تحديات الزراعة في الفضاء العميق

شركتان ناشئتان من «كاوست» تقتربان من إنتاج أغذية لرحلات المريخ

باحثو «ناسا» يجرون التجارب على إنتاج الغذاء في الفضاء
باحثو «ناسا» يجرون التجارب على إنتاج الغذاء في الفضاء
TT

تحديات الزراعة في الفضاء العميق

باحثو «ناسا» يجرون التجارب على إنتاج الغذاء في الفضاء
باحثو «ناسا» يجرون التجارب على إنتاج الغذاء في الفضاء

«المريخ ينادي!»... تلك الجملة برزت في إعلان لـ«وكالة الفضاء الأميركية (ناسا)»، في يوم الأحد 6 أغسطس (آب) 2021، تطلب فيه مرشحين ليكونوا أحد أفراد طاقم رحلة فضائية في برنامج «محاكاة للحياة في عالم بعيد»، مدته عام واحد يبدأ في خريف 2022، في «مركز جونسون للفضاء»، التابع للوكالة.
وكان قد سبق ذلك، وتحديداً في يناير (كانون الثاني) 2021، إعلان لـ«ناسا»، بالتنسيق مع وكالة الفضاء الكندية، عن بدء فتح باب الترشيحات لمسابقة حملت اسم «تحدي الغذاء في الفضاء العميق». ونظراً إلى أن روّاد الفضاء يحتاجون إلى نظام غذائي صحي، فقد دعت المسابقة إلى البحث عن تقنيات جديدة لإنتاج أغذية آمنة ومغذية وصحية وشهية، تتطلب الحد الأدنى من الموارد وتنتج نفايات محدودة وتناسب الرحلات الفضائية طويلة الأمد.
وخلال شهري أكتوبر (تشرين الأول) ونوفمبر (تشرين الثاني) 2021، أُعلن عن الفائزين في المرحلة الأولى من المسابقة، حيث اختير 18 فريقاً أميركياً، و10 فرق دولية من خارج الولايات المتحدة الأميركية شملت شركات ومبتكرين من: كولومبيا، وألمانيا، وفرنسا، وأستراليا، وإيطاليا، وتايلاند، والبرازيل، وفنلندا، والهند، والمملكة العربية السعودية، عبر شركتين ناشئتين من «جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (كاوست)».
يأتي ذلك التحدي نتيجة التطور والاهتمام الكبيرين اللذين يحظى بهما مجال تقنية الفضاء، حيث يبحث المبتكرون عن طرق جديدة لتوسيع الوجود البشري خارج كوكبنا ولإدارة موارد الفضاء.

غذاء فضائي

لماذا إنتاج الغذاء في الفضاء؟ في البداية كانت الوجبات الأولى في الفضاء غير مستساغة. وفي حين تحسّن طعام رواد الفضاء بعض الشيء، فإنهم لا يزالون حتى اليوم يعودون إلى منازلهم متلهفين لتناول طبقهم المفضل.
في عام 1961، أصبح رائد الفضاء السوفياتي يوري غاغارين أول إنسان يدور حول الأرض، كما كان أول شخص يأكل في الفضاء. وتضمنت وجبة غاغارين، الخالية من الفتات، حصتين من اللحم المهروس، مخزنتين بعناية في حاويات تشبه أنبوب معجون الأسنان.
في العام التالي، أصبح رائد الفضاء جون غلين أول أميركي يدور حول الأرض، ولم يكن اختيار وجبته أفضل من وجبات غاغارين.
في ذلك الوقت، كان لدى العلماء مخاوف أكبر من إرضاء ذوق رواد الفضاء، ولم يعرف أحد كيف سيتفاعل الجسم مع تناول الطعام في بيئة تنعدم فيها الجاذبية، وهل سيكون بمقدور رواد الفضاء ابتلاع الطعام وهضمه؟ لحسن الحظ، تعامل جسم غلين مع وجبة الفضاء بشكل طبيعي.
بعد ذلك حصل رواد فضاء على طعام صلب، واختفت أنابيب معجون الطعام. واليوم يتناول رواد الفضاء في «محطة الفضاء الدولية ISS))»، التي تبعد 250 ميلاً عن الأرض، بشكل أساسي الأطعمة المعلَّبة أو المجففة والمجمَّدة المرسلة من الأرض. وفي محاولة للتقليل من ذلك، طوّرت «ناسا» نظاماً على متن المحطة يطلق عليه «فيجي» لإنتاج مجموعة من الخضراوات، مثل الخس والكرنب والخردل والكيل الأحمر الروسي وأزهار الزينيا.
أما في الرحلات المستقبلية لغزو الفضاء، والتي ستكون طويلة، فسيحتاج رواد الفضاء لمصدر يمدّهم بالغذاء والأطعمة الطازجة على مدى أشهر أو سنوات طويلة. وفي هذه الحالة لن تمدَّهم الأغذية المجمّدة بالعناصر الغذائية والفيتامينات اللازمة لمنع إصابتهم بأمراض؛ مثل اضطرابات القلب والشرايين وجريان الدم.

