كوارتنغ... وزير الخزانة البريطاني الذي أرعب الأسواق

تحدّى بنك انجلترا المركزي وتمسّك بِرهانه رغم تراجع الإسترليني

كوارتنغ... وزير الخزانة البريطاني الذي أرعب الأسواق
TT

كوارتنغ... وزير الخزانة البريطاني الذي أرعب الأسواق

كوارتنغ... وزير الخزانة البريطاني الذي أرعب الأسواق

تحذير صارم من صندوق النقد الدولي، سياسات مالية ونقدية متناقضة، ذعر في الأسواق وتراجع كبير للعملة. لا... هذه ليست مؤشرات أزمة مالية في اقتصاد ناشئ، بل نتيجة ميزانية طارئة أقرّتها حكومة عضو في مجموعة الاقتصادات السبع الكبرى رغم تحفّظات بنكها المركزي. مهندس هذه السياسة، والمدافع الأكبر عنها، هو وزير الخزانة (المالية) البريطاني الجديد كواسي كوارتنغ الذي تسلّم مفاتيح «11 داونينغ ستريت» - حيث المقر الرسمي لشاغل هذا المنصب - قبل ثلاثة أسابيع، ضمن إحدى أكثر الحكومات تنوّعاً عرقياً ودينياً في تاريخ بريطانيا بقيادة ليز تراس. ولكن ما فتئ كوارتنغ أن تسلّم أهم حقيبة وزارية في الحكومة حتى بدأ يفقد ثقة زملائه في حزب المحافظين، وأخذت تسري همهمات وتكهنات مبكّرة حول قدرته على الصمود في وجه الفوضى التي عمّت الأسواق نتيجة سياساته المالية. فمن هو كوارتنغ؟ وهل تنجح سياساته الجريئة في استعادة النمو وإنعاش الاقتصاد، أم تنقلب عليه وتتسبب في سقوط مبكّر لحكومة تراس؟
ثمة مَن يقول، إنه لولا جذوره المهاجرة، لكانت مسيرة كواسي كوارتنغ التعليمية والمهنية نسخة من مسيرة غالبية كبار المحافظين البريطانيين منذ الحرب العالمية الثانية: تعليم ثانوي في كلية إيتون، أرقى مدارس بريطانيا وأعرقها، ودراسة جامعية حتى الدكتوراه في جامعتي كمبردج وهارفارد الشهيرتين، ومقالات رأي في صحيفة «الديلي تلغراف» المحافظة، وطموح سياسي مبكّر قاده إلى أعلى المناصب الوزارية قبل بلوغه سن الخمسين.
وُلد كواسي كوارتنغ في لندن عام 1975، لوالدين مهاجرين من غانا. وكان والده ألفريد خبيراً اقتصادياً في مكتب منظمة الكومنولث الرئيس في العاصمة البريطانية، في حين عملت والدته شارلوت محامية.
تميّز كوارتنغ بذكائه وتفوقه الدراسي منذ الطفولة. وبعد التحاقه بمدرسة إعدادية خاصة في لندن، فاز بمنحة دراسية أهّلته للانضمام إلى كلية إيتون. وبعد التفوق في إيتون، التحق بكلية «ترينيتي» أغنى كليات جامعة كمبردج وأشهرها، وتخرّج فيها بدرجة البكالوريوس. وفي أعقاب حصوله على درجة ماجستير من جامعة هارفارد إثر فوزه بمنحة «كنيدي»، قرّر العودة إلى كمبردج، حيث حصل على الدكتوراه في تاريخ الاقتصاد عام 2000.
العمل والسياسة
جاءت بداية كوارتنغ العملية مع توظيفه محللاً مالياً في بنك «جي بي مورغان» الأميركي، وكتابته مقالات رأي في صحيفة «الديلي تلغراف» القريبة جداً من فكر حزب المحافظين وقادته.
أما على صعيد ممارسة السياسة، فإنه انطلق في تجربته الانتخابية، كمعظم المرشحين الشباب الجددّ، عبر معركة في دائرة غير مضمونة الغاية، منها تدريبه واختباره في مواجهة الناخبين وعرض البرنامج الحزبي، والتمرس في تحمّل الجدل والتعامل مع الرأي الآخر. وبالفعل، خسر كوارتنغ معركتيه الانتخابيتين المبكرتين، قبل أن يضمن ترشيحه في معقد مضمون يُعد من معاقل المحافظين. إذ خسر في الانتخابات النيابية عام 2005 عن دائرة برنت إيست (في شمال غربي العاصمة)، ثم خسر في انتخابات مجلس لندن في عام 2008، لكن بعد هاتين التجربتين، حظي بترشح حزبه عن دائرة سبيلثورن في مقاطعة ساري - التي تعدّ من أبرز معاقل المحافظين في الطوق الريفي الأخضر المحيط بلندن وضواحيها - عام 2010، وبالفعل، حقق فوزه السهل المأمول.
القناعات اليمينية الصلبة عند النائب الجديد لم تتأخر في الظهور، بمجرّد دخول كوارتنغ، البالغ من العمر 35 سنة آنذاك مجلس العموم، هاجم سياسات حكومة غوردن براون العمالية، وحمّلها مسؤولية اقتصاد بريطانيا الهشّ عقب أزمة 2007 - 2009 المالية. لكن مع هذا لم يتسلّم كوارتنغ سوى منصبين وزاريين بارزين، قبل إعطائه حقيبة الخزانة. فكان أول منصب وزاري تسلّمه هامشياً في وزارة شؤون الانسحاب من الاتحاد الأوروبي (بريكست) بين عامي 2018 و2019. بيد أنه حصل بعد ذلك على ترقية من طرف رئيس الحكومة (آنذاك) بوريس جونسون في يوليو (تموز) 2019، ليصبح وزير دولة للأعمال والطاقة والنمو الاقتصادي النظيف. ولاحقاً، تولّى بعد ذلك حقيبة وزير الدولة للأعمال والطاقة والاستراتيجية الصناعية، بين يناير (كانون الثاني) 2021 وحتى سبتمبر (أيلول) 2022.
وبخلاف عشرات الوزراء والمسؤولين الحكوميين، رفض كوارتنغ الاستقالة من حكومة جونسون التي أسقطتها سلسلة أزمات أخلاقية وسياسية. واختار دعم زميلته المحافظة ليز تراس (وزيرة الخارجية في حينه) إبان السباق الانتخابي لحزب المحافظين الصيف الماضي. وحقاً، كافأت تراس «ولاء» كوارتنغ لها، ومنحته حقيبة الخزانة خلفاً لناظم الزهاوي الذي صمد في هذا المنصب أقل من 3 أشهر.
واليوم، بعد 12 سنة من إلقائه أول كلمة في مجلس العموم، يقف كوراتنغ على الجانب الآخر من الانتقادات. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن كوارتنغ هو رابع وزير خزانة على التوالي يتحدّر من جذور مهاجرة، بعد الزهاوي وريشي سوناك وساجد جاويد.

