«الشرق الأوسط» تنشرحلقات من كتاب «الزمن الجميل» يكشف «التاريخ الحميمي لرؤساء الجمهورية الخامسة» (2- 3): شيراك... شهية مفتوحة للنساء والطعام... وطبقه المفضل رأس العجل المطبوخ

الكاتب فرانز أوليفيه جيزبير: الرئيس الأسبق كان «شرهاً» في كل شيء... جاهزاً ليبلع البحر وأسماكه... كل شيء عنده صالح للأكل

برناديت الأرستقراطية... وشيراك ابن الشعب (غيتي)
برناديت الأرستقراطية... وشيراك ابن الشعب (غيتي)
TT

«الشرق الأوسط» تنشرحلقات من كتاب «الزمن الجميل» يكشف «التاريخ الحميمي لرؤساء الجمهورية الخامسة» (2- 3): شيراك... شهية مفتوحة للنساء والطعام... وطبقه المفضل رأس العجل المطبوخ

برناديت الأرستقراطية... وشيراك ابن الشعب (غيتي)
برناديت الأرستقراطية... وشيراك ابن الشعب (غيتي)

إذا كان فرانز أوليفيه جيزبير يرى في فرنسوا ميتران «حبه الذي لا يتفوق عليه حب آخر»، فإنه يعترف في كتابه «الزمن الجميل» بأنه أحب أيضاً الرئيس الأسبق جاك شيراك. لكنه يسارع إلى إيضاح أنه «لم يحب السياسي؛ بل أحب الرجل» الذي كان يقف خلف رجل السياسة، لا بل إنه يركز في إحدى صفحات الكتاب (الصفحة 197) على جانبه «الحيواني الطاغي».
يقول جيزبير: «قامته ممشوقة إلى الأعلى، وأنفه متأهب: شيراك كان جاهزاً ليبلع البحر وأسماكه. كان يلهث كالكلب، يركض كالحصان، يجامع كالأرنب، يأكل كالخنزير، كل شيء صالح للأكل».
يقول جيزبير: «كان شيراك فاهاً مفتوحاً بحاجة لملئه في كل وقت. سيجارته على طرف شفتيه، قميصه مفتوح، جميلاً كأحد آلهة الإغريق. كان يضج بحيوية لا مثيل لها عند أحد. كان يحب الناس، يتخطى الحواجز من اليمين واليسار، وكان يهوى الشراب. كان متسرعاً دوماً، خبيث النظرات. وقد نجح في أن يجر وراءه الديغوليين والاشتراكيين وأنصار الوسط، وحتى الشيوعيين في منطقته لا كوريز (وسط فرنسا)، وكنت أسمع من ناخبين في هذه الدائرة قولهم: أنا شيوعي الهوى؛ لكنني أنتخب لصالح شيراك».
ويضيف جيزبير: «لن أرى ولم أرَ أبداً رجلاً يمتلك الطاقة التي امتلكها شيراك. كان يحب الاحتكاك بالناس ولا يفرق بين اليمين واليسار. كان دوماً متعجلاً حتى في شؤون الحب»؛ حيث كانت له نجاحات يعرفها الجميع. ويذكّر جيزبير بما كانت تقوله عنه عشيقاته، من أن الأمور عنده «لا تتخطى الدقائق الخمس».
ومن نوادر شيراك أنه كان ينادي، تندراً، امرأته برناديت شوردون دو كورسيل، المتحدرة من عائلة بورجوازية عريقة، وقد تعرف إليها خلال سنوات دراسته في معهد العلوم السياسية في باريس: «ماما». ويحكى أن الأخيرة كانت تسأل مساء كل يوم معاونيه السؤال نفسه، وهو: «هل تعلمون أين ينام زوجي هذه الليلة؟».

