روائيون لبنانيون بين خياري «القلم والورق» و«الدواء والماء»

علوية صبح وجورج يرق وأنطوان الدويهي يتحدثون عن معاناتهم وتجاربهم

علوية صبح - جورج يرق - أنطوان الدويهي
علوية صبح - جورج يرق - أنطوان الدويهي
TT

روائيون لبنانيون بين خياري «القلم والورق» و«الدواء والماء»

علوية صبح - جورج يرق - أنطوان الدويهي
علوية صبح - جورج يرق - أنطوان الدويهي

قد يصعب على الكتاب داخل مجتمع مأزوم تفادي الشظايا. في لبنان، يبدو شاقاً تجنب نار الواقع الاقتصادي للإبقاء على وهج الكتابة. إنهم أمام خيار تراجيدي: القلم أم الخبز أم الدواء؟ ثم «يمكن الكتابة بمعدة فارغة»؟ أو في الظلام؟ هل أصبحت الأزمة اللبنانية «جداراً أمام الكتاب»؟ أو قد تكون مادة لولادة أعمال أدبية ولو بعد حين قد يطول أو يقصر، حتى إن لم تكن قد ولدت مثل هذه الأعمال أو على وشك أن تولد.
ثلاثة روائيين لبنانيين، علوية صبح، جورج يرق، وأنطوان الدويهي، يكتبون عن تجاربهم ومعاناتهم:

علوية صبح: كتبتُ روايتي الجديدة على مسودات رواياتي السابقة

لا شيء يُشعر الروائي بأنه كائن حي إلا نصه، والخيال الذي هو دائماً أجمل من الواقع؛ مأزوماً أو مرتاحاً. في التحولات الكبرى قد يشتعل القلم، ولا ننسى أن الرواية نمت في الحرب الأهلية مثلاً. لكن ما يحدث الآن أخطر من تلك الحرب. تخلخل المجتمع وشهد البلد انحلالاً. حين يُواجَه الروائي بين خيار القلم والورق وبين الدواء والماء، فماذا يختار؟ هل يكتب على الرمل أو الهواء في ظل الارتفاع الجنوني للأسعار؟
أعترف أنني استخدمتُ في كتابة روايتي (تصدر قريباً) «افرح يا قلبي» مسودات رواياتي السابقة، فأعدتُ استعمال الورق القديم لكتابة رواية حملتها بعض ظلال المرحلة. ربما هي أجمل رواياتي، لستُ أدري.
وجدتُ نفسي مدفوعة للكتابة بجنون رغم غلاء سعر الورق وآلام رافقتني لإنجازها. يشتعل قلمي حين تلح علي رواية بصرف النظر عن الواقع الذي أعيشه. ومع انحلال الحياة وجدتُني مدفوعة للكتابة بدفق. لم تنقذني سوى الكتابة والخيال. ليس هروباً من الواقع، إنما لنجاة النص وحياته. وحده الخيال يجعل النص صديق الحياة.
لا تخرج الكلمات بإشعاعها وفرادتها إلا حين يستطيع الكاتب خلق عالم حي. ولا أنفصل عن الواقع إلا حين أغرق في عالم الرواية وحيوات شخوصها. أحيا عوالمهم ليولدوا أحياء. وأشعر بوجودي في حياة النص. الكتابة فسحة حرية وهواء.
لا أشعر بالكآبة، بل أخاف منها. فهي تصيبني فقط بعد الانتهاء من الرواية وحين تغادرني شخوصها. لكن لا شك بأنني لا أنجو من الكآبة اللبنانية، فأواجهها بشجاعة القلم. لن تأخذ أي مرحلة خيالي ما دمتُ أروي لأعيش، وليس كما يقول ماركيز «عشتُ لأروي». كما لن تأخذ السلطة السياسية وأحزابها التخريبية لبناني مني، فأنا متجذرة في مدينة يتجذر قلمي فيها. وفيها يتجذر خيالي الروائي.
يمكن أن تكون الأزمة اللبنانية جداراً في وجه الكاتب، وقد تكون مادة لولادة عمل أدبي. هذا يعود للروائي ومدى انجذابه للكتابة عنها. قد تأخذ أي مرحلة وقتاً للكتابة عنها بعد تحقق الانفصال الزمني وتشكل وعي فني تجاهها.