رهان خطير
«بريطانيا المتحرّرة: دروس عالمية للنمو والازدهار»، كتاب حمل توقيع كوارتنغ وتراس وثلاثة من زملائهما المحافظين، ناقش في عام 2012 أهمية تقليص تدخل الحكومة في الاقتصاد، وخفض الضرائب والمساعدات الاجتماعية، وتعزيز الحوافز المالية، كما انتقد «خمول» الموظّف البريطاني بعد دخوله سوق العمل.
أعطى هذا الكتاب، الذي اعتبره البعض مؤشراً مبكّراً على توجّه يميني متشدد جديد داخل حزب المحافظين، لمحة عن النظريات الاقتصادية التي تؤمن بها رئيسة الحكومة الجديدة ووزير خزانتها. ومع أن الاثنين غيّرا رأييهما حول بعض هذه السياسات، وفي طليعتها دور التدخل الحكومي عقب جائحة «كوفيد - 19» والارتفاع التاريخي في أسعار الطاقة، فإن بعض هذه الأفكار تُرجمت عملياً إلى «سياسات» في «الميزانية الطارئة» التي جرى إعلانها في 23 سبتمبر.
وعلى خلاف جميع التوقعات، أولت الميزانية المصغّرة التي استهلّ بها كوارتنغ مهامه الوزارية اهتماماً خاصّاً بتخفيف العبء الضريبي على أصحاب الدخل المرتفع، من دون توفير حوافز مماثلة للطبقات العاملة والمتوسطة التي تتحمل وزر إحدى أسوأ أزمات غلاء المعيشة منذ 4 عقود.
تعتمد هذه السياسة المالية، التي استعرضها كوارتنغ بثقة عالية، مدعوماً بتشجيع رئيسة الوزراء في مجلس العموم، على نظرية إنعاش النمو عبر تحفيز الاستثمار في رأس الهرم الاقتصادي. وبابتسامة تحدٍّ عريضة وصوت جهوري ينافس هتافات عشرات نواب المعارضة في المجلس، فصّل كوارتنغ ميزانيته الطموحة، كاشفاً عن إلغاء الحدّ الأعلى لمكافآت المصرفيين الذي كان قد وضعه رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون في أعقاب الأزمة المالية، وتخفيف ضريبة الدخل على الشريحة العليا من الرواتب؛ ما قد يكلّف بين مائة ومائتي مليار جنيه إسترليني وفق توقعات. كذلك، أعلن عن مساعدات كبيرة على صعيد فواتير الطاقة في خضم أزمة غلاء المعيشة، ستكلف بدورها عشرات المليارات، فضلاً عن تسهيلات عقارية.
إلا أن «الميزانية المصغّرة» الطارئة، التي كان الهدف منها تعزيز ثقة المستثمرين واجتذاب رؤوس الأموال، جاءت حتى الآن بنتائج عكسية، وتسببت في ذعر بالأسواق، وتراجع كبير في قيمة الجنيه أمام اليورو والدولار.
وبعد ساعات معدودة من خطاب كوارتنغ أمام النواب، سارع البنك المركزي إلى توجيه تحذير من تناقض السياسة النقدية الذي يتّبعها مع السياسة المالية للحكومة، مرجّحاً اللجوء إلى رفع أسعار الفائدة للسيطرة على منحى التضخم في البلاد.
صداقة مصلحة وقناعات
يكمن سرّ صعود كواسي كوارتنغ السريع في وستمنستر بعلاقته مع رئيسة الحكومة الحالية تراس التي تجمعه بها صداقة خاصة. فهما وُلدا في العام نفسه ودخلا المعترك السياسي في «دفعة عام 2010» نائبين عن حزب المحافظين، وطرحا نفسيهما نموذجاً لمستقبل الحزب. وإلى جانب توافقهما حول السياسات الاقتصادية والطريق الأمثل لتحقيق الازدهار، يتشارك السياسيان في إعجابهما الشديد بمارغريت ثاتشر؛ إذ قدّمت تراس نفسها نسخة معاصرة لـ«المرأة الحديدية»، في حين خصّص كوراتنغ كتاباً كاملاً للأشهر الستة الأخيرة من حكمها.
وعلى غرار غالبية، إن لم يكن جلّ، السياسيين الذين شغلوا مناصب في حكومات جونسون المتعاقبة، دافع كل من تراس وكوارتنغ عن «بريكست» وروّجا لأهمية تحرير البلاد من قيود الاتحاد الأوروبي واستعادة مكانة بريطانيا في الساحة الدولية.
واليوم، على الرغم من موجة الانتقادات الداخلية والخارجية لسياسات كوارتنغ، أكّدت تراس ثقتها بوزير الخزانة ونجاح الميزانية المصغّرة في إنعاش الاقتصاد. إلا أن بعض دوائر المحافظين بدأت تتساءل عما إذا كان كوارتنغ يهدد فرص الحزب للفوز بالانتخابات التشريعية المرتقبة بعد سنتين. ولقد بدأ أول ملامح «التمرد» على حكومة تراس في الظهور، بعدما أعلن عدد من النواب البارزين «مقاطعة» مؤتمر حزب المحافظين المرتقب في مدينة برمنغهام، وفي مقدّمتهم وزير الخزانة الأسبق ريشي سوناك ووزير «بريكست» السابق ديفيد ديفيس.

