خصصت سلسلة «ذاكرة الفنون»، الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، عددها رقم 77 الصادر أخيراً للفنان المصري محمود مختار، أحد أهم رواد فن النحت المصري الحديث.
يقع العدد في 102 صفحة من القطع المتوسط، وقام بتحريره الشاعر والكاتب الصحافي المصري ماهر حسن، حيث تناول السيرة الذاتية لمحمود مختار تضمنت لقطات من حيات مختار وأعماله، ومسيرته الفنية، التي لم تمتد طويلاً، فقد ولد في 1891، ورحل في 1934 عن عمر ناهز الثالثة والأربعين، إلا أنه استطاع خلالها أن يترك أعمالاً نحتية، لاقت صدى وتقديراً خاصين في الأوساط التشكيلة المحلية والعالمية.
وعبر سبعة فصول، نتعرف في تقديم حسن على سيرة مختار منذ نشأته الريفية ثم انتقاله إلى القاهرة، منها إلى باريس حيث درس الفنون، وتناول المقدم أيضاً قصة تمثال «نهضة مصر» الشهير، وتماثيل مختار الأخرى، لا سيما تمثالي زعيم الأمة سعد زغلول. واستند المؤلف في ذلك على ما سجله ابن أخت مختار، الناقد بدر الدين أبو غازي، وزير الثقافة المصري الأسبق، في كتابه الذي كتبه عن «خاله» في حقبة الستينيات.
يذكر المؤلف أن شهوة الفن لدي مختار رافقته منذ الطفولة، فحين أرسلته أمه إلى كُتاب قرية «نشا» بدلتا النيل كعادة أهل الريف، كان يفرُ من الكتاب إلى الترعة، فهو يحس أنها تسري له بأشياء أروع مما يصخب به الكتاب، فعلى ضفافها كانت لعبته المفضلة هي تشكيل قطع الطين، يحيل أحداث البلدة ومشاهدها إلى أشكال يصنعها من هذه العجينة الساحرة... يصور من البلدة أشخاصها ومآتمها وأفراحها ومواكب العائدين من الحج، ويجلس متأملاً فلاحات القرية وهن يملأن جرارهن، وكان يعود من رحلته اليومية حاملاً تماثيله الطينية ليضعها في فرن المنزل فتجففها الحرارة، ويأخذها إلى سطوح البيت ويلعب بها مع إخوته، ويؤلف لها الحكايات، ويجعلهـا تتحدث مع بعضها في حوار بصوته.
تزامن انتقال الصبي محمود مختار إلى الإقامة بالقاهرة، مع افتتاح مدرسة الفنون الجميلة في مايو (أيار) سنة 1908، وجاء خبر افتتاح المدرسة بمثابة طوق النجاة لهذه الموهبة ولغيره من أصحاب المواهب، حيث جُلب لها كبار الأساتذة من فرنسا وإيطاليا وغيرهما، وكان الالتحاق بها مجاناً بعد اختبار قبول ودون تقيد بسن. وفيها زامل مختار الرعيل الأول من الفنانين، مثل راغب عياد، ويوسف كامل، ومحمد حسن.
في الفصل الثالث من السلسلة، ينقلنا الكاتب إلى باريس، التي سافر إليها مختار لإتمام دراسته، وهي الخطوة التي يعُدها المؤلف «بمثابة المفجر لطاقة هائلة لنحات مصري عظيم»، بعد أن وجد فيها ينبوعاً فياضاً لتذوق الفن ودراسته، حيث مناخ الحرية.
في امتحان القبول بمدرسة الفنون الجميلة في باريس «بوزار دي باري» تقدم أكثر من مائة طالب، ففاز مختار عليهم جميعاً، وكان هذا الفوز حدثاً في المدرسة، ظل الطلبة يذكرونه ويعجبون لـ«رمسيس الجديد» - كما كانوا يلقبونه - الذي تجاوز مجموعة تمثل شباب أغلب بلدان العالم.
ويتوقف المقدم عند واقعة الاكتتاب الشعبي لإقامة تمثال «نهضة مصر»، الذي قدم نموذجاً صغيراً له في البداية إلى معرض الفنون الجميلة في باريس، وعندما زار سعد باشا زغلول باريس مع رفاقه من الوفد زاروا المعرض وشاهدوا التمثال، فكتب سعد زغلول إلى مختار يثني على التمثال، لتتبلور بعدها فكرة إقامة التمثال في أحد ميادين القاهرة، وقتها قامت الصحف المصرية بحملة ترويج لإقامة التمثال للأهمية الرمزية والملمح الوطني في هذا العمل الفني، حيث لقي ترحيباً من الأوساط السياسية والحزبية والاجتماعية بالأمر، وسارع أفراد الشعب، أغنياؤه وفقراؤه، للاكتتاب، وتحول تنفيذ وإقامة هذا التمثال إلى مهمة مقدسة، وصار مختار بطلاً وطنياً مكلفاً بمهمة وطنية كبرى، وهي المهمة التي تُكللت بالنجاح في عام 1928.
ويقول ماهر حسن، إنه ليس من الإنصاف اختزال سيرة ومسيرة وعطاء محمود مختار في عملين أو ثلاثة من أعماله، فله عطاء غزير وغني ومتنوع عكس الهوية المصرية في فضائها الخاص والعام، وجمع فيه بين التيارات والمدارس النحتية، وبين الأصالة والمعاصرة، مشكلاً جسراً قوياً يصل هذا الفن بروحه الحضارية الضاربة في القدم.