جورج يرق: أجلس في العتمة منتظراً ساعة الغفو

الوضع الاقتصادي السائد في منتهى الصعوبة. ذل وقهر وفقر. لكنه لا يطفئ الرغبة في الإبداع، إنما يعوق اشتعالها... الاشتعال المفترض. ليس سهلاً الجلوس إلى الكتابة وأصوات معدتك الفارغة ترافق أصوات النقر على أزرار الكومبيوتر. الكتابة متعذرة في حال كهذه. ليس سهلاً كذلك الانكباب على متابعة الأفكار في حين يساورك القلق بشأن انقطاع أدوية بحاجة أنت إليها أو والدتك العجوز المريضة، أو بشأن فقدان الخبز من الأفران وغيره من المواد الضرورية.
منذ مارس (آذار) الماضي، ألغيت اشتراك المولد الكهربائي لارتفاع التعرفة. ومعروف أن التيار الكهربائي التابع للدولة غائب تماماً. هكذا أصبحت منقطعاً عن العالم بعدما فقدت الاتصال بالإنترنت. أضطر يومياً إلى شحن بطاريات الكومبيوتر والهاتف وخزان الشحن في الخارج، علماً بأن عمر الشحن قصير جداً، إذ أستعمل الهاتف للإنارة أحياناً. مثل هذه العوامل يكبح الاندفاع إلى العطاء. فبدلاً من أن أخصص نصيباً من السهرة للقراءة أو للكتابة، أجلس في العتمة منتظراً ساعة الغفو. اللجوء إلى الشمعة مستبعد لضعف في النظر جراء التقدم في العمر وكثرة القراءة. عدا ذلك، فإن الكتابة ليست مهنة تتيح لمزاولها عيشاً كريماً، وهذا أمر مُحبط. روايتي «حارس الموتى» (2015) صدرت في ثلاث طبعات خلال سنة ونقلتها الجامعة الأميركية في مصر إلى الإنجليزية بعد بلوغها القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية، ولم يأتني شيء من مردود النسخة المترجمة، وهي تُباع في بضع مكتبات إلكترونية عالمية. لماذا أكتب إذن؟ أكتب لأني لا أجيد عملاً آخر، ولأني أجد في الكتابة متعة، ولأني أريد أن أتسلى أيضاً.
لا بد للمبدع من بعض الاستقرار المادي والنفسي. أقله تناول وجبتين في اليوم. فعل الكتابة كفعل النوم. فالمرء لا يغفو إذا كان خائفاً أو جائعاً أو عطشان أو قلقاً. وهذه تماماً حال الكاتب. الانقطاع عن الناس ضروري لبعض الكتاب. أنا اعتدت الكتابة في أمكنة عامة: حديقة، شاطئ، مقهى. بسبب الضيق الاقتصادي الحرج بتُ من رواد مقاعد الرصيف بعدما كنت من رواد مقاهي الرصيف، ليس للكتابة طبعاً، بل لتزجية الوقت. المعاناة تلجم الهمة والقريحة إبان حدوثها. لدى الخروج منها يستعيد الكاتب بعض تردداتها المؤثرة ويبسطها في عمله الأدبي. ما كتبته عن التشرد في روايتي «ليل» (2013) و«حارس الموتى» استوحيته مما كابدته خلال الحرب اللبنانية، إذ أمضيت ثلاثة أعوام متشرداً. وليس خافياً أن الكتابة تخرج صادقة ومؤثرة عندما تولد من حالة معيوشة. على أن الإحباط يتجلى في إرجاء النشر لأن القارئ يسعى اليوم إلى تأمين الرغيف والدواء وقسط المدرسة، ولا يكترث للكتاب الجديد الذي بات ثمنه مرتفعاً ارتفاعاً كبيراً مقارنة بسعره قبل الأزمة. لدي ثلاث روايات منجزة، إحداها للفتيان، أستأخرُ طبعها لهذا السبب. ما من حال، أياً تكون مفاعيله، يكبح فعل الكتابة، على افتراض أن هذا الفعل لا يترجم بالقلم والورقة أو باستخدام الكومبيوتر فحسب، بل كذلك بمراكمته في الرأس إلى أن يحين أوان إنزاله في الورقة البيضاء. النكبة الحاصلة منهل غزير للأفكار غير الاعتيادية. مثالاً لا حصراً: مراكب الموت، تبدد مدخرات الناس وإفقارهم، دهم المودع للمصرف بغية استرداد وديعته، الموت على باب المستشفى لتعذر دفع بدل الاستشفاء، تشجيع الأهل أولادهم على الهجرة... هذه كلها موضوعات محرضة على الكتابة. ما دام واقعنا التَعِس يمدنا بحكايات حية فقد انتفت الحاجة إلى سرقة الأفكار من هنا وهناك.
أنطوان الدويهي: المأساة عبر الذاكرة

