حدث أدبي فرنكوفوني «استثنائي» في بيروت

«مهرجان دولي للكتاب» من أجل أن «يعود لبنان عاصمة الثقافة في المنطقة»

الطاهر بن جلون  -  نوريا جارسيا ماسيب  -  باربارا كاسان  -  سبيل غصوب (تصوير باتريس نورمان)
الطاهر بن جلون - نوريا جارسيا ماسيب - باربارا كاسان - سبيل غصوب (تصوير باتريس نورمان)
TT

حدث أدبي فرنكوفوني «استثنائي» في بيروت

الطاهر بن جلون  -  نوريا جارسيا ماسيب  -  باربارا كاسان  -  سبيل غصوب (تصوير باتريس نورمان)
الطاهر بن جلون - نوريا جارسيا ماسيب - باربارا كاسان - سبيل غصوب (تصوير باتريس نورمان)

هو الأول من نوعه الذي يشهده لبنان، منذ الانهيار الاقتصادي عام 2019، حدث أدبي فرنكوفوني استثنائي، من تنظيم السفارة الفرنسية، عبر مركزها الثقافي في بيروت، ويستمر لعشرة أيام، يبدأ اليوم ويستمر حتى الثلاثين منه، وتمتد أنشطته إلى مختلف المناطق اللبنانية. «المهرجان الدولي والفرنكوفوني للكتاب في بيروت» بضيوفه وقراءته ومحاضراته وعروضه، يأتي بديلاً عن «صالون الكتاب الفرنكوفوني» الذي كان يقام سنوياً في بيروت، وتوقف بعد دورة عام 2018 بسبب الانتفاضة الشعبية وما تلاها من وباء وانهيارات.
أربع سنوات عجاف، يأتي من بعدها هذا الحدث بطابعه الدولي، لأهداف عدة كما قالت السفيرة الفرنسية لدى لبنان آن غريو، على رأسها «طموح فرنسا إعادة بيروت عاصمة الكتاب وعاصمة الأدب في المنطقة»، هدف آخر هو «تشجيع الأدباء والفنانين وفتح شهية من هم خارج لبنان لزيارته من دون أي خلفيات أو تردد».
ولهذه الغاية، عمد الفرنسيون لاستقطاب أسماء كبيرة ووازنة لتكون مشاركة في هذا العيد، مثل الطاهر بن جلون، ماري داريوسيك، فوزية الزواري، والمفكر السنغالي المعروف سليمان بشير ديان، والفيلولوجية والفيلسوفة عالمة اليونانيات وعضوة الأكاديمية الفرنسية باربارا كاسان.

ملصق المهرجان ( تصميم تشارلز بربریان)