«العمال»... الرابح الأكبر؟
لعّل أبرز المستفيدين من التخبط الاقتصادي الحالي هو حزب العمال المعارض، الذي ارتفعت شعبيته إلى أعلى مستوى منذ عقدين. والحق أن السير كير ستارمر، زعيم المعارضة العمالية، لم يتردّد في استغلال الموقف وتقديم نفسه بديلاً لتراس، مبدياً جهوزيته لإخراج البلاد من الأزمة الاقتصادية. واعتبر ستارمر خلال مؤتمر حزبه بمدينة ليفربول هذا الأسبوع أن تراس وكوارتنغ «فقدا السيطرة على الاقتصاد البريطاني»، في ضوء تسارع التضخم ومخاوف الركود وتراجع العملة.
وفي غياب كوارتنغ عن الإعلام منذ إعلانه الميزانية الجمعة الماضية، علّق ستارمر على التراجع التاريخي للعملة، متسائلاً «لماذا (هذا التراجع)؟ من أجل اقتطاعات ضريبية للأثرياء البالغة نسبتهم واحداً في المائة في مجتمعنا»؟ وخاطب الناخبين مستنهضاً هممهم «لا تنسوا، ولا تسامحوا... السبيل الوحيد لوقف ذلك هو مع حكومة عمالية». ثم تابع «ما رأيناه من الحكومة في الأيام القليلة الماضية لا سابق له»، متعهداً في المقابل الاستثمار في الرعاية الصحية والتعليم ووضع «خطة رخاء أخضر» لمكافحة تغير المناخ.
وإلى جانب الاستياء السياسي والشعبي من التداعيات المباشرة للميزانية، تسبب إعلان كوارتنغ في ردود فعل غير مسبوقة من البنك المركزي وصندوق النقد الدولي ووكالات ائتمانية. إذ اضطر بنك إنجلترا (البنك المركزي) إلى التدخل بشكل طارئ في مواجهة «مخاطر فعلية على الاستقرار المالي البريطاني». وقال في بيان نادر الأربعاء، إن «البنك سيقدم على شراء سندات حكومية ذات آجال استحقاق طويلة» بهدف «إعادة الظروف الطبيعية إلى السوق»، موضحاً أن هذه العملية «ستكون ممولة بالكامل من قبل وزارة الخزانة».
وأضاف البنك في معرض تبرير تدخله، أن «حركة السوق تفاقمت منذ يوم (الثلاثاء) وتؤثر بشكل خاص على الدَّين الطويل الأمد. وإذا ما استمر هذا الخلل في عمل السوق أو تفاقم فهذا سيتسبب بخطر فعلي على الاستقرار المالي لبريطانيا».
وفي بيان آخر طبعته لهجة غير مسبوقة، دعا صندوق النقد الدولي حكومة تراس إلى تصحيح المسار. وجاء في البيان «نظرا للضغوط التضخمية المرتفعة في عدة دول، بما يشمل بريطانيا، لا نوصي بإجراءات موازنة كبرى غير مموَّلة، لأنه من المهم ألا تقطع السياسة المالية الطريق على السياسة النقدية». وتابع بيان الصندوق، أن «الموازنة المرتقبة في 23 نوفمبر (تشرين الثاني) تقدم فرصة للحكومة البريطانية لإعادة تقييم إجراءاتها الضريبية، وخصوصاً تلك التي تستهدف العائدات الأعلى»، والتي من شأنها أن «تزيد التفاوت» الاجتماعي.


