فيكو: تدشين «الوعي التاريخي» والانتباه المبكر لأزمة العلوم الإنسانية

أول ترجمة عربية لـ«العلم الجديد» بعد «إحجام» عربي طويل

فيكو: تدشين «الوعي التاريخي» والانتباه المبكر لأزمة العلوم الإنسانية
TT

فيكو: تدشين «الوعي التاريخي» والانتباه المبكر لأزمة العلوم الإنسانية

فيكو: تدشين «الوعي التاريخي» والانتباه المبكر لأزمة العلوم الإنسانية

وأخيراً، وبعد جهد دام سنتين ونصف السنة، تمكنت دار «أدب» بإشراف الدكتور عبد الله السفياني من إصدار أول ترجمة عربية لأحد أبرز الكتب في الزمن الحديث، وهو «العلم الجديد، في الطبيعة المشتركة لكل الأمم» لجيامباتيستا فيكو. وهو الآن يعرض بالمعرض الدولي للكتاب بالرياض 2022. ولا نحتاج لكثير من التذكير بأهمية هذا الكتاب، فيكفي أنه هو من استخدم المصطلح الذي نسميه الآن «الوعي التاريخي»، إضافة إلى توقعه أزمة العلوم الإنسانية.
أما وعن أسباب إحجام العرب عن ترجمة هذا الكتاب المهم، فإن الدكتور أحمد الصمعي الذي نقله إلى العربية، يذكر أهم سبب والمتمثل في لغته الإيطالية الدقيقة وصعبة المنال، لغة رجال السياسة والقانون في القرنين السابع عشر والثامن عشر المشحونة بالاستطرادات والخطاب المسترسل دون تنقيط واضح وبجمل اعتراضية طويلة تجعل القارئ يتيه بين الألفاظ والأفكار. فحتى الإيطاليين ومن يتحدثون لغات لها جذور لاتينية وإغريقية يجدون صعوبة في قراءته، فما بالك بالقارئ العربي صاحب اللغة والحضارة المختلفتين. كما أن هناك أيضاً سبباً آخر يشير إليه المترجم والمتمثل في كثرة العلوم التي يستحضرها فيكو، خاصة القديمة منها؛ وهو ما يجعل المترجم مطالباً بالخوض في صنوف متعددة من المعارف تأخذ وقت المترجم وجهده في التدقيق والتمحيص.

