روائيون لبنانيون بين خياري «القلم والورق» و«الدواء والماء»

علوية صبح وجورج يرق وأنطوان الدويهي يتحدثون عن معاناتهم وتجاربهم

علوية صبح - جورج يرق - أنطوان الدويهي
علوية صبح - جورج يرق - أنطوان الدويهي
TT

روائيون لبنانيون بين خياري «القلم والورق» و«الدواء والماء»

علوية صبح - جورج يرق - أنطوان الدويهي
علوية صبح - جورج يرق - أنطوان الدويهي

قد يصعب على الكتاب داخل مجتمع مأزوم تفادي الشظايا. في لبنان، يبدو شاقاً تجنب نار الواقع الاقتصادي للإبقاء على وهج الكتابة. إنهم أمام خيار تراجيدي: القلم أم الخبز أم الدواء؟ ثم «يمكن الكتابة بمعدة فارغة»؟ أو في الظلام؟ هل أصبحت الأزمة اللبنانية «جداراً أمام الكتاب»؟ أو قد تكون مادة لولادة أعمال أدبية ولو بعد حين قد يطول أو يقصر، حتى إن لم تكن قد ولدت مثل هذه الأعمال أو على وشك أن تولد.
ثلاثة روائيين لبنانيين، علوية صبح، جورج يرق، وأنطوان الدويهي، يكتبون عن تجاربهم ومعاناتهم:

علوية صبح: كتبتُ روايتي الجديدة على مسودات رواياتي السابقة

لا شيء يُشعر الروائي بأنه كائن حي إلا نصه، والخيال الذي هو دائماً أجمل من الواقع؛ مأزوماً أو مرتاحاً. في التحولات الكبرى قد يشتعل القلم، ولا ننسى أن الرواية نمت في الحرب الأهلية مثلاً. لكن ما يحدث الآن أخطر من تلك الحرب. تخلخل المجتمع وشهد البلد انحلالاً. حين يُواجَه الروائي بين خيار القلم والورق وبين الدواء والماء، فماذا يختار؟ هل يكتب على الرمل أو الهواء في ظل الارتفاع الجنوني للأسعار؟
أعترف أنني استخدمتُ في كتابة روايتي (تصدر قريباً) «افرح يا قلبي» مسودات رواياتي السابقة، فأعدتُ استعمال الورق القديم لكتابة رواية حملتها بعض ظلال المرحلة. ربما هي أجمل رواياتي، لستُ أدري.
وجدتُ نفسي مدفوعة للكتابة بجنون رغم غلاء سعر الورق وآلام رافقتني لإنجازها. يشتعل قلمي حين تلح علي رواية بصرف النظر عن الواقع الذي أعيشه. ومع انحلال الحياة وجدتُني مدفوعة للكتابة بدفق. لم تنقذني سوى الكتابة والخيال. ليس هروباً من الواقع، إنما لنجاة النص وحياته. وحده الخيال يجعل النص صديق الحياة.
لا تخرج الكلمات بإشعاعها وفرادتها إلا حين يستطيع الكاتب خلق عالم حي. ولا أنفصل عن الواقع إلا حين أغرق في عالم الرواية وحيوات شخوصها. أحيا عوالمهم ليولدوا أحياء. وأشعر بوجودي في حياة النص. الكتابة فسحة حرية وهواء.
لا أشعر بالكآبة، بل أخاف منها. فهي تصيبني فقط بعد الانتهاء من الرواية وحين تغادرني شخوصها. لكن لا شك بأنني لا أنجو من الكآبة اللبنانية، فأواجهها بشجاعة القلم. لن تأخذ أي مرحلة خيالي ما دمتُ أروي لأعيش، وليس كما يقول ماركيز «عشتُ لأروي». كما لن تأخذ السلطة السياسية وأحزابها التخريبية لبناني مني، فأنا متجذرة في مدينة يتجذر قلمي فيها. وفيها يتجذر خيالي الروائي.
يمكن أن تكون الأزمة اللبنانية جداراً في وجه الكاتب، وقد تكون مادة لولادة عمل أدبي. هذا يعود للروائي ومدى انجذابه للكتابة عنها. قد تأخذ أي مرحلة وقتاً للكتابة عنها بعد تحقق الانفصال الزمني وتشكل وعي فني تجاهها.