لورانس ابنة شيراك... مأساة حياته الحقيقية

لم يكن زواج شيراك وبرناديت سهلاً؛ إذ إن عائلة الأخيرة رفضت بداية أن ترتبط ابنتهم برجل من عامة الشعب؛ لا بل إنها رفضت أن تتم مراسم الزواج باحتفال ضخم. لذا جرت مراسم الزواج بشيء من السرية في كنيسة متواضعة. وليس سراً أن عائلة برناديت ساعدت شيراك ليعبر إلى عالم السياسة. إلا أن الفضل الأكبر يعود لأحد كبار بارونات منطقة لا كوريز، هنري كويل، الراديكالي - الاشتراكي الذي مد له يد العون. وفي عام 1967 ترشح شيراك للنيابة في منطقة لا كوريز، رافضاً عرض جورج بومبيدو، رئيس الحكومة وقتها الذي اقترح عليه دائرة سهلة. ولأنه نجح في رهانه، بينما كان الآخرون يتوقعون فشله، فقد أثار حشرية الجنرال ديغول الذي عينه وزير دولة مسؤولاً عن شؤون العمالة، ما عبَّد له طريق السياسة والمناصب العليا في الجمهورية الفرنسية. وعمومًا، فقد مر شيراك بها جميعاً، من نائب إلى وزير دولة ووزير داخلية ورئيس حكومة ورئيس بلدية باريس، فرئيس للجمهورية؛ حيث أمضى في قصر الإليزيه 12 عاماً.

العشيقة التي كان مستعداً للتخلي عن كل شيء للزواج بها (غيتي)

يركز جيزبير على طباع شيراك الذي كان شعبياً، قريباً وبسيطاً في تعامله مع الناس، يصافح ويقبل أينما وُجد، ويوزع الابتسامات والتحيات وكلمات الإطراء، و«يدغدغ حتى مؤخرة الأبقار» عندما كان يفتتح المعرض الزراعي الذي يجري كل عام في باريس. ومن أراد أن يرى شيراك على حقيقته، كان عليه أن يتبعه وهو يتنقل بين أجنحة المعرض: كأس بيرة من جانب، وأخرى من الخمر في الجانب المقابل، وما بينهما مزيج من النقانق والسجق. وكان صحنه المفضل رأس العجل المطبوخ.
ويروي جيزبير غداء خاصاً دعاه إليه شيراك عندما كان يتابع إحدى حملاته الانتخابية، ويقول عنه إنه «منظر مدهش. فما كانت الأطباق توضع على الطاولة حتى تفرغ بلمح البصر». ويضيف الكاتب: «لم يكن يكتفي بالوجبات التقليدية؛ بل كان بحاجة لأن يأكل قبل الظهر والعصر»، وهو يقارنه بعمال البناء الذين يلتهمون السندويتشات بشراهة.
ومن الصور التي ينقلها جيزبير عن شيراك أنه كان دائم الحركة، لا يستطيع الجلوس دون أن يحرك ساقيه على الدوام، ويضرب الأرض بقدمه حتى خلال الاجتماعات الرسمية، وهو يشعل السجائر الواحدة بعد الأخرى.
شراهة شيراك امتدت إلى الجنس النسائي. ومن أبرز مغانمه الصحافية الشقراء جاكلين شابريدون، المولودة في عام 1940، والتي عملت في إذاعة لوكسمبورغ، ولاحقاً في صحيفة «لو فيغارو». ويقول جيزبير إن شيراك كان يعيش معها «قصة حب حقيقية»، وكان «مستعداً للتخلي عن كل شيء من أجلها». وكانت جاكلين متزوجة منذ سنوات من السياسي الاشتراكي شارل هيرنو الذي عينه الرئيس ميتران لاحقاً وزيراً للدفاع. لكن جاكلين تعرفت على شيراك في عام 1975، عندما كان رئيساً للوزراء، ووقعت في حبه؛ لا بل إنهما تقاربا إلى درجة أنهما عزما على الزواج رغم أن كلاً منهما كان متزوجاً من جانبه. إلا أن مستشارة شيراك السياسية ماري فرنس غارو، ذات الباع الطويل، منعت شيراك من الإقدام على هذه الخطوة، ونبهته من أنها قد تقضي على مستقبله السياسي. وذهبت غارو -وفق بعض الروايات- إلى حد اقتراح إعطاء عشيقة شيراك مبلغ 500 ألف فرنك مقابل قطع العلاقة، وقد نجحت في ذلك. ولكن لم يعرف ما إذا كانت جاكلين قد قبضت المبلغ أم لا. لكن ما هو معروف أنها حاولت لاحقاً الانتحار؛ لكن محاولتها فشلت. وبعد انفصالها عن هيرنو تزوجت مرتين.