جاء الكتاب في حجم كبير وبعدد من الصفحات تجاوز 700 وبطبعة أنيقة تليق به، وقد قدم له الدكتور السفياني ليحكي لنا قصة هذا الكتاب و«الجهد الكبير الذي بذلته دار أدب لإخراج منتوج محترم يفيد الثقافة العربية». ومما زاد الكتاب جاذبية التقديم الذي وضعه المترجم والذي يعطي فيه فكرة عن مجمل حياة فيكو التي كانت بئيسة ومليئة بالمرض والفقر وقلة ذات اليد والصعوبات في الاندماج داخل المجمع العلمي، ففيكو لم يكن يجد اعترافاً كافياً، كما قام المترجم بإعطاء نظرة عامة حول الكتاب وأهميته.
إجمالاً، يمكن في هذه المراجعة السريعة التي لا تغني عن قراءة متن الكتاب الغني والمتعدد الطروحات أن نقول، إن فيكو يفرّق بين ما خلقه الله وما أنتجه الإنسان، فالله خلق الطبيعة أما الإنسان فقد أنتج بروحه المجتمع والثقافة والتاريخ، ويستتبع هذا المعطى الأولي الذي ينطلق منه فيكو كون الإنسان لن يتمكن من فهم الطبيعة فهماً كلياً، أي دفعة واحدة، فهذا اختصاص رباني ومقدرة خاصة بالله وحده. أما أقصى ما يمكن أن يفعله الإنسان فهو وصف عمليات الطبيعة وشرح سلوكات الظواهر الفيزيائية في أوضاع تجريبية محددة، لكنه يجهل لماذا الطبيعة اختارت السلوك على منوال وليس على آخر. بطريقة أخرى، نقول مع فيكو، إن الإنسان هو يعرف الطبيعة، لكن من الخارج، كمراقب فقط، أما أن يعرفها من الداخل فهو أمر يتجاوز إمكاناته.
إن القاعدة الأساسية التي ينطلق منها فيكو هي أن الأشياء تُعرف وتُفهم جيداً إذا وصلنا إلى عمقها وتغلغلنا إلى باطنها، أما إلقاء نظرة على خارجها فلن يقدم إلا معرفة سطحية؛ لهذا فالإنسان يعرف فقط ما يخلقه بنفسه: كالمجتمع والدولة والقوانين والتاريخ... أما الطبيعة فهو يحوم حولها ولا يصل أبداً إلى لبّها لأنها خلق رباني.
لقد ألّف فيكو كتابه «العلم الجديد» ليمجد العلوم الإنسانية ويعدّها مجال الإنسان بامتياز، حيث يمكن أن يحقق فيها معارف يقينية ويصيب فيها درجة عالية من الفهم؛ لأنه باختصار هو خالق موضوع البحث فيها على خلاف العلوم الطبيعية التي يعد أمرها موكولاً إلى الله.
لقد تنبّه فيكو في وقت مبكر إلى أن الاختلاف بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية ليس اختلافاً في المنهج، بل اختلاف في علاقة الذات بالموضوع، وهو هنا سيدخل في نقاش قوي مع ديكارت، معلناً أن الذات ليست معزولة في العلوم الإنسانية عن الموضوع الذي ما هو إلا الذات نفسها؛ مما يجعل الباحث شاء أم أبى منخرطاً ومشاركاً، وما عليه إلا أن يفهم الدوافع والمحركات والمقاصد والرغبات الإنسانية، فالتمييز الديكارتي بين الذات والموضوع والعمل على عزلهما عن بعضهما بعضاً يصدق في العلوم الطبيعية ويفشل في العلوم الإنسانية، بكلمة واحدة إذا كان الباحث في المجال الطبيعي مراقباً ففي المجال الإنساني مشاركاً.
لقد ظهر كتاب «العلم الجديد» في لحظة كانت فيه السيادة للفلسفة الديكارتية التي تولي الاهتمام بالعلوم الطبيعية على حساب العلوم الإنسانية، هذه الأخيرة سيعيد لها فيكو الاعتبار، بل يمكن ببساطة اعتبار فيكو أحد من توقع ذلك الجدل اللاحق والهائل حول أزمة العلوم الإنسانية وهي تقلد العلوم الطبيعية.
«كتاب العلم الجديد» توليفة تجمع فقه اللغة وعلم الاجتماع والتاريخ، جعلت فيكو يقف عند فكرة جوهرية في العصر الحداثي والمتمثلة في «الوعي التاريخي» منبهاً إلى ضرورة قراءة الماضي بعيونه ووفق سياقاته التي تختلف عن الحاضر تماما، ففهم الماضي يكون بالتعامل بلغة القدامى والتماهي مع أفقهم النفسي والاجتماعي. وقد يبدو هذا «الوعي التاريخي» أمراً معتاداً وعادياً في عصرنا، لكنه كان في القرنين السابع عشر والثامن عشر مجرد جنين.


مقالات ذات صلة

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)
ثقافة وفنون العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام

معرض الكويت الدولي للكتاب ينطلق غداً... وعبد الله الغنيم «شخصية العام»

ينطلق غداً (الأربعاء) معرض الكويت الدولي للكتاب في دورته الـ47، بمشاركة 544 دار نشر، من 31 دولة، منها 19 دولة عربية و12 أجنبية.

«الشرق الأوسط» (الكويت)

«التسامح في الإمارات»... الأبعاد والجذور التاريخية

«التسامح في الإمارات»... الأبعاد والجذور التاريخية
TT

«التسامح في الإمارات»... الأبعاد والجذور التاريخية

«التسامح في الإمارات»... الأبعاد والجذور التاريخية

فضاءات ومحاور بحث معمق، متخصصة في عوالم التعايش والتناغم المتأصلة والمؤتلِقة ضمن مجتمع دولة الإمارات العربية المتحدة، يناقشها ويقاربها كتاب «التسامح في الإمارات... سيرة جديدة وضّاءة للأخوة الإنسانية (شهادات وقصص بطلها الآخر)»، للصحافي والباحث السوري رفعت إسماعيل بوعساف، الصادر، أخيراً، عن دار «ميتافيرس برس» للنشر. ويعرض المؤلِّف أبرز شواهد تآلف وتقارب حضارات وأديان وثقافات، موضحاً أهم المقومات التي امتازت بها وعلى رأسها: تجذّر التواصل والانفتاح في المجتمع، وتمسك قادة الإمارات بالقيم الإنسانية، وسماحة أهلها واتسامهم بالوسطية والاعتدال، والمشروعات والمبادرات النوعية الكفيلة بترسيخ التسامح محلياً وعالمياً (مثل: وثيقة الأخوة الإنسانية، وبيت العائلة الإبراهيمية، ووزارة التسامح، والمعهد الدولي للتسامح، والأعمال والمبادرات الخيرية المتنوعة).