مقالات ذات صلة

شرطة لندن تقبض على «مسلّح» أمام قصر باكنغهام

العالم شرطة لندن تقبض على «مسلّح» أمام قصر باكنغهام

شرطة لندن تقبض على «مسلّح» أمام قصر باكنغهام

أعلنت شرطة لندن، الثلاثاء، توقيف رجل «يشتبه بأنه مسلّح» اقترب من سياج قصر باكينغهام وألقى أغراضا يعتقد أنها خراطيش سلاح ناري إلى داخل حديقة القصر.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق شاشة لتوفير خصوصية خلال اللحظة الأهم في تتويج الملك تشارلز

شاشة لتوفير خصوصية خلال اللحظة الأهم في تتويج الملك تشارلز

قال قصر بكنغهام وصناع شاشة جديدة من المقرر استخدامها خلال مراسم تتويج الملك تشارلز الأسبوع المقبل إن الشاشة ستوفر «خصوصية مطلقة» للجزء الأكثر أهمية من المراسم، مما يضمن أن عيون العالم لن ترى الملك وهو يجري مسحه بزيت. فالشاشة ثلاثية الجوانب ستكون ساترا لتشارلز أثناء عملية المسح بالزيت المجلوب من القدس على يديه وصدره ورأسه قبل وقت قصير من تتويجه في كنيسة وستمنستر بلندن في السادس من مايو (أيار) المقبل. وقال قصر بكنغهام إن هذه اللحظة تاريخيا كان ينظر إليها على أنها «لحظة بين الملك والله» مع وجود حاجز لحماية قدسيته.