العلاقة بين الإبداع الأدبي والفني من جهة، وأحوال المجتمع من جهة أخرى، هي علاقة غامضة ومعقدة لا تحتمل التعميم. أقصد هنا الإبداع الكبير، وليس الأعمال العادية التي ربما تكون عديدة وغزيرة، خصوصاً في زمننا، وتنتشر وفقاً لإتقان العلاقات ووسائل التواصل الاجتماعي. لكن ما أشير إليه هنا هي القلة النوعية التي تقوى على الزمن وتبقى، وليس الكمية. هذه العلاقة بين الذات واضطراب المجتمع تختلف بين مبدع وآخر، فيصعب الجزم بشأنها.
الإبداع الجمالي، الأدبي أو الفني، إنما يتكون عبر التفاعل بين غياهب الذات الفردية (في فرادتها وخصوصيتها وذاكرتها ووعيها ولا وعيها)، وأحوال المجتمع والطبيعة وعناصر التاريخ والكون. وكل ذات مبدعة لها تفاعلها المميز الخاص، وما يمكن أن ينتج عنه.
الأزمة الحالية ليست أقصى ما عرفته مكونات المجتمع اللبناني الحالي في تاريخه الحديث. لنأخذ مجاعة 1915 - 1918 الكبرى، إثر الحصار الذي فرض على جبل لبنان بعدما علق الأتراك نظام الحكم الذاتي وأقاموا الحكم العسكري والأحكام العرفية خلال الحرب العالمية الأولى، فأبيد ثلث سكان الجبل بفعل المجاعة والجراد والأمراض. حدثت أمور رهيبة تفوق الوصف. إنها على الأرجح المأساة الأفظع في تاريخ مجتمع جبل لبنان منذ «بدء الزمان». مع ذلك، لم تتجسد تلك الفاجعة الجماعية المهولة حتى الآن، على مدى أكثر من قرن، في أعمال إبداعية، أدبية أو فنية، كبرى (باستثناء رواية توفيق يوسف عواد «الرغيف»، ونص «مات أهلي» لجبران...). على صعيدي الشخصي، أشعر في أعماقي بقوة بتلك المأساة التي عرفتها عبر ذاكرة أمي وجدتي وعبر قراءاتي، وتهزني أكثر من الأزمة الحالية، على بشاعتها وخطورتها.
أحياناً يأتي العمل الإبداعي الكبير، ليس في الحاضر، بل بعد زمن طويل من انقضاء الاضطراب المجتمعي. لنأخذ مثلاً رواية تولستوي «الحرب والسلم»، إحدى روائع الأدب الروسي، التي موضوعها حملة بونابرت الكبرى على روسيا عام 1812، ظهرت الرواية عام 1865، بعد أكثر من نصف قرن على انتهاء تلك الحرب التي هزت المجتمع والوجدان الروسيين في أعماقهما، وحولت تاريخهما. لم يعرف تولستوي، المولود عام 1828، تلك الحرب، بل تعرف إليها وطبعته بطابعها عبر ذاكرة عائلته. والمبدعون الروس الذين عايشوا تلك الحرب واكتووا بنارها لم يستطيعوا تجسيدها في أعمال تضاهي عمله.
الإبداع الكبير، في نقطة التلاقي السري بين الذات المبدعة وتحولات المجتمع والطبيعة ومسار التاريخ، لا يسهل توقعه.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

«سوق ديانا» في القاهرة تبيع أنتيكات برائحة «الزمن الجميل»

التحف والمقتنيات القديمة أبرز معروضات السوق (الشرق الأوسط)
التحف والمقتنيات القديمة أبرز معروضات السوق (الشرق الأوسط)
TT

«سوق ديانا» في القاهرة تبيع أنتيكات برائحة «الزمن الجميل»

التحف والمقتنيات القديمة أبرز معروضات السوق (الشرق الأوسط)
التحف والمقتنيات القديمة أبرز معروضات السوق (الشرق الأوسط)

التحقت سارة إبراهيم، 35 عاماً، بزحام سوق «ديانا» بوسط القاهرة، في إرضاء لشغفها بـ«اقتناء» السّلع والتّحف والعملات القديمة التي تتخصص هذه السوق في القاهرة بعرضها، وتُعرف كذلك بـ«سوق السبت» نسبةً لليوم الأسبوعي الوحيد الذي يستقبل جمهوره فيه.

