون بين أنصار العبودية وأنصار التحرير، توقف النظام عن العمل، ووقعت الحرب الأهلية. الجمهورية الثانية في إسبانيا انتهت بحرب أهلية بالغة الفظاعة بين اليمين واليسار. الانقسام الآيديولوجي المتزايد في الولايات المتحدة وبلاد أوروبا الغربية يهدد بتراجع جودة الديمقراطية. في الديمقراطية يسلم الطرف الخاسر في الانتخابات السلطة طواعية، أولاً لأنه يدرك أن لديه فرصة أخرى للمنافسة، وثانياً لانتمائهما معاً، الخاسر والرابح، لنفس عائلة الأفكار والقيم.

عندما ينظر أحد الأطراف للطرف الآخر بوصفه العدو، تتوقف الديمقراطية عن العمل، ويمتنع الخاسر عن تسليم السلطة. اقتحام الكونغرس في السادس من يناير (كانون الثاني) قبل أربع سنوات كان بروفة محدودة لما يمكن أن يحدث عندما يقع انشقاق آيديولوجي وقيمي في المجتمع. على العرب إيجاد صيغ لتسوية الخلافات الآيديولوجية العميقة السائدة قبل محاولة الديمقراطية، فالأخيرة لم يتم تصميمها لحل الصراعات الآيديولوجية الحادة.

صورة أرشيفية للرئيس التونسي الراحل زين العابدين بن علي (غيتي)

صراع المعنى والهوية

صراعات الربيع لم تكن كلها من أجل الوظائف والأجور والخدمات والتمثيل السياسي، بل كانت أيضاً صراعات حول المعنى والهوية، والتي تتفجر في كل البلاد، من الهند وحتى الولايات المتحدة، وما الترمبية والتيارات الشعبوية اليمينية في أوروبا إلا تعبيراً عن هذه الظاهرة. حتى تيارات اليسار في بلاد غربية كثيرة أصبحت أكثر انشغالاً بالهويات المهمشة من انشغالها بالطبقات المحرومة. العرب ليسوا أعجوبة، وليس لديهم شيء يخجلون منه، رغم فجاجة أشكال التعبير عن صراعات الهوية في بلادنا.

الانقسام الآيديولوجي هو أحد أهم أسباب إخفاق الربيع. في كل مكان زاره الربيع في الشرق الأوسط دار صراع عنيف وحاد بين المصدرين الأكبر للمعنى: الوطن والدين. حاول الأصولي تهميش الوطني، فرد عليه الوطني بتهميش مضاد، فيما القوى الأخرى، الليبرالية واليسارية، تكتفي بعزف الموسيقى التصويرية والتشجيع. هذا الاستقطاب الثنائي مدمر، ولا مخرج منه إلا بظهور تيار ثالث يفكك الثنائية، أو بترويض المتطرفين، ليتقدموا بنسخة جديدة مقبولة غير مثيرة للفزع من أنفسهم.

قد تكون الديمقراطية صيغة صعبة المنال في بلاد لها ظروف بلادنا. ربما توافرت الظروف لبناء ديمقراطية كاملة في وقت لاحق. حتى لو لم نكن قادرين على بناء ديمقراطية كاملة، فإن جمهوريات الاستبداد المفرط لم تعد قابلة للحياة.

هذا هو درس الربيع العربي. الاستبداد الوحشي ليس هو البديل الوحيد لدمقرطة الجهوريات، فهناك صيغ تحقق الشرعية، فيما تضمن درجة عالية من الانضباط وفاعلية المؤسسات العامة. النظام السياسي للدولة الوطنية التنموية في سنغافورة يقوم على تعددية، تتنافس فيها الأحزاب السياسية في انتخابات نزيهة تحظى بالاحترام، يفوز بها نفس الحزب الذي حكم البلاد منذ عام 1959. سنغافورة من بين الدول العشر الأقل فساداً في العالم، ومن بين أسرعها نمواً، رغم أنها ليست ديمقراطية كاملة. هناك مساحات واسعة للتقدم حتى في غياب الديمقراطية.

قد تفترض الحكمة السائدة في العلوم السياسية أن الديمقراطية الليبرالية - جدلاً - أفضل نظام للحكم، لكن عملية بناء نظام سياسي لا تشبه في شيء التجول في الأسواق بحثاً عن أفضل نظام سياسي. المجتمعات تبني النظام السياسي الذي يناسبها، وليس النظام السياسي الأفضل. وفي الحقيقة، فإن النظام السياسي المناسب هو النظام السياسي الأفضل ضمن الميراث التاريخي والحقائق الاجتماعية والسياسية لكل مجتمع. هذا ما يجب على العرب مواصلة السعي إليه في ربع القرن المقبل.

* باحث مصري