«الشرق الأوسط» (لندن)
العالم استقالة رئيس هيئة «بي بي سي» على خلفية ترتيب قرض لجونسون

استقالة رئيس هيئة «بي بي سي» على خلفية ترتيب قرض لجونسون

قدّم رئيس هيئة «بي بي سي» ريتشارد شارب، أمس الجمعة، استقالته بعد تحقيق وجد أنه انتهك القواعد لعدم الإفصاح عن دوره في ترتيب قرض لرئيس الوزراء آنذاك بوريس جونسون. وقال شارب، «أشعر أن هذا الأمر قد يصرف التركيز عن العمل الجيد الذي تقدّمه المؤسسة إذا بقيت في المنصب حتى نهاية فترة ولايتي». تأتي استقالة شارب في وقت يتزايد التدقيق السياسي في أوضاع «بي بي سي».

«الشرق الأوسط» (لندن)
الاقتصاد كبير الاقتصاديين في «بنك إنجلترا»: على البريطانيين القبول بصعوباتهم المالية

كبير الاقتصاديين في «بنك إنجلترا»: على البريطانيين القبول بصعوباتهم المالية

أكد كبير الاقتصاديين في «بنك إنجلترا»، اليوم (الثلاثاء)، أنه يتعين على البريطانيين القبول بتراجع قدرتهم الشرائية في مواجهة أزمة تكاليف المعيشة التاريخية من أجل عدم تغذية التضخم. وقال هيو بيل، في «بودكاست»، إنه مع أن التضخم نجم عن الصدمات خارج المملكة المتحدة من وباء «كوفيد19» والحرب في أوكرانيا، فإن «ما يعززه أيضاً جهود يبذلها البريطانيون للحفاظ على مستوى معيشتهم، فيما تزيد الشركات أسعارها ويطالب الموظفون بزيادات في الرواتب». ووفق بيل؛ فإنه «بطريقة ما في المملكة المتحدة، يجب أن يقبل الناس بأن وضعهم ساء، والكف عن محاولة الحفاظ على قدرتهم الشرائية الحقيقية».

«الشرق الأوسط» (لندن)
«التنمر» يطيح نائب رئيس الوزراء البريطاني

«التنمر» يطيح نائب رئيس الوزراء البريطاني

قدّم نائب رئيس الوزراء البريطاني، دومينيك راب، استقالته، أمس، بعدما خلص تحقيق مستقلّ إلى أنّه تنمّر على موظفين حكوميين. وفي نكسة جديدة لرئيس الوزراء ريشي سوناك، خلص تحقيق مستقلّ إلى أنّ راب، الذي يشغل منصب وزير العدل أيضاً، تصرّف بطريقة ترقى إلى المضايقة المعنوية خلال تولّيه مناصب وزارية سابقة. ورغم نفيه المستمر لهذه الاتهامات، كتب راب في رسالة الاستقالة الموجّهة إلى سوناك: «لقد طلبتُ هذا التحقيق، وتعهدتُ الاستقالة إذا ثبتت وقائع التنمّر أياً تكن»، مؤكّداً: «أعتقد أنه من المهم احترام كلمتي». وقبِل سوناك هذه الاستقالة، معرباً في رسالة وجهها إلى وزيره السابق عن «حزنه الشديد»، ومشيداً بسنوات خدمة

«الشرق الأوسط» (لندن)

بدر عبد العاطي... «مهندس العلاقات الأوروبية» يترأس «الخارجية المصرية»

بدر عبد العاطي... «مهندس العلاقات الأوروبية» يترأس «الخارجية المصرية»
TT

بدر عبد العاطي... «مهندس العلاقات الأوروبية» يترأس «الخارجية المصرية»

بدر عبد العاطي... «مهندس العلاقات الأوروبية» يترأس «الخارجية المصرية»

متعهداً بـ«استكمال مسيرة من سبقوه»، تسلّم الدبلوماسي المخضرم الدكتور بدر عبد العاطي مهام عمله وزيراً للخارجيّة والهجرة وشؤون المصريين بالخارج، ضمن حكومة الدكتور مصطفى مدبولي الجديدة التي أدّت اليمين الدستورية في الثالث من يوليو (تموز) الحالي.