يتضمن الكتاب، الواقع في 411 صفحة، على أربعة أبواب رئيسية، وخاتمة تضم مقترحات وتوصيات. وتناقش فصوله جوانب كثيرة شاملة يُجمل فيها بوعساف، وعبر سير مشاهداته ومعايشاته في الإمارات طوال أكثر من 20 عاماً، وكذا في ضوء خلاصات أبحاثه الخاصة بالدراسة، مصادر وينابيع جدارة وتميز مجتمع الإمارات في مدارات التّسامح، مبيناً في مستهلّ إضاءاته الأبعاد والجذور التاريخية لحكاية التسامح في هذه الأرض، في المحطات والأزمان كافّة، طبقاً لأسانيد وتدوينات تاريخية جليّة، فأهلها لطالما تميزوا بكونهم يحتفون بالآخر المختلف عنهم ويرحبون به ولا يرفضونه أو يعزلون أنفسهم عنه، وهكذا ضمّوا وحضنوا بين ظهرانيهم أفراداً من أعراق ومذاهب شتّى بقوا يبادلونهم الحب ويتأثرون ويؤثّرون بهم، ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً. ويستعرض المؤلف عقبها، حقائق فاعلية وإثمار مساعي وبرامج دولة الإمارات العربية المتحدة، الرامية إلى تعزيز التقارب بين الأديان وأطياف الإنسانية... وكذا إطفاء ألهبة أزمات الهُويات، واستئصال أسباب الصراعات المذهبية وقطع دابر التعصب. ثم يدرس ويحلل ماهيات أعمدة وتجليات التسامح والتعايش في ميادين الحياة بالإمارات: المجتمعية والصحية والتعليمية والثقافية والاقتصادية والقانونية والإعلامية. ويقدم، أيضاً، جملة شهادات وإشادات لأبرز السياسيين ورجالات الدين والبحاثة والكتّاب الأجانب حول ثراء الإمارات بقيم الانفتاح والتعايش والتواصل، ومنهم: الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ومسؤولون أمريكيون، ونجم الكرة الأرجنتيني الراحل دييغو مارادونا، والروائي البرازيلي باولو كويلو، ونجم بوليوود شاروخان، وعالم النفس والباحث الكندي البروفسور إدوارد دينر. كما يُفرد الكتاب محطات موسَّعة لشرح طبيعة وقيمة حصاد جهود الدولة ومبادراتها ورؤى قادتها، الضامنة تمكين وتقوية هياكل ومرتكزات التسامح والتآخي الإنساني في مجتمع الإمارات والعالم أجمع، التي تكللها أعمال ومشروعات عمل خيري وإنساني ترصد لها الإمارات ميزانيات ضخمة، تطول أصقاع الأرض قاطبةً ولا تميز فيها بين دين أو إثنية أو طائفة.

ويحفل الباب الرابع في الكتاب، الموسوم «حوارات وسيمفونية»، بحوارات وأحاديث مع رجال دين ومسؤولين ومثقفين وأطباء وإعلاميين ومهندسين ومبدعين، بعضهم يقيم في الدولة منذ أكثر من 60 عاماً، يروون فيها حقائق ومواقف كثيرة، بشأن التسامح وواقع انفتاح المجتمع وقبوله الآخر المختلف ورسوخ التعايش والمحبة فيه. وتضم قائمة هؤلاء المحاورين: أحمد الحَدَّاد، مفتي دبي وعضو «مجلس الإمارات للإفتاء»، وبول هيندر، أسقف الكنيسة الكاثوليكية في جنوب شبه الجزيرة العربية (2004-2022م)، وراجو شروف، رئيس معبد «سندي غورو دربار» الهندوسي، وحمّود الحناوي، شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز في سوريا، وسوريندر سينغ كاندهاري، رئيس معبد «غورو ناناك دربار السيخي»، وعشيش بروا، مسؤول «المركز الاجتماعي البوذي» في الشارقة، وإيان فيرسرفيس، الشريك المؤسس ورئيس تحرير «موتيڤيت ميديا غروب»، وزليخة داود، أول طبيبة نسائية في الإمارات (1964م)، وبيتر هارادين، الرئيس السابق لـ«مجلس العمل السويسري»، وراميش شوكلا، أحد أقدم المصورين في الإمارات.