القائمة الأولى لـ«الغونكور»... حضور مميّز للكتاب الأفارقة

غاييل فاي وكمال داود من بين المرشحين بالفوز

محمد مبوغار صار
محمد مبوغار صار
TT

القائمة الأولى لـ«الغونكور»... حضور مميّز للكتاب الأفارقة

محمد مبوغار صار
محمد مبوغار صار

بعد أيام من انطلاق الموسم الأدبي، كشفت أكاديمية «الغونكور» عن القائمة الأولى للكتاب المرشحين للفوز بالجائزة الأدبية هذه السنة. وضمت القائمة 16 عملاً روائياً، تليها قائمة ثانية من 8 أسماء ثم القائمة الأخيرة من 4 أسماء إلى أن يتم أخيراً الإعلان عن اسم الفائز في الرابع من شهر نوفمبر (تشرين الثاني).

القائمة الأولى تميزت بحضور قوي لكتاب من أفريقيا، طغت على أعمالهم إشكاليات الذاكرة والهوية والمنفى والحداثة من منظور تجاربهم الشخصية والثقافية. أبرز هؤلاء: الجزائري كمال داود عن روايته «الحور» (دار نشر غاليمار)، وغاييل فاي وروايته «الجاكرندا» (دار نشر غراسي) والمغربيان عبد الله الطايع عن روايته «معقل الدموع» (دار نشر غوليار)، وروبين باروك عن عمله «كل ضجيج كليز» (دار نشر ألبان ميشيل).

كمال داود

هذه الأعمال الروائية لفتت انتباه النقاد فأشادوا بقيمتها الأدبية، ومعها بالتأثير المتزايد للأقلام الأفريقية ومساهمتها الإيجابية في بعث الحيوية في المشهد الأدبي الفرنكفوني. اثنان من الروائيين الأربعة مرشحان للفوز بجائزة «الغونكور» لسنة 2024، حيث نقلت كثير من وسائل الإعلام أن كلاً من غاييل فاي وكمال داود يملكان حظوظاً قوية للفوز بالجائزة الأدبية هذه السنة. وقد سبق للكاتب غاييل فاي (42 سنة) أن فاز بعدة جوائز عن روايته الأخيرة «وطني الصغير» (دار نشر غراسي) التي استحضر فيها معاناة طفل حاصّرته ذكريات الطفولة والأحداث البهيجة والمأساوية التي عاشها قبل أن يغرق وطنه الأم رواندا في بحر من المجازر الدموية. غاييل فاي عاد هذه السنة وبعد غياب دام ثمانية أعوام برواية «جاكاراندا» التي يواصل فيها استكشاف إشكالات المنفى والذاكرة والهويات المتعددة من موطنه رواندا التي يعيش فيها الآن.

في حوار مع صحيفة «لوموند» بعنوان: «الجاكرندا المسلسل الأدبي...»، وصف غاييل فاي عمله الأخير بما يلي: «جذور شجرة الجاكرندا تغوص في أراض كثيرة مثل قصّة حياتي، وأزهارها البنفسجية الجميلة تشهد على ميلاد مزيج جميل من المنفى والقدرة على التأقلم».

غاييل فاي

الكاتب الجزائري كمال داود يعد أيضاً من أقوى المرشحين، وكان قد اقترب من الجائزة دون أن يفوز بها عام 2014 بفضل نجاح روايته المثيرة للجدل «مرسو القضية المضادة» (دار نشر غاليمار) التي كان قد استوحاها من رواية ألبير كامو ذائعة الصيت (الغريب 1942) معيداً سرد أحداث الرواية من وجهة نظر الضحية. في عمله الجديد «الحور» (دار نشر غاليمار) يستكشف الكاتب الجزائري التوترات بين التقاليد والتحولات التي تمر بها المجتمعات العربية من خلال قصّة «فجر»، وهي فتاة تنجو من الذبح في عملية إرهابية تعرضت لها وهي طفلة، فتعيش خرساء لكنها تصبح صوتاً لضحايا العشرية السوداء التي مرت بها الجزائر في حقبة التسعينات.