عبد العاطي، الذي لقبته الصحافة المحلية بـ«مهندس العلاقات المصرية - الأوروبية»، ووصفه سياسيون بـ«الرجل العصامي المجتهد»، تسلّم زمام الدبلوماسية المصرية في ظرف استثنائي يجعله مضطراً للتعامل مع تحديات عدة؛ بغية «الدفاع عن مصالح بلاده وأمنها القومي». وهو الهدف الذي وضعه الوزير الجديد نصب عينيه، مؤكداً في أول تصريحاته الصحافية بصفته وزيراً للخارجيّة اعتزامه «مواصلة مسيرة تعزيز العلاقات مع شركاء بلاده الإقليميين والدوليين والدفاع عن القضايا العربية والأفريقية في مختلف المحافل»، مقتنعاً بأن «الدبلوماسية المصرية العريقة قادرة على أن ترسو بالبلاد على بر الأمان وسط التحديات الإقليمية والدولية المتفاقمة».

ويقود عبد العاطي دفة السياسة الخارجية المصرية، وسط تعويل كبير على خبراته الدبلوماسية العملية التي امتدّت لنحو 35 سنة، وامتزجت بدراسة أكاديمية للعلوم السياسية، مع توقعات بأن تكون طريقته في الأداء أقرب لمدرسة وزير الخارجية الأسبق rnعمرو موسى.

باحث ودبلوماسي

ولد بدر عبد العاطي في الثامن من فبراير (شباط) عام 1966 في مدينة أسيوط بصعيد مصر، لأسرة متوسطة بسيطة. وكان متفوقاً في كل مراحل دراسته، الأمر الذي أهله للالتحاق بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، التي تعد إحدى «كليات القمة»، نظراً لاشتراطها حصول الطالب على درجات مرتفعة في امتحان الثانوية العامة.

تخرّج عبد العاطي في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية حاصلاً على درجة البكالوريوس في العلوم السياسية عام 1987. وبدأ حياته المهنية باحثاً في «مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية» خلال الفترة بين1987 و1989، والمركز واحد من أهم مراكز الأبحاث السياسية في الشرق الأوسط. وفي تلك الفترة كتب عبد العاطي العديد من الأوراق البحثية في مجال السياسة الدولية. غير أن وظيفة الباحث السياسي لم ترض طموحه المهني، ما دفعه للتقدم لاختبارات التوظيف بوزارة الخارجية في عام 1989، وهي الاختبارات التي نجح فيها بتفوق كعادته، وكان «الأول على دفعته رغم عدم امتلاكه واسطة ذات شأن»، بحسب تأكيد أصدقائه.

تنقلات بين القاهرة وعواصم عالمية

عمل بدر عبد العاطي في وظيفة ملحق بوزارة الخارجية المصرية حتى عام 1991، قبل أن ينتقل إلى العمل سكرتيراً ثالثاً في السفارة المصرية بتل أبيب حتى عام 1995، وهناك كان مسؤولاً عن شؤون إسرائيل الداخلية وعملية السلام في الشرق الأوسط. وعقب انتهاء عمله في تل أبيب عاد عبد العاطي إلى ديوان وزارة الخارجية بالقاهرة، بعدما ترقّى لدرجة سكرتير ثانٍ، وعمل مساعداً لوزير الخارجية لشؤون التعاون الاقتصادي الإقليمي في الشرق الأوسط.

خلال تلك الفترة، حرص عبد العاطي على صقل مهاراته الدبلوماسية العملية بالدراسات الأكاديمية، حيث حصل على درجة الماجستير في العلاقات الدولية من جامعة القاهرة عام 1996، وقد ركز موضوعها على السياسة الخارجية المصرية تجاه فلسطين. وجاء حصوله على الدرجة العلمية الأكاديمية في العام ذاته الذي كان فيه عضواً في الوفد المصري إلى المؤتمر الاقتصادي للشرق الأدنى والأوسط وشمال أفريقيا بالقاهرة.