جورج يرق: أجلس في العتمة منتظراً ساعة الغفو

الوضع الاقتصادي السائد في منتهى الصعوبة. ذل وقهر وفقر. لكنه لا يطفئ الرغبة في الإبداع، إنما يعوق اشتعالها... الاشتعال المفترض. ليس سهلاً الجلوس إلى الكتابة وأصوات معدتك الفارغة ترافق أصوات النقر على أزرار الكومبيوتر. الكتابة متعذرة في حال كهذه. ليس سهلاً كذلك الانكباب على متابعة الأفكار في حين يساورك القلق بشأن انقطاع أدوية بحاجة أنت إليها أو والدتك العجوز المريضة، أو بشأن فقدان الخبز من الأفران وغيره من المواد الضرورية.
منذ مارس (آذار) الماضي، ألغيت اشتراك المولد الكهربائي لارتفاع التعرفة. ومعروف أن التيار الكهربائي التابع للدولة غائب تماماً. هكذا أصبحت منقطعاً عن العالم بعدما فقدت الاتصال بالإنترنت. أضطر يومياً إلى شحن بطاريات الكومبيوتر والهاتف وخزان الشحن في الخارج، علماً بأن عمر الشحن قصير جداً، إذ أستعمل الهاتف للإنارة أحياناً. مثل هذه العوامل يكبح الاندفاع إلى العطاء. فبدلاً من أن أخصص نصيباً من السهرة للقراءة أو للكتابة، أجلس في العتمة منتظراً ساعة الغفو. اللجوء إلى الشمعة مستبعد لضعف في النظر جراء التقدم في العمر وكثرة القراءة. عدا ذلك، فإن الكتابة ليست مهنة تتيح لمزاولها عيشاً كريماً، وهذا أمر مُحبط. روايتي «حارس الموتى» (2015) صدرت في ثلاث طبعات خلال سنة ونقلتها الجامعة الأميركية في مصر إلى الإنجليزية بعد بلوغها القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية، ولم يأتني شيء من مردود النسخة المترجمة، وهي تُباع في بضع مكتبات إلكترونية عالمية. لماذا أكتب إذن؟ أكتب لأني لا أجيد عملاً آخر، ولأني أجد في الكتابة متعة، ولأني أريد أن أتسلى أيضاً.
لا بد للمبدع من بعض الاستقرار المادي والنفسي. أقله تناول وجبتين في اليوم. فعل الكتابة كفعل النوم. فالمرء لا يغفو إذا كان خائفاً أو جائعاً أو عطشان أو قلقاً. وهذه تماماً حال الكاتب. الانقطاع عن الناس ضروري لبعض الكتاب. أنا اعتدت الكتابة في أمكنة عامة: حديقة، شاطئ، مقهى. بسبب الضيق الاقتصادي الحرج بتُ من رواد مقاعد الرصيف بعدما كنت من رواد مقاهي الرصيف، ليس للكتابة طبعاً، بل لتزجية الوقت. المعاناة تلجم الهمة والقريحة إبان حدوثها. لدى الخروج منها يستعيد الكاتب بعض تردداتها المؤثرة ويبسطها في عمله الأدبي. ما كتبته عن التشرد في روايتي «ليل» (2013) و«حارس الموتى» استوحيته مما كابدته خلال الحرب اللبنانية، إذ أمضيت ثلاثة أعوام متشرداً. وليس خافياً أن الكتابة تخرج صادقة ومؤثرة عندما تولد من حالة معيوشة. على أن الإحباط يتجلى في إرجاء النشر لأن القارئ يسعى اليوم إلى تأمين الرغيف والدواء وقسط المدرسة، ولا يكترث للكتاب الجديد الذي بات ثمنه مرتفعاً ارتفاعاً كبيراً مقارنة بسعره قبل الأزمة. لدي ثلاث روايات منجزة، إحداها للفتيان، أستأخرُ طبعها لهذا السبب. ما من حال، أياً تكون مفاعيله، يكبح فعل الكتابة، على افتراض أن هذا الفعل لا يترجم بالقلم والورقة أو باستخدام الكومبيوتر فحسب، بل كذلك بمراكمته في الرأس إلى أن يحين أوان إنزاله في الورقة البيضاء. النكبة الحاصلة منهل غزير للأفكار غير الاعتيادية. مثالاً لا حصراً: مراكب الموت، تبدد مدخرات الناس وإفقارهم، دهم المودع للمصرف بغية استرداد وديعته، الموت على باب المستشفى لتعذر دفع بدل الاستشفاء، تشجيع الأهل أولادهم على الهجرة... هذه كلها موضوعات محرضة على الكتابة. ما دام واقعنا التَعِس يمدنا بحكايات حية فقد انتفت الحاجة إلى سرقة الأفكار من هنا وهناك.
أنطوان الدويهي: المأساة عبر الذاكرة