عبد الله الطايع

رواية الكاتب المغربي عبد الله الطايع «معقل الدموع» (دار نشر غوليار) لاقت هي الأخرى اهتمام النقاد وهي تروي بشجاعة وحساسية إشكاليات الحب والتهميش في مجتمع مغربي لا يزال محافظاً للغاية. خلال عرض تقديمي لكتابه، قال الكاتب المغربي المقيم في فرنسا: «(معقل الدموع) صرخة ونداء للإنسانية. إنها قصّة أناس يحبون ويعيشون بشكل مختلف، ويبحثون رغم كل شيء عن مكانهم في عالم لا يفهمهم دائماً».

الروايات الأفريقية المرشحة تعالج إشكالات الذاكرة والهوية والمنفى والحداثة

ويُكمل هذه القائمة روبن باروك، وهو كاتب من أصول يهودية سيفاردية وقد نقل من خلال روايته الجديدة «مع كل ضجيج كليز» (دار نشر ألبان ميشيل) صورة حيّة لمدينة مراكش التي عرفت مولد أجداده. تميز العمل بتحليل دقيق للتحولات التي يشهدها المجتمع المغربي عامة والجالية السيفاردية بصّفة خاصة من خلال شخصية جدتّه بوليت. الحضور القوي للكتاب ذوي الأصول الأفريقية في قوائم المرشحين لـ«جائزة الغونكور» ليس وليد اليوم، بل هو جزء من تقليد قديم وعلامة قوية على الاعتراف المتزايد بالأدب الأفريقي على الساحة العالمية بصفة عامة ومساهمته في إثراء الأدب الفرنكفوني بصفة خاصة. وقد كان رينيه ماران أول كاتب أسود يفوز بـ«جائزة الغونكور» عام 1921 عن روايته «باتوالا»، التي انتقد فيها الاستعمار بشّدة وشكلت نقطة تحول في تاريخ الأدب الفرنسي، ثم الكاتب المغربي الطاهر بن جلون في 1987 عن روايته «الليلة المقدّسة». وآخرهم كان الكاتب السنغالي محمد مبوغار صار الذي حاز على الجائزة الأدبية المرموقة سنة 2021 عن روايته: «الذاكرة الأكثر سرّية للرجال» (دار نشر فيليب راي)، حيث استكشفت الرواية المستوحاة من قصّة «كاتب أفريقي منسي» بأسلوب أشاد به النّقاد إشكالات الذاكرة والأدب وهويات ما بعد الاستعمار، في الوقت الذي نسجت فيه روابط معقدة بين أفريقيا والغرب. ورغم أن الفائز لا يحصل على أي مكافأة مالية كبيرة، فإن جائزة «الغونكور»، إضافة لأنها تجسيد لاعتراف الوسط الأدبي، فهي أيضاً مرادفة لنجاح شعبي ومادي كبير. فوفقاً لأرقام معهد «أديستا» وصلت مبيعات الرواية الأخيرة الفائزة «الاعتناء بها» للكاتب جان باتيست أندريا إلى 570 ألف نسخة وقبله رواية محمد مبوغار صار «ذاكرة الرجال» بـ560 ألف نسخة رغم أن الكاتب لم يكن معروفاً قبلها.


مقالات ذات صلة

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

ثقافة وفنون أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

صدر العدد الجديد من مجلة «الفيصل»، وتضمن مواضيع متنوعة، وخصص الملف لصناعة النخب في الوطن العربي، شارك فيه عدد من الباحثين العرب

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون أفلاطون

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية تختلف عما نراه في أفلام السينما

خالد الغنامي
ثقافة وفنون عبد الزهرة زكي

عبد الزهرة زكي: الكتابة السردية هبة هداني إليها الشعر

«غريزة الطير» رواية للشاعر العراقي عبد الزهرة زكي، صدرت أخيراً في بغداد، ولاقت احتفاءً نقدياً ملحوظاً، وهي الرواية الأولى له بعد صدور مجموعته الشعرية الكاملة

علاء المفرجي (بغداد)
ثقافة وفنون عادل خزام

«مانسيرة» تجمع شعراء العالم في قصيدة واحدة

تُغذّى جذور القيم الثقافية كلما تعمقت صلتها بتراث الأمكنة والناس. لكن ماذا لو اكتشفنا أن العالم، بقاراته الخمس، قادرٌ على أن يكون مهداً لقصيدة واحدة؟

شاكر نوري (دبي)

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
TT

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل الحياة، أصل الوعي.