وبعدها، عام 1997 التحق عبد العاطي بالسفارة المصرية في طوكيو في وظيفة سكرتير ثاني، وكان مسؤولاً في الوقت ذاته عن الشؤون الأفريقية وعملية السلام في الشرق الأوسط وإيران. قبل أن يعود مرة أخرى إلى ديوان وزارة الخارجية عام 2001، سكرتيراً أول، مع احتفاظه بالمسؤولية عن الشؤون الأفريقية وعملية السلام في الشرق الأوسط. وفي تلك الفترة استكمل دراسته الأكاديمية، فحصل على درجة الدكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة القاهرة عام 2003، كما عمل محاضراً في «أكاديمية ناصر العسكرية». وأيضاً، في ذلك العام انتقل إلى الولايات المتحدة الأميركية للعمل مستشاراً سياسياً في سفارة بلاده في واشنطن، وكان مسؤولاً عن ملفي الشؤون الأفريقية والكونغرس. ثم عاد إلى مصر عام 2007، لكن هذه المرة بصفته رئيساً لقسم فلسطين بوزارة الخارجية.

في عام 2008، أصبح عبد العاطي نائباً لرئيس البعثة الدبلوماسية المصرية في بروكسل، وظل هناك حتى عام 2012، حين عاد إلى مصر ليشغل منصب نائب وزير الخارجية المسؤول عن الاتحاد الأوروبي وأوروبا الغربية واتحاد التنسيق الوطني في البحر الأبيض المتوسط. ويرى مراقبون أن أسباب تنقل عبد العاطي في هذه المناصب المتعددة تعود أولاً إلى «جهده وعمله الدؤوب»؛ لأنه رجل «غير روتيني»، يمارس عمله بحب.

الناطق الرسمي

من جهة ثانية، على الرغم من كل الوظائف السابقة، لم يبرز اسم عبد العاطي على الساحة المحلية إلا عقب تعيينه ناطقاً باسم وزارة الخارجية في يونيو (حزيران)، وهي الوظيفة التي ظل فيها حتى عام 2015. وهذه الفترة جعلته يحتك بالأوساط الإعلامية، لا سيما مع «حرصه الدائم على التواصل ليلاً ونهاراً»، وفق كلام صحافيين وإعلاميين عاصروه في تلك الفترة. أيضاً، وبينما تثير طريقته الحماسيّة في الاشتباك مع الأحداث السياسية إعجابَ البعض كونها تكسب العمل الدبلوماسي «زخماً إعلامياً»، فإن البعض الآخر ربما يخشون «حدّته» في التعامل مع بعض القضايا أحياناً. وهم في هذا يستندون إلى حوار تلفزيوني أجراه عبر الهاتف عندما كان ناطقاً باسم الخارجية، أظهر خلاله حدة في الرد، في مسعى للتأكيد على سرعة استجابة وزارته لاتصالات المصريين العالقين في ليبيا.

... وسفيراً لدى ألمانيا

في سبتمبر (أيلول) عام 2015، عيّن عبد العاطي سفيراً لمصر لدى ألمانيا، في فترة كانت تشهد فتوراً في العلاقات بين البلدين عقب «ثورة 30 يونيو» التي أطاحت بحكم «الإخوان» في مصر عام 2013. وفي مايو (أيار) 2016، استدعته وزارة الخارجية الألمانية لـ«إبداء عدم فهمها السبب وراء إغلاق مكتب مؤسسة ألمانية في القاهرة». وطالبت بإعادة فتح مكتب مؤسسة «فريدريش نومان» المرتبطة بحزب الديمقراطيين الأحرار الليبرالي.

وبالفعل، عمل عبد العاطي لمدة أربع سنوات أمضاها في ألمانيا بين عامي 2015 و2019 على استعادة العلاقات بين القاهرة وبرلين. وظهر مدافعاً عن صورة بلاده، وموجّهاً انتقادات علنية لمنظمات حقوقية دولية انتقدت أوضاع حقوق الإنسان في مصر. وبالنسبة لعبد العاطي، فإن العلاقات مع ألمانيا «تقوم على شراكة استراتيجية حقيقية، ووضع مربح يجلب منافع متبادلة، وهي ليست علاقة بين مانح ومتلقٍّ».