فكرة التحدي

تعدّ مسابقة «تحدي الغذاء في الفضاء العميق» جزءاً من التحديات الكبرى، وهي سلسلة واسعة من المسابقات التي تنظمها «ناسا»، وتفتح المسابقة أبوابها أمام الشركات الرائدة التي تُعنى بتقديم حلول وتقنيات جديدة للمشكلات المتعلقة بالفضاء.
وفي حين تغامر «ناسا» بعيداً في الكون، ستتغير تجربة رائد الفضاء، استعداداً لتحديات الحياة الواقعية للبعثات المستقبلية إلى المريخ. وستدرس الوكالة كيفية استجابة الأفراد المتحمسين للغاية، في ظل صرامة محاكاة أرضية طويلة الأمد.
تتضمن سلسلة المهام - المعروفة باسم «صحة الطاقم وتناظرية استكشاف الأداء» - 3 عمليات محاكاة لسطح المريخ لمدة عام واحد في «مركز جونسون للفضاء»، التابع للوكالة؛ من أجل تطوير أساليب وتقنيات لمنع وحل المشكلات المحتملة وإنتاج الغذاء في مهام رحلات الفضاء البشرية المستقبلية إلى القمر الذي يبعد عن الأرض 238 ألفاً و855 ميلاً في المتوسط، والمريخ الذي يبعد 33 مليون ميل بوصفها أقصر مسافة.