يُطلق على هذه السوق اسم «ديانا» نسبةً إلى سينما «ديانا بالاس» العريقة التي تقع في محيط الشوارع المؤدية إليها.

تقول سارة إنها تعرّفت على السوق منذ نحو عامين، رغم أنها كانت تسمع عنها منذ سنوات: «بدأ الأمر صدفة، خلال جولة لي مع صديقة، فانبهرنا بكمية المعروضات التي لم نجدها سوى في هذه السوق، وصرت أولاً أقصدها للتنزّه بها من وقت لآخر. وقد اشتريت منها اليوم صوراً قديمة من أرشيف فيلم (معبودة الجماهير)، وصدف بحر عملاقاً لم أرَ مثله من قبل، وكذلك علبة معدنية قديمة مرسوم عليها (روميو وجولييت) كالتي كانت تستخدمها الجدات قديماً لحفظ أغراض الخياطة، وجميعها بأسعار معقولة، وتحمل معها زمناً قديماً لم نعشه»، كما تقول في حديثها مع «الشرق الأوسط».

الأسطوانات القديمة إحدى السلع التي يبحث عنها زوار السوق (الشرق الأوسط)

رغم حرارة الطقس، كان زوار السوق ومرتادوها يتدفقون ويتحلقون حول المعروضات التي يفترشها الباعة على الأرض بكميات كبيرة، ويبدو تأمل تلك المعروضات في حد ذاته ضرباً من المتعة، يمكن أن ينطبق عليه المثل الشعبي المصري المعروف: «سمك لبن تمر هندي» بما يدّل على التنوّع المدهش في نوعية السلع، بداية من الساعات القديمة، إلى أطباق الطعام التي تحمل طابعاً تاريخياً، فيحمل بعضها توقيع «صنع في ألمانيا الغربية»، الذي يعود إلى ما قبل إعادة توحيد ألمانيا، ويمكن مشاهدة زجاجة مياه غازية فارغة تعود للفترة الملكية في مصر، يشير إليها أحمد محمود، بائع المقتنيات القديمة بالسوق.

عملات وتذكارات معدنية (الشرق الأوسط)

يقول محمود: «يمكن على تلك الزجاجة رؤية شعار علم مصر القديم (الهلال والنجمات الـ3 ولونها الأخضر)، وتحمل اسم (كايروأب) التي كانت إحدى شركات المياه الغازية في مصر في عهد الملك فؤاد، وما زال هناك زبائن إلى اليوم يهتمون كثيراً باقتناء مثل تلك التذكارات التي تحمل معها جزءاً من تاريخ الصناعة في هذا الوقت، علاوة على شكلها وتصميمها الجمالي الذي يعكس تطوّر التصميم»، كما يشير في حديثه مع «الشرق الأوسط»، ويضيف: «جمهور هذه السوق هو الباحث عن اقتناء الذكريات، عبر تذكارات تحمل معها جزءاً من تاريخهم الشخصي أو الذي لم يعيشوه، فمثلاً يُقبل الجمهور هنا على شراء ملصقات سينما قديمة، أو حتى صابونة مُغلّفة تعود للخمسينات تُذكرهم بمصانع الفترة الناصرية، ويشترون كروت الشحن القديمة التي كانت تُستخدم في كابينات التليفون بالشوارع قبل انتشار الهاتف المحمول، وهي ذكريات يعرفها جيل الثمانينات والتسعينات بشكل خاص ويستعيدونها مع معروضات السوق».

معروضات نوستالجية تجذب الجمهور (الشرق الأوسط)

تظهر صور الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر في وسط المعروضات، كما تظهر بورتريهات لعبد الحليم حافظ، وملصقات لنجوم كرة القدم في السبعينات، تُجاور شرائط كاسيت قديمة يشير البائع لإحدى الزبونات إلى أن سعر أي شريط كاسيت لمحمد عبد الوهاب 25 جنيهاً، فيما تُعرض أسطوانات التسجيلات القديمة بكميات كبيرة يبدأ سعرها من 50 جنيهاً، وكذلك الكاميرات التي تتراوح في تاريخها، وتبدأ من 200 جنيه وحتى 2000 جنيه (الدولار يعادل 48.6 جنيه)، ويعرض أحمد مهاب كثيراً من أجهزة التليفون القديمة التي تلفت أنظار الزوار.