الوعي بين هذه الموضوعات الثلاثة ظلّ اللغز الأكثر إثارة ورهبة واستجلاباً للأسطرة والمقاربات غير العلمية، وربما تكون عبارة «الشبح في الآلة The Ghost in the Machine» التي شاعت منذ أيام الفلسفة الديكارتية تمثيلاً للوعي تتفق مع ثنائية العقل-الجسد The Mind-Body Duality. بمقتضى هذه الثنائية الديكارتية يكون الوعي كينونة غير مادية (الشبح) وقد استوطن في كينونة مادية (الآلة أو الجسد البشري).

فضلاً عن الأهمية الفلسفية لدراسة الوعي فقد صارت المقاربات العلمية في هذه الدراسة تتعاظم يوماً بعد آخر بسبب ارتباطها العضوي مع موضوعات عظيمة الأهمية في مقدّمتها مباحث الذكاء الاصطناعي بكلّ تفريعاته (الذكاء الاصطناعي العام، تعلّم الآلة، الشبكات العصبية...)، بعبارة أخرى: صار الوعي موضوعاً يقع في صميم الجهد البحثي الذي تتأسّس عليه القيمة الجيوستراتيجية للدولة المعاصرة. أمرٌ آخر تتوجّب الإشارة إليه: الوعي بطبيعته جهد بحثي عابر للتخصصات؛ لذا فهو يتناغم مع طبيعة المباحث العلمية المميزة لعصرنا.

لكن، بعيداً عن الأسباب البحثية والاستراتيجية، لماذا يتوجّبُ على كلٍّ منّا أن يهتمّ بأمر الوعي على مستوى شخصي بمقدار قد يزيد أو ينقص بين الأفراد؟ أوّلاً يتوجّبُ علينا الانخراط في هذا المسعى لأنّ الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم، أو هو بوّابته إلى العالم، وأعني بهذه البوّابة: التجارب الحسية Sensory Experiences، ومن الطبيعي أنّ كلاً منّا يتوق لأن يفهم -بكيفية علمية منسّقة ومنضبطة وليس بتفكّرات شخصية متناثرة- لماذا يعدّ الوعي البوّابة الأساسية لتجاربنا في العالم. يحبّ كلّ منّا هذا المسعى ولا يرغب في جعله اختصاصاً حصرياً للفلاسفة وعلماء الأعصاب ومطوّري الذكاء الاصطناعي بكلّ متفرّعاته. ثانياً: دراسة الوعي في غاية الأهمية أيضاً في جوانب الغاية Purpose والمعنى Meaning في حياتنا البشرية. ليس في قوانين الفيزياء ما يشيرُ إلى المعنى، وليس مِنْ معادلة لحساب المعنى في تلك المعادلات. لا أظنّ -وسيتشارك معي كثيرون كما أحسب- أنّ الاكتفاء بالتطلّع في كوننا يمنحنا معنى لحياتنا هو ما يحقّقُ فعلاً هذا الأمر؛ لأننا نحن من يخلعُ المعنى على كوننا. يحصل هذا الأمر لأننا نمتلك الوعي الذي يتيحُ لنا اختبار الأشياء والتعامل معها. لدينا هنالك بعيداً في تخوم الكون البعيدة مجرّات كثيرة العدد وجميلة بما يفوق التصوّر. لماذا هي جميلة؟ لأنّنا واعون بها. هي صارت جميلة لأننا نمتلك وعياً يخبرنا أنها جميلة. أعيد القول ثانية: الوعي هو ما يخلعُ معنى وغاية على الحياة.