شيراك مستقبلاً رفيق الحريري في قصر الاليزيه (غيتي)

ومن مغانم شيراك المعروفة أيضاً علاقته بالممثلة الإيطالية كلوديا كاردينالي، وهي علاقة لم تكن خافية على الفرنسيين. وتطول مسبحة النساء اللواتي أغراهن شيراك بقامته العالية وضحكته الرنانة وقدراته على التواصل. ومن الأسماء التي تتداول اسم ميشيل بارزاك التي عينها لاحقاً وزيرة للصحة، وأسماء أخرى كثيرة.
بيد أن في حياة جاك شيراك جرحاً عميقاً لم ينجح في علاجه أو تجاوزه، وهو مرض ابنته البكر، لورانس، التي كانت مصابة بمرض جسدي- نفسي أفقدها الشهية وأضعفها حتى الموت. وبعكس أختها كلود التي عملت إلى جانب والدها في قصر الإليزيه، فإن لورانس بقيت بعيدة عن الأضواء بسبب مرضها الذي أصابها وهي في سن الخامسة عشرة من العمر؛ لكنه لم يمنعها من أن تكمل دراستها وتصبح طبيبة. غير أن مرضها أنهكها شيئاً فشيئاً، وسعت عائلتها بكل ما تملك من وسائل لمساعدتها من غير أن تنجح. وعلى الرغم من انشغالاته وارتباطاته، فقد حرص والدها أن يراها باستمرار وأن يتناول الغداء معها مرتين في الأسبوع على الأقل، حتى ولو اضطر إلى تناول وجبتين. وحاولت لورانس الانتحار أكثر من مرة، وفي إحداها قفزت من نافذة شقتها. وفي أبريل (نيسان) من عام 2016 توفيت عن 58 عاماً بعد أن توقف قلبها عن النبض، وفشل الأطباء في إعادة تشغيله. وكلما سئل شيراك عن ابنته كان رده أنها «مأساة حياته».
يكرس جيزبير حيزاً كبيراً من حديثه عن شيراك لحياته السياسية، ولنزاعه مع الرئيس فاليري جيسكار ديستان الذي كان في زمانه أصغر رؤساء الجمهورية سناً (47 عاماً). ويروي الكاتب تفاصيل الحملة الرئاسية التي انطلقت مباشرة بعد وفاة الرئيس جورج بومبيدو في عام 1974، وهو في قصر الإليزيه، بداء السرطان. وقتها، كان في الساحة 3 مرشحين رئيسيين: الأول جاك شابان دلماس، رئيس الحكومة السابق ورئيس البرلمان ورئيس بلدية مدينة بوردو الشهيرة وصاحب برنامج إصلاحي متقدم. وكان شابان دلماس مرشح الحزب الديغولي الذي ينتمي إليه شيراك. والمرشح الثاني كان جيسكار ديستان، وزير المالية ومرشح تجمع الوسط، والثالث فرنسوا ميتران، أمين عام الحزب الاشتراكي. ومن جانبه، لم يكن شيراك، وزير الداخلية، يخفي طموحاته السياسية. وبسب انتمائه كما شابان دلماس للتيار الديغولي، كان من المفترض به أن يدعم مرشح حزبه. إلا أنه كانت لشيراك حسابات سياسية مختلفة، إذ اعتبر أن نجاح شابان دلماس سوف يضعفه ويقطع عليه طريق المستقبل. من هنا، عمد إلى تعبئة 33 نائباً في البرلمان و4 وزراء وشخصيات أخرى من حزبه، وأصدروا «نداء الـ43»، وفيه دعوا لانتخاب جيسكار ديستان الذي فاز بالرئاسة متقدماً على فرنسوا ميتران بـ425 ألف صوت فقط. وكانت مكافأته بأن سماه جيسكار ديستان رئيساً للحكومة، بحيث أصبح شيراك في سن الـ42 عاماً أصغر رئيس للحكومة سناً. لكن، منذ تلك الفترة، اتُّهم شيراك بالوصولية؛ لا بل بالخيانة وبتقديم المصلحة الشخصية على المصلحة الحزبية والعامة.