العلاقة بين الإبداع الأدبي والفني من جهة، وأحوال المجتمع من جهة أخرى، هي علاقة غامضة ومعقدة لا تحتمل التعميم. أقصد هنا الإبداع الكبير، وليس الأعمال العادية التي ربما تكون عديدة وغزيرة، خصوصاً في زمننا، وتنتشر وفقاً لإتقان العلاقات ووسائل التواصل الاجتماعي. لكن ما أشير إليه هنا هي القلة النوعية التي تقوى على الزمن وتبقى، وليس الكمية. هذه العلاقة بين الذات واضطراب المجتمع تختلف بين مبدع وآخر، فيصعب الجزم بشأنها.
الإبداع الجمالي، الأدبي أو الفني، إنما يتكون عبر التفاعل بين غياهب الذات الفردية (في فرادتها وخصوصيتها وذاكرتها ووعيها ولا وعيها)، وأحوال المجتمع والطبيعة وعناصر التاريخ والكون. وكل ذات مبدعة لها تفاعلها المميز الخاص، وما يمكن أن ينتج عنه.
الأزمة الحالية ليست أقصى ما عرفته مكونات المجتمع اللبناني الحالي في تاريخه الحديث. لنأخذ مجاعة 1915 - 1918 الكبرى، إثر الحصار الذي فرض على جبل لبنان بعدما علق الأتراك نظام الحكم الذاتي وأقاموا الحكم العسكري والأحكام العرفية خلال الحرب العالمية الأولى، فأبيد ثلث سكان الجبل بفعل المجاعة والجراد والأمراض. حدثت أمور رهيبة تفوق الوصف. إنها على الأرجح المأساة الأفظع في تاريخ مجتمع جبل لبنان منذ «بدء الزمان». مع ذلك، لم تتجسد تلك الفاجعة الجماعية المهولة حتى الآن، على مدى أكثر من قرن، في أعمال إبداعية، أدبية أو فنية، كبرى (باستثناء رواية توفيق يوسف عواد «الرغيف»، ونص «مات أهلي» لجبران...). على صعيدي الشخصي، أشعر في أعماقي بقوة بتلك المأساة التي عرفتها عبر ذاكرة أمي وجدتي وعبر قراءاتي، وتهزني أكثر من الأزمة الحالية، على بشاعتها وخطورتها.
أحياناً يأتي العمل الإبداعي الكبير، ليس في الحاضر، بل بعد زمن طويل من انقضاء الاضطراب المجتمعي. لنأخذ مثلاً رواية تولستوي «الحرب والسلم»، إحدى روائع الأدب الروسي، التي موضوعها حملة بونابرت الكبرى على روسيا عام 1812، ظهرت الرواية عام 1865، بعد أكثر من نصف قرن على انتهاء تلك الحرب التي هزت المجتمع والوجدان الروسيين في أعماقهما، وحولت تاريخهما. لم يعرف تولستوي، المولود عام 1828، تلك الحرب، بل تعرف إليها وطبعته بطابعها عبر ذاكرة عائلته. والمبدعون الروس الذين عايشوا تلك الحرب واكتووا بنارها لم يستطيعوا تجسيدها في أعمال تضاهي عمله.
الإبداع الكبير، في نقطة التلاقي السري بين الذات المبدعة وتحولات المجتمع والطبيعة ومسار التاريخ، لا يسهل توقعه.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