تقنيات «كاوست» الفائزة

وقع الاختيار على شركتي «ناتوفيا» و«إدامة»؛ وهما من شركات التقنية الزراعية الناشئة في «كاوست»، ضمن قائمة الفائزين العشر في المرحلة الأولى من المسابقة، التي اختتمت أعمالها في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2021.
وكان تكريم وكالة «ناسا» و«وكالة الفضاء الكندية»، للفريق المشترك من «ناتوفيا» و«إدامة»، اعترافاً بتميز الشركتين في طرح حلول مبتكرة، وتطوير تقنيات جديدة لإنتاج الغذاء في الفضاء.
ومن مقرهما في «مجمع الأبحاث والتقنية» في «كاوست»، تضافرت جهود وخبرات الشركتين بوصفهما فريقاً واحداً، لمواجهة هذا التحدي وخوض غمار المسابقة معاً؛ إذ جاء الحل المقترح لهذا الثنائي المميز جامعاً بين أنظمة الزراعة المائية (دون تربة) الأوتوماتيكية المتقدمة، وأنظمة زراعة الطحالب الكبيرة، وأنظمة التسميد، التي تُدمج بسلاسة في نظام بيئي؛ لإنتاج غذاء يتميز بتكلفة صيانة منخفضة، وسهولة الاستخدام، واحتوائه حلقة تكرارية مغلقة.
ويرتكز هذا النظام على فكرة أساسية؛ وهي استعادة الموارد من النفايات، ومن ثم إعادة استخدامها بكفاءة بهدف زيادة الإنتاجية وتقليل الاعتماد على المُدخلات الخارجية.
كما يمكن أن يوفر هذا النظام قائمة متنوعة ومغذية من الطعام، تضم الفواكه والخضراوات والمكملات الغذائية المصنعة من الطحالب.
وفي سياق الحديث عن أهمية المسابقة وما يترتب عليها من إنجازات في مجال استكشاف الفضاء، قال جيم رويتر، المدير المساعد لـ«مديرية مهام تقنية الفضاء»، التابعة لوكالة «ناسا»: «الوكالة متحمسة لإشراك الجميع في تطوير التقنيات التي من الممكن أن تقدم تغذية صحية لمكتشفي الفضاء العميق، حيث إن التطورات التقنية وما تحققه الشركات مثل (ناتوفيا) و(إدامة) من إنجازات، تعمل على تعزيز مسيرتنا في اكتشاف الفضاء العميق».
وبصفتها الشركة الأولى من نوعها في المملكة العربية السعودية، تقدم «إدامة» حلولاً لإعادة تدوير النفايات العضوية للبلديات والمجتمعات الصغيرة؛ بهدف تغيير طريقة إدارة النفايات في المملكة.
يذكر أنه في عام 2018 كانت الشركة واحدة من 6 فائزين في «برنامج مسرّعة الأعمال»، المعروف باسم «تقدُّم»، التابع لـ«كاوست»، وهو إنجاز بارز ساهم في إنشاء مرفق تسميد تجريبي.
وقد عبّر ميتشل مورتون، المدير التنفيذي للتقنية والشريك المؤسس لشركة «إدامة»، عن سعادته قائلاً: «اختيار وكالة (ناسا) لشركتنا لهو شرف عظيم لنا، ودليل على توفيق خُطانا، وتشجيع كبير للمضي قدماً في عملية التطوير التي نقوم بها».
أما «ناتوفيا» فهي شركة أنشأتها «كاوست»، أو بالأحرى مختبر أبحاث حاصل على العديد من الجوائز، مختص في أنظمة الزراعة المائية التي توفر تقنية زراعة منزلية فريدة من نوعها، بحيث تنمو النباتات والأعشاب الطازجة على مدار العام.
وقد تلقت الشركة مبلغ مليوني دولار أمريكي من «صندوق كاوست للابتكار»، في عام 2021؛ بهدف مساعدتها على إطلاق منتجها في السوق، حيث تعتمد على ابتكار يسمى «نسبريسو للنباتات والأعشاب»؛ وهو حديقة داخلية مؤتْمتة بالكامل (قائمة بذاتها).
من جانبه، أضاف غريغوري لو، مؤسس شركة «ناتوفيا»: «هذه الجائزة من (ناسا) اعتراف كبير بمدى أهمية ابتكار (ناتوفيا). ومع وجود التقنيات المتطورة في (كاوست)، وبشراكتنا مع (إدامة)، فسنتمكن من مجابهة التحديات التي تطرأ على العديد من الصناعات. وفي حال تمكن (ناتوفيا) من زراعة النباتات في الفضاء، فسنتمكن من زراعتها في أي مكان؛ في المنزل أو المكتب أو المطعم».
من ناحية أخرى، تعمل الشركتان، في الوقت الحالي، على استكشاف مصادر للتمويل كي تتمكنا من المشاركة في المرحلتين الثانية والثالثة من المسابقة، خصوصاً أن لديهما من الخبرة والمهارة، ما يؤهلهما للمضي قدماً في المنافسة.
وتستمر المرحلة الثانية حتى مارس (آذار) 2023، وسيتعين على المشاركين إنشاء وعرض نموذج أولي لتقنيتهم المقترحة أمام لجنة مشتركة من وكالة «ناسا» و«وكالة الفضاء الكندية».
وتنتهي هذه المرحلة لتبدأ مرحلة الاختيار؛ حيث سيُختار 3 مشتركين دوليين، جنباً إلى جنب، مع الشركات الأميركية للمنافسة في المرحلة الثالثة الأخيرة.
أما الفائز في المرحلة الأخيرة فسيشترك مع «ناسا» لتطوير تقنيات إنتاج الغذاء التي سيزوَّد بها طاقم مكون من 4 رواد فضاء، خلال مهمة استكشاف تصل مدتها إلى 3 أعوام ذهاباً وإياباً.
يقول روبين غاتينيز، مدير برنامج المحطة الفضائية الدولية بالوكالة: «يمكن لهذه الأنواع من الأنظمة الغذائية أن تقدم منافع كثيرة لكوكبنا، فالحلول المصممة لمواجهة هذا التحدي يمكن أن توفر سبلاً جديدة لإنتاج الغذاء في جميع أنحاء العالم، خصوصاً في المناطق التي تعاني من ندرة الموارد، والمواقع التي تحدث فيها كوارث تدمر البنى التحتية الحساسة».
وتجسّد شركتا «ناتوفيا» و«إدامة» مثالين على أفضل المواهب التي احتضنتها «كاوست» وارتقت درجات عالية من التطور؛ بهدف تنشيط النظام البيئي الذي يتسم بالثراء في الشركات الناشئة السعودية، وحل المشكلات العالمية؛ بما في ذلك مشكلة استدامة الغذاء.
ولا ريب في هذا؛ فبصفتها قلب التقنية العميقة بالمملكة، تسعى «كاوست» بشكل مستمر إلى اقتناص فرص التعاون والاستثمار بهدف الابتكار وإيجاد الحلول في المشكلات العالمية الملحّة المتعلقة بالمناخ والصحة وغيرها من القضايا، ويبرز النظام القوي لريادة الأعمال في مجال النظام البيئي الذي تبنيه المملكة العربية السعودية لحل ما يتعلق به من مشكلات تؤرق العالم بأسره.