الرئيس شيراك والممثلة كلوديا كاردينالي (غيتي)

لكن العلاقة بينه وبين جيسكار لم تكن «شهر عسل»؛ بل علاقة متوترة. شخصيتان مختلفتان: من جهة شيراك الملتهب والمستعجل دوماً: «ابن الشعب»، ومن الجهة المقابلة جيسكار ديستان، السياسي الأرستقراطي، ذو الدم البارد الذي سعى منذ بداية عهده لقص جناحي شيراك.
ويروي جيزبير أحد المشاهد التي تعكس التوتر بين الجانبين، ورغبة جيسكار في «إهانة» رئيس الوزراء الذي عينه. ويحصل ذلك في قصر الإليزيه؛ حيث حمل شيراك بيانه الوزاري لرئيس الجمهورية الذي جمع حوله بعض كبار وزرائه، ومن بينهم الوزير جان جاك سيرفان شرايبر، رئيس تحرير مجلة «الإكسبريس» المعروفة. وفي هذه الجلسة، بدا شيراك كطالب يتم امتحانه، أو كصحافي متمرن يطلب منه إعادة كتابة موضوعه. وقال له شرايبر: «هذه المادة بحاجة إلى إعادة النظر بها... إنها لا تساوي شيئاً. ولو كان بومبيدو موجوداً لقال الشيء نفسه». وليس هذا المشهد سوى غيض من فيض.
ويسرد جيزبير قصة دعوة شيراك وزوجته إلى قضاء عطلة نهاية الأسبوع في «حصن بريغانسون» المطل على مياه المتوسط. وهناك، بدت معاملة جيسكار لـشيراك وزوجته مهينة، إذ دعي إلى العشاء مدرب التزلج، وأُجلس الضيفان على كرسيين، بينما جيسكار وزوجته أنيمون خصص لهما مقعدان وثيران.
ويعتبر جيزبير أن جيسكار أراد أن يجعل من شيراك موظفاً ينفذ أوامره وسياساته، وأكثر من ذلك، سعى لوأد الحزب الديغولي المنافس لتجمع الوسط، وهو ما فهمه شيراك الذي نجح في وضع اليد عليه ليجعله أداته الحربية بوجه رئيس الجمهورية. وانتهت العلاقة الجدلية بين الطرفين إلى «الطلاق»؛ حيث قدم شيراك استقالته من رئاسة الحكومة بشكل لم يسبقه إليه أي رئيس حكومة سابق، إذ أعلن ذلك بواسطة بيان مختصر وزع على الصحافة. وفي الانتخابات الرئاسية اللاحقة، لم يتردد شيراك في الترشح منافساً لجيسكار، وحصل على 18 في المائة من الأصوات. واعتبر مناصرو الأخير أن شيراك كما «خان» شابان دلماس في 1974 كذلك «خان» جيسكار في 1981؛ حيث لم يدعُ حزبه وناخبيه للاقتراع لصالحه في الدورة الثانية؛ بل اكتفى بالقول إنه «شخصياً» سيصوت له. والنتيجة كانت أن جيسكار خسر وخرج من الإليزيه.
ويقول جيزبير عن شيراك (صفحة 265) فيما يبدو أنه حكم نهائي: «إنه رجل مسكون. لم أفهم أبداً ما الذي كان يلتهمه من الداخل. هل هو الحيوية المتدفقة؟ هل هو القلق الوجودي؟ هل هو كره الذات؟ هل هي المازوشية؟ لا شك إنها هذه الأمور الأربعة معاً التي تجعله يمدد يومه إلى ما لا نهاية. لم أحب أن ألج إلى رأسه الذي لم يكن دوماً ممتلئاً».
«الشرق الأوسط» تنشر حلقات من كتاب «الزمن الجميل» للكاتب الفرنسي فرانز أوليفيه جيزبير (1- 3): كتاب مثير ينزع «ورقة التين» عن الرئيس الفرنسي الأسبق ميتران
 

«الشرق الأوسط» تنشرحلقات من كتاب «الزمن الجميل» يكشف «التاريخ الحميمي لرؤساء الجمهورية الخامسة» (3-3): «الزمن الجميل» يرسم صورة «الرئيس الأرستقراطي» المتأرجح بين التقليد والحداثة


مقالات ذات صلة

معرض الرياض الدولي للكتاب يختتم 10 أيام من الاحتفاء بالكتاب والثقافة

يوميات الشرق جذبت فعاليات المعرض وأنشطته الثرية والمتنوعة أكثر من مليون زائر (هيئة الأدب)

معرض الرياض الدولي للكتاب يختتم 10 أيام من الاحتفاء بالكتاب والثقافة

بحلول مساء يوم (السبت) انقضت الأيام العشرة من فعاليات معرض الرياض الدولي للكتاب 2024، وتم إسدال الستار على المعرض الذي انطلق تحت شعار «الرياض تقرأ».