دعوة مستثمر مصري للعمل 12 ساعة يومياً تثير جدلاً

رجل الأعمال في أثناء حديثه بالبودكاست (يوتيوب)
رجل الأعمال في أثناء حديثه بالبودكاست (يوتيوب)
TT

دعوة مستثمر مصري للعمل 12 ساعة يومياً تثير جدلاً

رجل الأعمال في أثناء حديثه بالبودكاست (يوتيوب)
رجل الأعمال في أثناء حديثه بالبودكاست (يوتيوب)

في حين أوصت دراسة من جامعة كامبريدج بتقليص ساعات العمل وتطبيق «أربعة أيام عمل في الأسبوع» لتعزيز الإنتاجية والحفاظ على الصحة النفسية للموظفين والعاملين، صرّح محمد فاروق، المستثمر ورجل الأعمال المصري المعروف بـ«الشارك حمادة»، بضرورة زيادة ساعات العمل لتحقيق النجاح الاقتصادي وزيادة الإنتاجية.

وأثارت التصريحات جدلاً عبر «السوشيال ميديا» بمصر، فبينما عدّ البعض تلك التصريحات تضر بحقوق العمال، عدّها آخرون تستهدف الحماس والتفوق في العمل.

وقال رجل الأعمال المصري محمد فاروق، إنه من الضروري العمل 12 ساعة يومياً لمدة 6 أيام في الأسبوع، وأضاف في برنامج بودكاست بعنوان «حكاية مدير» أن الدول الناجحة والمتقدمة تطبق هذا الأمر، ضارباً المثل بالصين وأن الناس هناك تعمل من 9 صباحاً إلى 9 مساء لستة أيام في الأسبوع.

وانتقد فاروق ما يروجه البعض حول التوازن بين العمل والحياة الشخصية، عادّاً هذا الحديث الذي ظهر خلال «جائحة كورونا» نوعاً من «الدلع»، مؤكداً «عدم نجاح الدول التي اتبعت هذا الأسلوب»، وفق تقديره.

وعدّ عضو مجلس النواب المصري عن حزب التجمع، عاطف مغاوري، أن «هذا الكلام يذكرنا بعقلية بدايات النظام الرأسمالي الذي كان يستنزف العمال في أوقات عمل طويلة، إلى أن تمكنت حركات النضال العمالية من تنظيم عقد عمل وحقوق عمال ومواعيد للعمل، وهذا متعارف عليه عالمياً».

ويضيف لـ«الشرق الأوسط» أن «التشريعات العمالية حين منحت العمال إجازات أو حددت لهم ساعات عمل كان هذا لمصلحة العمل وليس لصالح العامل، لأنك لو استنزفت العامل فلن تكون لديه قدرة على الاستمرار، كما أن منحه إجازات يجعله يجدد طاقته ونشاطه».

وأشار إلى أن «الاجتهاد يجب أن يكون في إطار الدستور والقوانين الموجودة لدينا، لكن المنطق الذي يطرح حالياً ربما يكون الهدف منه نبيلاً، وهو تحويل المجتمع إلى مجتمع منتج، ولكن ليس باستنزاف العامل».

وزارة القوى العاملة في مصر (فيسبوك)

ولفت إلى وجود «تشريعات حديثة تدعو لاحتساب الوقت المستغرق للوصول إلى العمل والعودة منه ضمن ساعات العمل».