جهد غير مسبوق، في ظرف غير عادي، تبذله فرنسا، بحيث إنها حولت هذا الموعد الخريفي لمعرض الكتاب الفرنسي سابقاً إلى عيد ثقافي دولي، دعت من أجله أكثر من مائة كاتب، نصفهم آتون من خارج لبنان، من 18 جنسية مختلفة، يشاركون فيما يقارب مائة نشاط بينها القراءات، والمسرح والسينما، والمعارض، الحوارات، المحاضرات، ونقاشات، وزيارات لمدارس وجامعات، وجولات للكتاب في الشوارع للقاء القراء.
محور كل الأنشطة هو الكتاب، كما يشي بذلك اسم المهرجان، حيث استبدلت بالصيغة الكلاسيكية للاحتفاء بالكتب، صيغة أخرى حديثة، شبابية وديناميكية، تحرر الكتاب من قيود الصالات، وأسر الأغلفة، وتخرجه إلى رحابة المقاهي والمتاحف والمسارح، وتذهب به إلى القراء، بدل أن يطلب منهم الإتيان إليه. فمن بين الأنشطة نزهات شبه يومية لأدباء فرنكوفونيين في شوارع بيروت، يلتقون خلالها القراء، حيث سيوجدون في الجميزة ومار مخايل وشارع الحمرا ومونو، ويلتقون قراءهم في مواقع عدة، بينها مكتبات ومقاه ومتاحف ومسارح ويقيمون بعض أنشطتهم هناك.
وتتوزع الأنشطة، التي ستكون جميعها مجانية، على حوالي أربعين موقعاً داخل بيروت، وخارجها، وتهتم بمختلف أنواع الكتب الأدبية والفكرية والفنون. وثمة حيز مهم لكتب الطبخ كتقليد وتراث، وسيتم الاحتفاء بإعلان الفائز بجائزة «زرياب» المخصصة لهذا الغرض.
وهي جائزة أسستها نهى باز في عام 2014 تكافئ كل سنة كتاباً فرنكوفونياً مخصصاً لفن الطهي، يروي قصة أو أكثر عن تقاليد الأكل المتوارثة.
وتمنح الجائزة في بیروت بعد ثلاثة لقاءات في باريس، للذواقة حول الطعام والكلام في فن الطعام.
ويطلق المهرجان مبادرة «ربع ساعة من القراءة الوطنیة» من خلال دعوة الجميع، لقراءة نص من كتاب يختارونه لربع ساعة، تبدأ عند الحادية عشرة والربع من يوم الاثنين 24 أكتوبر (تشرين الأول). وتشارك بالتزامن، في هذا النشاط، جامعات ومدارس وإدارات وجمعيات وهيئات مدنية. جدير بالذكر أن برامج خاصة للمدارس، وحيزاً مهماً أعطي للشباب ضمن برنامج المهرجان.
وفي حرص من المنظمين على إشراك أكبر عدد ممكن من الناس في لعبة العودة إلى الكتاب، ابتكروا عدداً من المسابقات من أنواع مختلفة، بينها «مسابقة القراءة بصوت عالٍ»، حيث يسجل كل راغب في المشاركة فيديو لقراءته لنص في مكتبة حددت له في منطقته، وتتم غربلة الذين تم اختيارهم، ليشاركوا في أمسية إلقاء واحدة في اليوم الأخير للمهرجان، وتوزع جوائز على من بلغوا المرحلة النهائية.
وفي مبادرة خاصة، سيعقد أعضاء لجنة «جائزة غونكور» 2022 جلسة المداولات السرية المعتادة، بشكل استثنائي في بيروت هذه السنة، تحديداً في قصر الصنوبر، للإعلان عن الفائزين الأربعة في المرحلة قبل النهائية، وذلك يوم الثلاثاء 25 أكتوبر. وهو ما عدته السفارة الفرنسية خطوة تكرم العلاقة الوثیقة بین الأدبین الفرنكوفوني واللبناني.