الدراسات الخاصة بالوعي

يُنظرُ في الأوساط الأكاديمية العالمية إلى سوزان بلاكمور Susan Blackmore على أنّها مؤلفة الكتاب المرجعي في دراسة الوعي، وأقصدُ بهذا كتابها الشائع بين دارسي علم النفس والعلوم العصبية والإدراكية وفلسفة العقل والذكاء الاصطناعي، وأشيرُ بهذا إلى كتابها الموسوم «الوعي: مقدّمة Consciousness: An Introduction» الذي صدرت طبعته الرابعة عن دار نشر «راوتليدج Routledge» قبل بضعة شهور. سوزان بلاكمور عالمة نفس وكاتبة حرة ومحاضرة جامعية بريطانية، ألّفت الكثير من المقالات العلمية وأسهمت في تأليف عددٍ من الكتب. تكتب في مجلات وصحف كثيرة، وكثيراً ما تشارك في برامج إذاعية وتلفازية في المملكة المتحدة أو خارجها. قدّمت الكثير من البرامج التلفازية التي نالت شهرة واسعة بما في ذلك برنامجٌ وثائقيٌ حول ذكاء القردة. من بين كتبها الأخرى سيرة ذاتية بعنوان: «بحثاً عن النور» 1996، و«حوارات عن الوعي» 2005.

ما يميّزُ كتاب بلاكمور هو جمعها بين الخبرة الأكاديمية وتقنيات التعامل مع النطاق العام، فهي معروفة باهتمامها بموضوعات التأمّل والامتلاء الروحي والذهني والباراسايكولوجيا، وقد أفردت كتاباً كاملاً للحديث عن تجربة شخصية خاصة بها شهدت فيها ما تُدعى تجربة مغادرة الجسد Out of Body Experience، وقد حكت عن هذه التجربة في سيرتها الذاتية.

الخصيصة الثانية في كتابها هو مشاركة ابنتها لها في تأليف الكتاب، وتلك علاقة نادرة للغاية بين المؤلفين. لن نتغافل بالتأكيد عن النكهة الفلسفية الأنيقة التي طبعت لغة الكتاب (مثل تناول الإرادة الحرّة وعلاقتها بالوعي)، وهذا أمرٌ متوقّعٌ فيمن يكتب عن موضوع الوعي.

ثمّة موضوعان علينا الانتباه إليهما عند دراسة الوعي: هل سنبلغُ يوماً مرحلة الفهم العلمي الكامل للوعي؟ تؤكّد بلاكمور: لا أظنّ ذلك. الفرق بين حيوان حيّ وآخر ميّت ليس محض فرق نوعي يكمنُ في أنّ الحيوان الحيّ (الإنسان على سبيل المثال) يمتلك نوعاً من مصدر للحياة السرية فيه (بكلمة أخرى: الوعي). الحيوانات الحيّة ميكانيزمات فعّالة دينامية دائمة التغيّر؛ في حين أنّ انكساراً أصاب ميكانيزمات الحركة والتغيّر في الحيوانات الميتة.

تكمن صعوبة وتعقيد دراسة الوعي في حتمية اقتران دراسة الشيء مع موضوع الدراسة؛ بمعنى آخر: استخدام الوعي في دراسة الوعي ذاته! يحضرني هنا مثالاً عبارةٌ قالها جون ناش في الفيلم السينمائي الرائع الذي يحكي سيرته الذاتية «عقل جميل». أخبر ناش طبيبه أنّه سيستخدم عقله في علاج اضطرابه الذهاني، فأجابه طبيبه: ولكن كيف تعالجُ نفسك بما هو المتسبّبُ في مرضك؟ لن تستطيع هذا. في السياق ذاته تصف بلاكمور صعوبة دراسة الوعي وتعريفه فتقول:

«يبدو أنه يَلزمنا إما أن نستخدم الوعي لدراسته هو نفسه، وهي فكرة غريبة نوعاً ما، وإما أن نحرِّرَ أنفسَنا من الوعي الذي نودُّ دراستَه. ولا عجب أن الفلاسفة والعلماء قد بذلوا جهوداً مضنيةً على مدى قرنين من الزمان من أجل الوصول إلى مفهوم الوعي، ولا عجب أيضاً أن العلماء رفضوا الفكرةَ برمَّتها لفترات طويلة؛ بل رفضوا أيضاً دراستَها. الانعطافة الإيجابية أنّ «الدراسات الخاصة بالوعي» أخذَتْ في الازدهار بدءاً من القرن الحادي والعشرين. وصل علم النفس وعلم الأحياء وعلم الأعصاب إلى نقطةٍ يمكن عندها مواجَهةُ بعضِ الأسئلة المحيِّرة على غرار: ما الذي يفعله الوعيُ؟ وهل كان لنا أن نتطوَّر من دونه؟ وهل يمكن أن يكون الوعي وَهْماً؟ وما الوعي على أي حال؟».