عمر البدوي (الرياض)
ثقافة وفنون جانب من توقيع اتفاقية ونشر عدد من الكتب الصينية للعربية بين «دار كلمات» وجامعة الدراسات الأجنبية ببكين (الشرق الأوسط)

اتفاقية لترجمة الثقافة الصينية ونشرها في الخليج

يشمل الاتفاق ترجمة الكتب الفلسفية والتاريخية التي تعنى بالجانبين الصيني والعربي.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
كتب ميشيل فوكو

من «إيخمان في القدس» إلى «من أجل السماء»

حين تكون الضحية نتاجاً لثنائية متضامنة: غياب العقل وعبثية الشر.

شرف الدين ماجدولين
كتب محمد مبوغار صار

القائمة الأولى لـ«الغونكور»... حضور مميّز للكتاب الأفارقة

بعد أيام من انطلاق الموسم الأدبي، كشفت أكاديمية «الغونكور» عن القائمة الأولى للكتاب المرشحين للفوز بالجائزة الأدبية هذه السنة.

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب غلاف الرواية

الكاتبة السعودية عائشة مختار في «الريح لا تستثني أحداً»

تقدم الكاتبة السعودية عائشة مختار عملها «الريح لا تستثني أحداً» بوصفه «مُتتالية قصصية»، ينهض معمارها على فن القصة القصيرة المُكثفة

منى أبو النصر (القاهرة)

التنوير... لماذا يخشاه أشباه المثقفين العرب؟

ديدرو
ديدرو
TT

التنوير... لماذا يخشاه أشباه المثقفين العرب؟

ديدرو
ديدرو

يعتقد الناس أحياناً أن التنوير مجرد ترف فكري خطر على بال بعض المثقفين الأوروبيين أن يخترعوه ويتسلوا به لكي يخرجوا من الدين على سبيل المشاكسة ليس إلا. بل ويتوهم البعض أنهم اخترعوه لكي يتفاخروا به على الآخرين: أنا تنويري وأنت غير تنويري إلخ... كل هذا شيء زهيد وسخيف. في الواقع إنه ظهر تلبية لحاجة تاريخية ملحة جداً وعاجلة. لقد كان علاجاً ناجعاً لمشاكل طائفية أو مذهبية مزقت المجتمعات الأوروبية على مدار القرون السابقة. ومعلوم أن فرنسا عانت من الحروب المذهبية ما عانته. كما وعانت من التعصب الأعمى الكاثوليكي على وجه الخصوص. فالأغلبية الكاثوليكية دمرت الأقلية البروتستانتية تدميراً بعد أن اتهمتها بالهرطقة والكفر والخروج على «صحيح الدين»، أي على المسيحية الصحيحة التي لا يمكن أن تكون إلا كاثوليكية، حسب وجهة نظرهم. كان الكاثوليك يعدّون أنفسهم آنذاك بمثابة الفرقة الناجية في المسيحية. هم وحدهم في الجنة وباقي الفرق في النار. ولهذا السبب حاولوا استئصال البروتستانتيين. يكفي أن نتذكر هنا مجزرة سانت بارتيليمي التي اندلعت في باريس يوم 24 أغسطس (آب) عام 1572: أي قبل خمسمائة سنة تقريباً. وقد اندلعت في العاصمة أولاً قبل أن تنتقل إلى الأقاليم البعيدة وكبريات المدن كبوردو وتولوز وليون وسواها. (بين قوسين يجمع المؤرخون على أنه ذهب ضحيتها ثلاثون ألف شخص. وهو رقم ضخم بالنسبة لذلك الزمان ويساوي الآن ثلاثمائة ألف شخص على الأقل).