يشير مهاب لأحد تلك الأجهزة التقليدية ذات القرص الدوّار ويقول عنه: «سعر هذا التليفون ألف جنيه مصري؛ وذلك لأنه يعود لفترة الخمسينات ولأن لونه الأحمر نادر، في حين أبيع الجهاز نفسه باللون الأسود بـ500 جنيه لأنه أكثر انتشاراً، فيما تقلّ أسعار تلك الهواتف الأرضية كلما كانت أحدث، فالتليفون ذو القرص الدوار الذي يعود لفترة التسعينات يُعرض للبيع بـ300 جنيه، وعلى الرغم من سطوة أجهزة الجوّالات المحمولة فلا يزال هناك جمهور يبحث عن تلك الأجهزة، إما لرخص سعرها نسبياً عن أجهزة التليفون الأرضي الحديثة، أو رغبة في اقتنائها بوصفها قطع أنتيكات للديكور»، حسبما يقول لـ«الشرق الأوسط».

هواتف قديمة ونادرة تلفت أنظار الزوار (الشرق الأوسط)

أما باعة العملات والأوراق النقدية القديمة، فيبدو جمهورهم في ازدياد على مدار ساعات السوق؛ حيث يحتفظون بالعملات المعدنية التي تتراوح بين الفضية والنحاسية في أكوام ضخمة، سواء عملات مصرية أو عربية يختلف سعرها حسب تاريخها الزمني، ينادي البائع لطفي عبد الله على الزبائن: «الواحدة بـ10 جنيه» في إشارة منه لعملة «النصف جنيه» المصري وعملة «الربع جنيه» التي أصبحت جزءاً من التاريخ بعد انهيار قيمتها الشرائية، فيما يشير إلى عملات أخرى أجنبية يحتفظ بها داخل «كاتالوغ» مُغلّف، تظهر على عملة كبيرة الحجم صورة ملكة بريطانيا الراحلة إليزابيث تعود لفترة السبعينات، وعملة أخرى منقوش عليها شعار بطولة الألعاب الأولمبية في مونتريال 1976 التي يعرضها للبيع بـ2600 جنيه مصري، ويقول عنها: «تلك عملة من الفضة الخالصة وثقيلة الوزن، ولها قيمتها التاريخية التي يبحث عنها كثيرون من المقتنين، فجمهور العملات النادرة هم أقدم جمهور لهذه السوق، التي كانت في بداياتها تعتمد على بيع العملات وشرائها، ثم بدأ في التوسع التدريجي ليشمل مختلف المعروضات النادرة والمقتنيات القديمة»، كما يقول لـ«الشرق الأوسط».

شرائط كاسيت قديمة لكوكبة من نجوم الغناء (الشرق الأوسط)

ويبدو أن جمهور سوق «ديانا» لا يقتصر فقط على المصريين، فهو بات جزءاً من الجولات السياحية للكثير من السائحين من جنسيات مختلفة، منهم لي شواي، سائحة صينية، تتحدث مع «الشرق الأوسط» وتقول: «أزور مصر في رحلة عمل، وهذه أول مرة لي في هذه السوق، وما لفتي كثيراً أن هناك معروضات وتحفاً عليها نقوش ورسوم صينية شعبية، لم أكن أعرف أنهم في مصر مهتمون بالفنون والخطوط الصينية القديمة التي تظهر على اللوحات وأطباق التزيين هنا».

السوق تشهد حراكاً واهتماماً من الزوار (الشرق الأوسط)

ويُبدي عبد الله سعداوي، بائع في سوق ديانا، انتباهه لما يصفه بـ«الجمهور الجديد للسوق»، ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «زاد الجمهور بشكل كبير خلال الفترة الأخيرة، وجزء كبير من هذا الأمر يعود لانخفاض الأسعار من جهة والميل لشراء السلع المستعملة كبديل للسلع الجديدة مرتفعة الثمن، بما فيها السلع الاستعمالية كالحقائب والنظارات وأطقم المائدة، وكذلك بسبب كثافة الفيديوهات التي صار يصوّرها المؤثرون عبر منصات التواصل الاجتماعي عن السوق وتجربة الشراء فيها، وهو ما جعل جمهوراً أكبر من الشباب يأتي بفضول لاستكشافها».