مقالات ذات صلة

علماء ينتجون «نموذج جنين بشري» في المختبر

علوم النموذج تم تطويره باستخدام الخلايا الجذعية (أرشيف - رويترز)

علماء ينتجون «نموذج جنين بشري» في المختبر

أنتجت مجموعة من العلماء هيكلاً يشبه إلى حد كبير الجنين البشري، وذلك في المختبر، دون استخدام حيوانات منوية أو بويضات.

«الشرق الأوسط» (لندن)
علوم الهياكل الشبيهة بالأجنة البشرية تم إنشاؤها في المختبر باستخدام الخلايا الجذعية (أرشيف - رويترز)

علماء يطورون «نماذج أجنة بشرية» في المختبر

قال فريق من الباحثين في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة إنهم ابتكروا أول هياكل صناعية في العالم شبيهة بالأجنة البشرية باستخدام الخلايا الجذعية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
علوم علماء يتمكنون من جمع حمض نووي بشري من الهواء والرمال والمياه

علماء يتمكنون من جمع حمض نووي بشري من الهواء والرمال والمياه

تمكنت مجموعة من العلماء من جمع وتحليل الحمض النووي البشري من الهواء في غرفة مزدحمة ومن آثار الأقدام على رمال الشواطئ ومياه المحيطات والأنهار.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
علوم صورة لنموذج يمثل إنسان «نياندرتال» معروضاً في «المتحف الوطني لعصور ما قبل التاريخ» بفرنسا (أ.ف.ب)

دراسة: شكل أنف البشر حالياً تأثر بجينات إنسان «نياندرتال»

أظهرت دراسة جديدة أن شكل أنف الإنسان الحديث قد يكون تأثر جزئياً بالجينات الموروثة من إنسان «نياندرتال».