جان جاك روسو

كان الهدف في البداية تصفية قادة الطائفة البروتستانتية وليس الشعب البروتستانتي ككل. وقد أمر الملك الكاثوليكي شارل التاسع بإيقاف المذبحة منذ اليوم الأول. ولكن عامة الشعب الهائجة المشحونة بالتعصب شحناً من قبل الأصوليين ورجال الدين لم تستمع لأوامره فذبحوا البروتستانتيين بشكل أعمى حيثما ثقفوهم أو وجدوهم. وهكذا خرجت الأمور عن حد السيطرة. ومعلوم أنه عندما يُطلق للغرائز الطائفية العنان فلا أحد يعرف أين تتوقف ولا كيف... لن تتوقف قبل أن يشبع الدم من الدم... وهذا أكبر دليل على أن الشعب كان أكثر تعصباً من قائده أو مليكه. إذ حتى الملك الكاثوليكي المبجل جداً عجز عن إيقاف الشعب الهائج!

عندما يتذكر الفرنسيون المعاصرون ذلك لا يكادون يصدقون ما حصل. والسبب هو أنه لم يعد هناك أي أثر للتعصب الطائفي في فرنسا الحداثية العلمانية المعاصرة. فالبروتستانتيون والكاثوليكيون أصبحوا جميعاً مواطنين درجة أولى ومتساوين في الحقوق والواجبات أمام دولة القانون والمؤسسات. لقد حلت العصبية الوطنية أو القومية الفرنسية كلياً محل العصبيات الطائفية الضيقة. وهذا معاكس لما يحصل في المشرق العربي حالياً حيث لا وجود تقريباً للعصبية الوطنية الجامعة، وإنما كل المحبة والتعصب للطائفة. والسبب هو أنه لم يظهر حتى الآن فكر تنويري في العالم العربي، فكر قادر على تفكيك العصبيات الطائفية الراسخة رسوخ الجبال كما فعل فلاسفة التنوير في فرنسا وعموم أوروبا. لم يظهر فولتير عربي ولا سبينوزا عربي ولا كانط عربي... إلخ. وما دام الأمر كذلك فسوف تستمر الطائفية في الهيمنة على عقول الناس، بخاصة عامة الشعب البسيط، بل وحتى قسم كبير من المثقفين أو أشباه المثقفين.

لقد أراد الحزب الكاثوليكي الأصولي الطائفي المتعصب جداً أن يفني البروتستانتيين ويستأصلهم عن بكرة أبيهم. وهي المجزرة التي صفق لها بابا روما آنذاك معتبراً إياها بمثابة الانتصار المبارك الميمون للإيمان الصحيح. قال بالحرف الواحد: الحمد لله اليوم انتصر الإيمان الحقيقي على الزندقة والكفر... وفور سماعه بالنبأ أمر بإقامة صلاة الشكر في جميع كنائس روما حيث قرعت الأجراس في كل مكان احتفالاً بالنصر. راح يرفع آيات الابتهال إلى الله تعالى لأنه أنقذ أرض فرنسا الكاثوليكية الطاهرة من رجس الهراطقة البروتستانتيين لعنهم الله!

لولا هذه المجازر، لولا هذا الجو المشحون بالتعصب الطائفي والمذهبي، لما ظهر فولتير ولا ديدرو ولا جان جاك روسو ولا الموسوعيون ولا كل فلاسفة الأنوار. لقد ظهروا كرد فعل على هذا الفهم الطائفي المتعصب والمرعب للدين المسيحي. وهو فهم أصولي يخلع المشروعية الإلهية على المجازر الطائفية بل ويعدّها تقرباً إلى الله تعالى. وبالتالي فهناك فهم طائفي للدين وفهم غير طائفي. هناك فهم آخر للدين ممكن غير فهم «الإخوان المسلمين» والخمينيين وبقية الظلاميين. هذا شيء لم يُستوعب بعد في العالم العربي بل ولا يخطر على البال. ولا أقصد بال الجماهير الأمية الغفيرة المعذورة، وإنما أقصد بال المثقفين أيضاً إلا من رحم ربك! ولكن المسيحية الأوروبية تجاوزته بسنوات ضوئية بفضل جهود فلاسفة الأنوار.