ويخصص أعضاء الأكاديمية لقاء للقراء في متحف سرسق، حيث يوقعون كتبهم.
وبالتوازي مع برنامج بيروت الثقافي الفرنكوفوني، يتضمن البرنامج أنشطة في كل من طرابلس وصیدا وبعلبك وزحلة وتبنین وبسكنتا وجونیة لإتاحة تجربة المهرجان لأكبر عدد ممكن من الناس، وعلى البرنامج لقاءات وطاولات مستدیرة وحفلات موسیقیة وأدبیة أو كومیدیة ومعارض.
ويعد المنظمون أن الذهاب إلى المناطق أصبح ضرورياً، بعد ارتفاع كلفة المواصلات، كما أنه تقريب للكتاب من قرائهم، وتعريف لهم بمختلف المناطق اللبنانية.
يضرب الفرنسيون أكثر من عصفور بحجر واحد، فهم يجسرون المسافة بين الكتاب بالفرنسية وبلد فرنكوفوني رئيسي في المنطقة هو لبنان، كما يشرعون أبواباً ثقافية للبنان على أكثر من بلد فرنكوفوني. وهذا الحدث يتم تنظيمه بالتعاون مع المكتبات، التي ستكون موجودة بكتبها، مع كل معرض ولقاء، وندوة. وهذه المرة ثمة حرص على اجتذاب كل اللبنانيين، وليس فقط الناطقين بالفرنسية، إذ سيتم ترجمة كل ما يمكن إلى اللغة العربية، كي لا تقتصر المشاركة على فئة واحدة. إذ يدرك الفرنسيون أن عدد الفرنكوفونيين في لبنان يتناقص بسرعة، وبالتالي فإن التعويل عليهم وحدهم لم يعد كافياً، بعد أن أصبحت الإنجليزية تتقدم الفرنسية في غالبية الجامعات.
وهذه ليست المرة الأولى، التي يعلن فيها من بيروت عن اسم الفائز بجائزة «غونكور - خیار الشرق». إذ يصوت طلاب ينتمون إلى 34 جامعة في المنطقة، يقرأون الكتب المرشحة لـ«غونكور»، ويختارون كتابهم المفضل، ليفوز صاحبه بالمرتبة الأولى بموازاة «غونكور» الرسمية الرئيسية.
وفي محاولة لاجتذاب محبي المسرح والسينما إلى عالم الكتب والأدب، يستضيف المهرجان مخرجين وممثلين وراقصين وموسيقيين، ومغنين.
وسيتم عرض الفيلم الأول للرسوم المتحركة للمخرج المعروف ميشيل أوسيلو يوم 29 أكتوبر في المركز الثقافي الفرنسي في بيروت. وهو كما يدل اسمه «الفرعون والوحش والأميرة» عن فرعون مصري قديم، ومتوحش من أوروبا في العصور الوسطى، وأميرة من القرن التاسع عشر، لكل منهم خلفيته الثقافية والتاريخية وغناه الخاص.
وفي نهاية العرض ستكون مناسبة للحضور للقاء المخرج المعروف أوسيلو، ومناقشته حول فيلمه. أما لمحبي المسرح فأكثر من عمل بينها مسرحية «زاي زاي زاي زاي» لفابكارو الذي يحط رحاله على مسرح مونو، للمؤلفين والممثلين نيكو وبرونو.
ويعول المنظمون على الندوة المخصصة للترجمة التي ستجمع بين الأكاديمية الفرنسية باربرا كاسان، والمؤلف السنغالي سليمان بشير ديان، لفتح نقاش حول أهمية تكثيف الترجمة من الفرنسية إلى العربية وبالعكس.
وستشكل جلسات المقاهي الأدبية مناسبة لمناقشة موضوعات الأدب المعاصر، بدءاً بالمنفى وصولاً إلى الذاكرة، مروراً بقضايا الديمقراطية وحقوق النساء.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