«الشرق الأوسط» (لندن)
علوم دراسة تطرح نظرية جديدة بشأن كيفية نشأة القارات

دراسة تطرح نظرية جديدة بشأن كيفية نشأة القارات

توصلت دراسة جديدة إلى نظرية جديدة بشأن كيفية نشأة القارات على كوكب الأرض مشيرة إلى أن نظرية «تبلور العقيق المعدني» الشهيرة تعتبر تفسيراً بعيد الاحتمال للغاية.

«الشرق الأوسط» (لندن)

ذكاء اصطناعي «شديد الحساسية للرائحة» يكتشف المصنوعات المقلَّدة

ذكاء اصطناعي «شديد الحساسية للرائحة» يكتشف المصنوعات المقلَّدة
TT

ذكاء اصطناعي «شديد الحساسية للرائحة» يكتشف المصنوعات المقلَّدة

ذكاء اصطناعي «شديد الحساسية للرائحة» يكتشف المصنوعات المقلَّدة

ابتكر أليكس ويلشكو، مؤسس شركة الذكاء الاصطناعي «أوسمو»، وفريقه نسخة «ألفا» من جهاز خيالي بحجم حقيبة الظهر مزودة بمستشعر شمّ يستخدم الذكاء الاصطناعي لتحديد المنتجات المقلدة من خلال تحليل تركيبها الكيميائي.

وأقامت شركة «أوسمو» (Osmo) شراكة مع منصات إعادة بيع الأحذية الرياضية لإظهار أن اختبار الشم عالي التقنية قادر على تحديد المنتجات المزيفة بدرجة عالية من الدقة.

الجزيئات المتطايرة تحدد الرائحة

كل شيء في العالم له رائحة، من الملابس إلى السيارات إلى جسمك. هذه الروائح هي جزيئات متطايرة، أو كيمياء «تطير» من تلك الأشياء وتصل إلى أنوفنا لتخبرنا بالأشياء. ويختبر الإنسان ذلك بوعي ووضوح عندما يكون هناك شيء جديد قرب أنفه، مثل شم سيارة جديدة أو زوج من الأحذية الرياضية. لكن حتى عندما لا تلاحظ الروائح، فإن الجزيئات موجودة دائماً.

رائحة المنتجات المقلَّدة

الأحذية المقلدة لها رائحة مختلفة عن الأحذية الحقيقية. إذ لا تختلف الأحذية الرياضية الأصلية والمقلدة في المواد، فحسب، لكن في التركيب الكيميائي. حتى الآن، اعتمدت شركات مثل «استوكس» (StockX) على اختبارات الشم البشري والفحص البصري لتمييز الأصالة - وهي عملية تتطلب عمالة مكثفة ومكلفة. وتهدف التقنية الجديدة إلى تبسيط العملية.

خريطة تحليل الفوارق اللونية

تدريب الذكاء الاصطناعي على الاختلافات الجزيئية

ووفقاً لويلشكو، درَّب فريقه «الذكاء الاصطناعي باستخدام أجهزة استشعار شديدة الحساسية للتمييز بين هذه الاختلافات الجزيئية».

وستغير هذه التكنولوجيا كيفية إجراء عمليات التحقق من الأصالة في الصناعات التي تعتمد تقليدياً على التفتيش اليدوي والحدس. وتهدف إلى رقمنة هذه العملية، وإضافة الاتساق والسرعة والدقة.

20 ثانية للتمييز بين المزيف والحقيقي

ويضيف أن آلة «أوسمو» تستغرق الآن نحو 20 ثانية للتمييز بين المنتج المزيف والحقيقي. وقريباً، كما يقول، ستقل الفترة إلى خمس ثوانٍ فقط. وفي النهاية، ستكون فورية تقريباً.

تم بناء أساس التقنية على سنوات من العمل المخبري باستخدام أجهزة استشعار شديدة الحساسية، كما يصفها ويلشكو، «بحجم غسالة الأطباق»، ويضيف: «تم تصميم أجهزة الاستشعار هذه لتكون حساسة مثل أنف الكلب، وقادرة على اكتشاف أضعف البصمات الكيميائية».