هذا التطور اللاهوتي الهائل، هذه الثورة الفكرية التنويرية، لم تحصل حتى الآن إلا في أوروبا والمسيحية الأوروبية. ولكن البابا الأسبق بقي أصولياً أحياناً على الرغم من علمه الغزير. والدليل على ذلك أنه كان يعدُّ البروتستانتيين وربما الأرثوذكس مسيحيين بشكل ناقص لا بشكل كامل على عكس الكاثوليكيين. بمعنى آخر، فإنه ظل يعتقد في قرارة نفسه أن الفرقة الناجية الوحيدة في المسيحية هي المذهب الكاثوليكي البابوي الروماني الذي يمثل الأكثرية أو الأغلبية العددية. هذا لا يعني أنه ظل يكفر المذاهب المسيحية الأخرى غير الكاثوليكية، كما كان يفعل أسلافه في القرون الماضية. لا، أبداً. لكنه يعني أنه لم يتخلص كلياً من رواسب العصور الوسطى ولاهوتها القديم على عكس المفكر الكاثوليكي التحريري الرائع هانز كونغ.

التنوير العربي سيؤدي إلى المصالحة التاريخية بين الدين والفلسفة، بين الإيمان والعقل، بين الإسلام والحداثة


وهل تعتقدون أنه لولا حرب الثلاثين عاماً التي اجتاحت ألمانيا وكل أوروبا كان سيظهر لايبنتز وليسنغ وكانط وفيخته وهيغل وبقية التنويريين الألمان العظام؟ ثلث سكان ألمانيا قتلوا في تلك الحرب الطائفية الرهيبة التي جرت بين الكاثوليكيين والبروتستانتيين. لهذا السبب قرر فلاسفة التنوير الاشتباك مع الإخوان المسيحيين وتفكيك تفسيرهم الانغلاقي والطائفي المتعصب للدين المسيحي. لهذا السبب قرروا تفكيك فتاواهم الدينية اللاهوتية القاتلة أو التي تخلع المشروعية «الإلهية» على القتل والذبح. وهي الفتاوى ذاتها التي لا تزال تعاني منها المجتمعات العربية والإسلامية حتى اللحظة.

لا يمكن أن نفهم ملحمة الحداثة وصعودها الصاروخي في أوروبا إن لم نأخذ كل هذه الحقائق بعين الاعتبار. أحياناً يقول بعض المثقفين العرب: يا أخي ما علاقتنا بالتنوير؟ ما حاجتنا إليه؟ يا أخي التنوير ظهر في أوروبا إبان القرن الثامن عشر قبل 200 سنة فهل تريدون إعادتنا إلى الوراء مدة قرنين أو أكثر؟ هل نحن بحاجة إلى تيار فكري مضى وانتهى؟ عندما يقولون ذلك فإنهم يرتكبون مغالطة رديئة أو سفسطة مجانية ليس إلا. إنهم يريدون قطع الطريق على التنوير، ومنع حصوله في العالم العربي والإسلامي ككل. وهذا يعني إدامة العصر الطائفي إلى ما لا نهاية. وهم بذلك متواطئون ضمناً مع «الإخوان المسلمين» وبقية الرجعيين ولكنهم لا يتجرأون على التصريح بذلك علناً مخافة أن يقال عنهم إنهم ضد الحداثة والعصر والتطور. ونحن نسألهم: التنوير مضى وانتهى بالنسبة لمن؟ هل مضى وانتهى بالنسبة للشعوب الأفغانية الطالبانية والعربية والتركية والإيرانية والباكستانية، أم مضى بالنسبة للشعب الفرنسي والألماني والإنجليزي وبقية الشعوب الأوروبية المتطورة التي لم تعد تعاني من أي مشكلة طائفية أو مذهبية؟ هذا السؤال كافٍ لإفحامهم وتبيان خطأ موقفهم ومغالطاتهم ومكابراتهم. ماذا نستنتج من كل ذلك؟ نستنتج شيئاً واحداً: وهو أن التنوير لا يزال أمام المثقفين العرب لا خلفهم على عكس المثقفين الأوروبيين. نستنتج أننا لن نستطيع الإفلات من استحقاق التنوير مهما حاولنا أو فعلنا. نستنتج أن هناك تفاوتاً تاريخياً كبيراً بين المجتمعات المسيحية الغربية والمجتمعات الإسلامية عربية كانت أم غير عربية. نستنتج أن التنوير العربي قادم لا ريب فيه. لكنه لن يكون نسخة طبق الأصل عن التنوير الأوروبي وإنما ستكون له فرادته وعبقريته الخاصة. لن يؤدي إلى الإلحاد المطلق، كما حصل في الغرب، وإنما سيؤدي إلى المصالحة التاريخية بين الدين والفلسفة، بين الإيمان والعقل، بين الإسلام والحداثة.