«نشيد الحب» تجهيز شرقي ضخم يجمع 200 سنة من التاريخ

جزء من التجهيز يظهر مجموعة الرؤوس (جناح نهاد السعيد)
جزء من التجهيز يظهر مجموعة الرؤوس (جناح نهاد السعيد)
TT

«نشيد الحب» تجهيز شرقي ضخم يجمع 200 سنة من التاريخ

جزء من التجهيز يظهر مجموعة الرؤوس (جناح نهاد السعيد)
جزء من التجهيز يظهر مجموعة الرؤوس (جناح نهاد السعيد)

واحد من الأعمال الفنية التي يُفترض ألا تُفوّت، هو «نشيد الحب» ويُعرض في «جناح نهاد السعيد» الذي افتتح حديثاً، ملحقاً بـ«المتحف الوطني اللبناني».

تجهيز شرقي، وهذا نادراً ما نراه، بارتفاع 6 أمتار، يملأ ما يوازي غرفة كبيرة، مركّب من تحف وأثريات حرفية، من الخشب والنحاس، والزجاج والحديد والقماش، ومواد أخرى كثيرة، يعود عمر بعضها إلى 200 سنة وأكثر.

ركّب الفنان ما يشبه الثريا المتدلّية من السّقف (خاص الشرق الأوسط)

فلا شيء يمنع الفنان الموهوب ألفريد طرزي، وهو يركّب «النشيد» المُهدى إلى عائلته، من أن يستخدم ما يراه مناسباً، من تركة الأهل، ليشيّد لذكراهم هذا العمل الفني الذي تستدعي زيارته الدخول إليه، والتجول في أنحائه، تفحّصه قطعة بعد أخرى، التّمعن في أبيات شعر محفورة هنا، وأشكالٍ هندسية هناك. ولا بدّ أيضاً أن تزور التّجهيز بالالتفاف حوله لاكتشاف مختلف جوانبه. لا بل قد يحلو لك أن تعود تكراراً إلى هذه التحفة الإبداعية، لتستمتع بتفاصيلها الصغيرة الكثيرة، التي تميزت بها حرفياتنا الشرقية.

ألفريد هو سليل عائلة اشتغلت لأجيال في بيع التّذكارات والقطع الحرفية، وفي تنفيذ الحَفريات على النحاس والخشب والزجاج، وإليها يعود الفضل في تزيين أجمل القصور في دمشق وحلب وطرابلس وبيروت، ومدن أخرى في المنطقة. ورِث ألفريد عن عائلته تركة ثمينة، بعضها من أعمالهم وبعضها الآخر اقتنوه بمرور الوقت ليعيدوا بيعه. وجد الفنان نفسه أمام ثروة، لا متحف مخصصاً لعرضها، أو وسيلة ناجعة للاستفادة منها، فكانت سلسلة تجهيزات كلّ واحد منها تحفة يتوقف عندها الزمن. وقد شغلته في السنوات السابقة بشكل خاص تيمة الحرب، لكنه هذه المرة، يغوص في الذاكرة بطريقة أخرى.

والدة ألفريد عالمة الآثار التي تتوسط التجهيز (جناح نهاد السعيد)

التجهيز البديع الموجود في المتحف ضمن معرض «بوابات وممرات، سفر عبر الواقع والخيال»، نظّمه بمهارة «متحف بيروت للفن»، هو وليد قريحة ألفريد، الذي أراد أن يستخدم موروثه، بتنوعه، ليحكي قصة أهله، وتاريخ المنطقة، وقيمة العمل اليدوي، ومعنى التراث، من خلال تركته العائلية.

في وسط التجهيز رأس امرأة تعتمر قبعة، ينتصب داخل قطعة موبيليا شرقية ترتفع بأعمدة يعلوها سقف، ومفرغة من جوانبها، يتدلّى منها فوق الرأس، مجموعة من الصور الفوتوغرافية الصغيرة، تُخلّد ذكرى أصدقاء العائلة الذين قضوا في الحرب. والرأس هو منحوتة لوالدة ألفريد، السيدة ريناتا أورتالي التي تدور حولها كل المعاني المعروضة. كانت المرأة عالمة آثار، عملت لخمسين سنة مع الأمير موريس شهاب في المتحف الوطني، وساهمت في حملات البحث عن الآثار في وسط بيروت، بعد توقف الحرب الأهلية. وعن قطعة الموبيليا التي تحمل الرأس، أقام ما يشبه السور الخشبي المزخرف الذي يسيج الأم.

كرسي والد الفنان جورج (خاص الشرق الأوسط)

وفي مقابل الوالدة، زوجها جورج حاضر من خلال كرسيه الخشبي المنجد بالأصفر الذي اعتاد الجلوس عليه، وقد رفع على قاعدة خشبية. واصطفت حول المقعد أعمدة وألواح وبقايا محفورات، كأنها تَصنع بتعدّد مشغولاتها عرشاً لهذا الوالد الغائب/ الحاضر.

أنت أمام تجهيزٍ مليء بالتّفاصيل ولكلٍّ منها قصتها، ومعناها وأهميتها. ثمّة ألواح أخشاب على كلٍّ منها حفريات مختلفة، نُسّقت، لتبدو ذات مهابة وحضور، تُخرجها من معناها الفردي، وفي مكان آخر مجموعة من الأواني النّحاسية مع أغطيتها كانت تُستخدم لوضع احتياجات الحمام من صابون وليفٍ، بعضها شغل تركي ومنها شامي ولبناني وبيروتي. تعدّد المصادر يزيدها غنى. هناك الحلل على أنواعها، والفوانيس ومجموعة عصافير معدنية، ورؤوس حجرية متدلية. وفي إحدى الزوايا قطعة موبيليا، هي مقرنصة، يعلوها حفر لبيت شعر غزلي، وتحتها من المفترض أن توجد بركة الماء.