وتعمل هذه المستشعرات على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع، وتجمع باستمرار البيانات حول التركيب الكيميائي لكل شيء من البرقوق والخوخ إلى المنتجات المصنعة»، كما يوضح ويلشكو.

خريطة الرائحة الرئيسية

تشكل البيانات التي تم جمعها العمود الفقري لعملية تدريب الذكاء الاصطناعي الخاصة بالشركة، والتي تساعد في إنشاء فهم عالي الدقة للروائح المختلفة ومنحها موقعاً في نظام إحداثيات يسمى خريطة الرائحة الرئيسية.

إذا كنت على دراية بكيفية ترميز ألوان الصورة في الصور الرقمية، فان الطريقة تعمل بشكل مماثل. إذ تقريباً، يتوافق لون البكسل مع مكان على خريطة RGB، وهي نقطة في مساحة ثلاثية الأبعاد بها إحداثيات حمراء وخضراء وزرقاء.

تعمل خريطة الرائحة الرئيسية بشكل مشابه، باستثناء أن الإحداثيات في تلك المساحة تتنبأ بكيفية ورود رائحة مجموعات معينة من الجزيئات في العالم الحقيقي. يقول ويلشكو إن هذه الخريطة هي الصلصة السرية لشركة «أوسمو» لجعل الاختبار ممكناً في الوحدات المحمولة ذات أجهزة استشعار ذات دقة أقل وحساسة تقريباً مثل أنف الإنسان.

من المختبر إلى الأدوات اليومية

يقول ويلشكو إنه في حين أن أجهزة الاستشعار المحمولة أقل حساسية من وحدات المختبر، فإن البيانات المكثفة التي يتم جمعها باستخدام أجهزة الاستشعار عالية الدقة تجعل من الممكن إجراء اكتشاف فعال للرائحة. مثل الذكاء الاصطناعي لقياس الصورة القادر على استنتاج محتويات الصورة لإنشاء نسخة بدقة أعلى بناءً على مليارات الصور من نموذجه المدرب، فإن هذا يحدث بالطريقة نفسها مع الرائحة. تعدّ هذه القدرة على التكيف أمراً بالغ الأهمية للتطبيقات في العالم الحقيقي، حيث لا يكون نشر جهاز بحجم المختبر ممكناً.

من جهته، يشير روهينتون ميهتا، نائب الرئيس الأول للأجهزة والتصنيع في «أوسمو»، إلى أن مفتاح عملية التعريف لا يتعلق كثيراً بالروائح التي يمكننا إدراكها، لكن بالتركيب الكيميائي للكائن أو الشيء، وما يكمن تحته. ويقول: «الكثير من الأشياء التي نريد البحث عنها والتحقق من صحتها قد لا يكون لها حتى رائحة محسوسة. الأمر أشبه بمحاولة تحليل التركيب الكيميائي».

وهو يصف اختباراً تجريبياً أجرته الشركة مؤخراً مع شركة إعادة بيع أحذية رياضية كبيرة حقق معدل نجاح يزيد على 95 في المائة في التمييز بين الأحذية المزيفة والأحذية الحقيقية.

إلا أن الطريقة لا تعمل إلا مع الأشياء ذات الحجم الكبير، في الوقت الحالي. ولا يمكن للتكنولوجيا التحقق من صحة الأشياء النادرة جداً التي تم صنع ثلاثة منها فقط، مثلاً.

هذا لأنه، كما أخبرني ويلشكو، يتعلم الذكاء الاصطناعي باستخدام البيانات. لكي يتعلم رائحة طراز جديد معين من الأحذية، تحتاج إلى إعطائه نحو 10 أزواج من الأحذية الرياضية الحقيقية. في بعض الأحيان، تكون رائحة البصمة خافتة لدرجة أنه سيحتاج إلى 50 حذاءً رياضياً أصلياً ليتعلم الطراز الجديد.