تؤكّدُ بلاكمور منذ البدء أنّ ازدهار الجهد البحثي للوعي في القرن الحادي والعشرين لا يعني أنّ الغموض الذي يكتنفه قد اختفى تماماً؛ فالواقع أنه لا يزال متغلغِلاً في هذا الأمر كما كان دائماً. الفرق الآن أننا نعرف عن الدماغ ما يكفينا للاستعداد لمواجَهةِ المشكلة البحثية التالية على نحوٍ مباشِرٍ: كيف يمكن لإطلاق النبضات الكهربائية من ملايين الخلايا العصبية الدماغية أن يُنتج تجربةً واعية ذاتية شخصية؟ إذا أردنا إحرازَ أيِّ تقدُّم فيما يتعلَّق بفهم مسألة الوعي فعلينا التعامُل مع هذا الأمر بجدية تامة. هناك كثير من الأشخاص الذين يدَّعُون أنهم قد وجدوا حلًّاً للغز الوعي؛ فهم يقترحون نظرياتٍ موحِّدةً عظمى، ونظرياتٍ ميكانيكيةً كموميَّة، ونظرياتٍ روحانيةً حول «قوة الوعي»، وغيرها الكثير؛ لكنّ أغلبهم يتجاهلون الفجوةَ العميقة بين العالمين المادي والعقلي.

بعد مقدّمة وتمهيد ابتدائي لموضوع الكتاب (الوعي) اختارت المؤلفّة جعل كتابها موزّعاً في خمسة أقسام، كلّ قسم منها يضمُّ ثلاثة فصول: تناول القسم الأوّل معضلة الوعي تعريفاً ومناظرةً مع مفاهيم أخرى، ثمّ تناولت الوهم الكبير The Grand Illusion في التعامل مع ظاهرة الوعي. في القسم الثاني تناولت موضوع الدماغ بوصفه الحاضنة الطبيعية (مسرح العمليات بلغة المؤلفة) للوعي، وقد أفاضت في شرح العلاقة الوثقى بين دراسة العلوم العصبية وظاهرة الوعي. خصّصت المؤلفة القسم الثالث لتناول موضوع العقل والفعل، وتناولت في القسم الرابع موضوع التطوّر ومنعكساته المهمّة على ظاهرة الوعي، ثمّ تناولت في القسم الخامس الحدود التخمية Borderlands بين الوعي وظواهر أخرى على شاكلة: أشكال الوعي المعدّلة، الواقع والخيال، والأحلام وما بعدها. أما القسم السادس والأخير فتناولت فيه المؤلّفة موضوع «الذات والآخر»؛ فكانت النكهة الفلسفية بيّنة فيه. ألحقت المؤلفة كتابها بسلسلة مصادر مرجعية ضخمة ومتعدّدة امتدّت على عشرات الصفحات من الكتاب.

كتاب بلاكمور هذا قراءة شيّقة رغم رصانته الأكاديمية ومشقّة موضوعه؛ لكنّ من يرغب في قراءة أقلّ تطلباً للجهد والوقت والتفاصيل الصغيرة فيمكنه الرجوع إلى كتاب المؤلفة ذاتها والصادر عن جامعة أوكسفورد بعنوان «الوعي: مقدّمة قصيرة جداً»، وتوجد له ترجمة عربية متاحة بالمجّان على شبكة التواصل العالمية (الإنترنت).

Consciousness: An Introduction

الوعي: مقدمة

المؤلّفتان: Susan Blackmore & Emily Troscianko

سوزان بلاكمور وأميلي تروسيانكو

سنة النشر: 2024

دار النشر: Routledge ) Taylor & Francis Group )

عدد الصفحات: 766 الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم... أو هو بوّابته إلى العالم