اعتمد ألفريد بشكل خاص على عرض مجموعات متشابهة إلى جانب بعضها البعض، وأن يجعل من أطر الأبواب الخشبية، بأقواسها وزخرفها نوعاً من الحواجز الوهمية بين المعروضات، وثمة قطع أثاث، وصمديات، وقناديل وإكسسوارات.

ابتكر لكل منها دوراً في هذا التركيب، وأتت على مستويات بحيث بدت وكأنها طبقات متداخلة حتى تصل إلى السّقف، حيث صنع ما يشبه الثريا، من مجموعة قطع معدنية صغيرة محفّرة، لكلٍ منها شكلها وهويتها، علّقها إلى جانب بعضها البعض، لتبدو كنجوم متلألئة تظلّل التجهيز.

توارثت عائلة طرزي، مهنة الحفر، أجيالاً متعاقبة، عرفت بمهارتها الفنية في صناعة خشبيات القصور، من أبواب ونوافذ وجدران وسقوفيات، وغيرها. في الأصل كانت العائلة تبيع الأثريات والأنتيكا، تَوّزع عملها بين القدس ودمشق وبيروت. الابن ألفريد البالغ من العمر اليوم 40 سنة، ومتخصص في الفن الغرافيكي، وجد نفسه أمام ثروة أثرية حرفية تركها له والده، لا يعرف أين يمكن أن تُعرض. نحتفي غالباً بالقديم والحديث، وهذا الإرث المشرقي الذي يعود للقرن الـ19 وبداية القرن العشرين، غالباً ما نجده متناثراً ومهملاً عند بائعي الأنتيكا، ولم تُخصّص له متاحف تُنصفه، وهو ما يُشغل بال الفنان.

«نشيد السعادة» هو ربط إبداعي بين هذه القطع الكثيرة، ذات الاستخدامات المختلفة، تمزج بينها تلك القناطر الجميلة بزخرفها اليدوي البديع، والبوابات الخشبية المليئة بالمحفورات.

مجموعة النحاسيات التي كانت تُستخدم لوضع الليف والصابون (خاص الشرق الأوسط)

ومما لا يعرفه زوار هذا التجهيز، أن ألفريد سرسق، ابن العائلة الأرستقراطية، نهاية الحكم العثماني، قرّر أن يستأجر حرش بيروت، من بلدية المدينة لمدة 80 سنة، وبنى في المكان كازينو أطلق عليه اسم «عزمي». كانت عائلة طرزي قد كُلّفت باشتغال أبواب ونوافذ وسقوفيات الكازينو الذي لم يكن من مثيل له، في تلك الفترة. واستغلّت الأرض حوله في تنظيم سباق الخيل. عندما خسِر العثمانيون الحرب ودخل الفرنسيون البلاد، حوّلوا الكازينو إلى مستشفى، لعلاج المرضى، ومن ثَمّ اتفقوا مع بلدية بيروت وصاحب المبنى سرسق، على شراء هذه الملكية وتحويلها إلى منزل للسفير الفرنسي، ولا يزال كذلك. واللطيف أنك من الواجهات الزجاجية لمكان العرض يمكنك أن تطلّ على ميدان سباق الخيل والمبنى الذي صار اسمه «قصر الصنوبر».

ومن ضمن الأبواب التي ركّب منها تجهيز «نشيد السعادة» هو المجسم الأصلي لبوابة «قصر الصنوبر»، وضعه طرازيّ على الزاوية الأمامية من المجسم، ويقول عنه «إنه الباب الصغير للبنان الكبير»، لأنه أمام هذه البوابة، تحديداً، أعلن الجنرال غورو ولادة لبنان بشكله الحالي.