خلق روائح جديدة

لا يشم مختبر «أوسمو» الأشياء التي صنعها آخرون فحسب، بل يخلق أيضاً روائح جديدة داخل الشركة باستخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي والروبوتات نفسها. أظهر علماء الشركة كيف يعمل هذا بطريقة عملية خلال تجربة أطلقوا عليها اسم مشروع نقل الرائحة. لقد التقطوا رائحة باستخدام مطياف الكتلة للتفريق اللوني الغازي (GCMS)، الذي يحللها إلى مكوناتها الجزيئية ويحمل البيانات إلى السحابة. أصبحت هذه البيانات الملتقطة إحداثيات على خريطة الرائحة الرئيسية. بمجرد رسم الخريطة، يتم توجيه روبوت التركيب في مكان آخر لخلط عناصر مختلفة وفقاً لوصفة الرائحة، وإعادة إنشاء الرائحة الأصلية بشكل فعال.

رائحة مصنّعة لتعريف المنتجات

باستخدام تقنية تصنيع الرائحة نفسها، يتخيل ويلشكو أن «أوسمو» يمكن أن تدمج جزيئات عديمة الرائحة مباشرة في المنتجات بصفتها معرفاتٍ فريدة؛ مما يخلق توقيعاً غير مرئي لن يكون لدى المزورين أي طريقة لاكتشافه أو تكراره. فكر في هذا باعتباره ختماً غير مرئي للأصالة.

وتعمل شركة «أوسمو» على تطوير هذه العلامات الفريدة لتُدمج في مواد مثل الغراء أو حتى في القماش نفسه؛ ما يوفر مؤشراً سرياً لا لبس فيه على الأصالة.

هناك فرصة كبيرة هنا. وكما أخبرني ويلشكو، فإن صناعة الرياضة هي سوق بمليارات الدولارات، حيث أعلنت شركة «نايكي» وحدها عن إيرادات بلغت 60 مليار دولار في العام الماضي. ومع ذلك، تنتشر النسخ المقلدة من منتجاتها على نطاق واسع، حيث أفادت التقارير بأن 20 مليار دولار من السلع المقلدة تقطع هذه الإيرادات. وقد صادرت الجمارك وحماية الحدود الأميركية سلعاً مقلدة بقيمة مليار دولار فقط في العام الماضي في جميع قطاعات الصناعة، وليس فقط السلع الرياضية. ومن الواضح أن تقنية الرائحة هذه يمكن أن تصبح سلاحاً حاسماً لمحاربة المنتجات المقلدة، خصوصاً في أصعب الحالات، حيث تفشل الأساليب التقليدية، مثل فحص العلامات المرئية.

الرائحة هي مفتاح المستقبل

يرى ويلشكو أن النظام جزء من استراتيجية أوسع لرقمنة حاسة الشم - وهو مفهوم بدأ العمل عليه عند عمله في قسم أبحاث «غوغل». إن أساس النظام يكمن في مفهوم يسمى العلاقة بين البنية والرائحة. وتتلخص هذه العلاقة في التنبؤ برائحة الجزيء بناءً على بنيته الكيميائية، وكان مفتاح حل هذه المشكلة هو استخدام الشبكات العصبية البيانية.

إمكانات طبية لرصد الأمراض

إن الإمكانات الطبية لهذه التقنية هي تحويلية بالقدر نفسه. ويتصور ويلشكو أن النظام يمكن استخدامه للكشف المبكر عن الأمراض - مثل السرطان أو السكري أو حتى الحالات العصبية مثل مرض باركنسون - من خلال تحليل التغييرات الدقيقة في رائحة الجسم التي تسبق الأعراض غالباً.

لكنه يقول إنه حذّر بشأن موعد حدوث هذا التقدم؛ لأنه يجب على العلماء أن يحددوا أولاً العلامات الجزيئية لهذه الروائح قبل أن تتمكن الآلة من اكتشاف أمراض مختلفة. وتعمل الشركة بالفعل مع عدد من الباحثين في هذا المجال.

* مجلة «فاست كومباني» - خدمات «تريبيون ميديا»