وينظم ساعات العمل في القطاع الحكومي (العام) في مصر والقطاع الخاص، قانون العمل رقم 12 لسنة 2003 وما طرأ عليه من تعديلات، بالإضافة إلى اللوائح والقرارات التنفيذية الداخلية بكل مؤسسة أو شركة، وتقر المادة 85 من قانون العمل المصري بأنه «في جميع الأحوال لا يجوز أن تزيد ساعات العمل الفعلية على عشر ساعات في اليوم الواحد».

وعدّ الخبير في «السوشيال ميديا» محمد فتحي أن «البودكاست أصبح يتم استغلاله في الدعاية بشكل لافت»، وقال لـ«الشرق الأوسط» إن «بعض رواد الأعمال يستغلون هذه المنصة لبناء صورتهم الشخصية وعلاماتهم التجارية».

وأشار الخبير «السوشيالي» إلى سعي العديد من رجال الأعمال إلى بناء صورة إيجابية لأنفسهم وعلاماتهم التجارية من خلال المشاركة في البودكاست، حيث يمكنهم الوصول إلى جمهور واسع والتأثير في آرائه، للبحث عن الشهرة»، وفق تعبيره.

لكنه عدّ نقل الخبرات والمعرفة من الجوانب الإيجابية لظهور رجال الأعمال في البودكاست، بما يساهم في تطوير المهارات الريادية لدى الشباب، وكذلك إلهام الآخرين وتحفيزهم على تحقيق أهدافهم.

ووفق فتحي فإن «الأمر لا يخلو من جوانب سلبية لظهور رجال الأعمال في البودكاست من أهمها التسويق الخفي، بالإضافة إلى التركيز على النجاح الفردي بشكل مبالغ فيه، مما قد يخلق انطباعاً خاطئاً لدى المستمعين حول سهولة تحقيق النجاح».

وتوالت التعليقات على «السوشيال ميديا» حول تصريحات فاروق، بين من يعدّونه نموذجاً ويطالبون بتركه يتحدث، وآخرين عَدُّوه يتحدث بمنطق رجال الأعمال الذين لا يراعون العمال. وعلقت متابعة على الحلقة في «يوتيوب»، وكتبت: «المفروض يتعمل نادي لرجال الأعمال علشان يتجمعوا ويطوروا ويفيدوا بعض... وعجبتني جداً رؤية محمد فاروق للتكنولوجيا وحماسه تجاهها».

في حين كتب متابع آخر: «من السهل أن يعمل 12 ساعة وأكثر لأنها أعمال مكتبية، لا يمكن مقارنتها بعامل يقف على قدميه طوال اليوم لمدة 12 ساعة».

ويرى استشاري الأعمال الدولي، محمد برطش، أن «ساعات العمل لها قانون يحددها في أي مجتمع، لكن هناك ظروف استثنائية يمكن أن يعمل فيها الشخص 12 و20 ساعة لو هناك ما يتطلب ذلك».

وأضاف لـ«الشرق الأوسط»: «أرفض المقارنة بين مصر ودول أخرى، خصوصاً أوروبا وأميركا وأستراليا، فهذه دول تحملت الكثير لكي تصل إلى ما هي عليه الآن، وظروفها لا تشبه ظروفنا».

وتابع: «فكرة 12 ساعة عموماً يمكن الموافقة عليها أو رفضها بعد الإجابة عن عدة أسئلة، مثل: في أية ظروف وبأي مقابل، في القطاع العام أو الخاص؟ فمثلاً لو قلنا إن مصر لديها مشروع قومي لتصبح دولة صناعية حقيقية وسنطبق 12 ساعة عمل لتنفيذ مشروع قومي في مجال إنتاج بعينه حتى يتحقق الهدف من المشروع فهذا مقبول، لكن في الظروف العادية فهذا يتنافى مع قانون العمل».

وتبلغ ساعات العمل الأسبوعية في القطاعات المختلفة بمصر نحو 55 ساعة عمل أسبوعياً، وفق إحصائية للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء صادرة عام 2022.