وبالفعل، شهدت العلاقات بين البلدين تطوراً ملحوظاً إبان فترة عمل عبد العاطي؛ إذ زار الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ألمانيا أربع مرات. وزارت المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل مصر مرتين. كما وُقعت أول اتفاقية بين القاهرة وبرلين لتعزيز التعاون في مجال مكافحة «الهجرة غير المشروعة».

ويبدو أن تقدير نجاح عبد العاطي في ألمانيا لم يكن مقصوراً على المصريين، ففي أكتوبر (تشرين الأول) 2020 منحته ألمانيا وسام «صليب الاستحقاق الأكبر»؛ لأنه «برهن خلال فترة عمله سفيراً لمصر في ألمانيا، على مدى أهمية مواصلة تعزيز العلاقات بين البلدين»، وفق سفير ألمانيا في القاهرة في ذلك الوقت سيريل نون.

حملة انتقادات

في المقابل، تعرّض عبد العاطي خلال فترة عمله سفيراً لمصر في ألمانيا لانتقادات وحملات «تشويه» تداولها نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي ونقلتها وسائل إعلام محلية، وصلت حد اتهامه بـ«الاختلاس» والادعاء بأنه جرى إبعاده عن منصبه في برلين، الأمر الذي دفع وزارة الخارجية المصرية لإصدار بيان في مايو 2017، أكّدت فيه «نفيها القاطع توجيه أي اتهامات بالاختلاس لسفير مصر في برلين، أو تسجيل إحدى سيارات السفارة باسم السفير المصري»، ليبقى عبد العاطي سفيراً لبلاده لدى ألمانيا سنتين أُخريين بعد هذه الواقعة.

ورداً على تلك الاتهامات، أصدرت الجالية المصرية في ألمانيا بياناً في الشهر ذاته، أعربت خلاله عن «رفضها لحملة التشويه التي يتعرّض لها عبد العاطي»، مؤكدة أنه «أفضل من تولى هذا المنصب الرفيع في توقيت حرج للغاية، ونجح بامتياز في تحسين صورة مصر والمصريين وإعادة العلاقات المصرية - الألمانية إلى سابق عهدها».

الشراكة الأوروبية

ومن ثم، بعد انتهاء عمله في ألمانيا عاد عبد العاطي إلى القاهرة، حيث شغل منصب مساعد الوزير للشؤون الأوروبية. ثم اختير سفيراً لدى بلجيكا ودوقية لوكسمبورغ، ومندوباً لمصر لدى «الاتحاد الأوروبي» وحلف شمال الأطلسي «الناتو»، خلال مارس (آذار) 2022. وحقاً، لم تمنعه علاقاته الطيبة مع أوروبا من توجيه انتقادات للغرب ولميوله من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وهي انتقادات تناقلتها وسائل إعلام غربية أبرزت اتهامه للغرب بالانحياز لإسرائيل، ما يضر بسمعته في الشرق الأوسط.

هذه الانتقادات للسياسات الغربية لم تقف - بدورها - حائلاً دون تحسين علاقات بلاده مع أوروبا، وهي العلاقات التي يعدّها عبد العاطي «مهمة» لاعتبارات عدة؛ ذلك أنه يرى أن «أوروبا تحتاج إلى مصر بوصفها دولة محوَرية وركيزة الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، وبوابة الدخول إلى القارة الأفريقية، إضافة إلى دورها في مكافحة الإرهاب والهجرة غير المشروعة. وفي المقابل، تحتاج مصر لأوروبا بوصفها شريكاً مهماً في التنمية والتحديث، ومصدراً رئيساً للاستثمار والتكنولوجيا والتدريب وأكبر سوق مصدر للسياحة إلى مصر». وفعلاً نجح عبد العاطي في تعزيز علاقات مصر مع الاتحاد الأوروبي، وكان له دور بارز في المباحثات التي أدت في النهاية إلى ترفيع العلاقات بين الجانبين إلى مستوى «الشراكة الاستراتيجية والشاملة»، خلال قمة مصرية - أوروبية استضافتها القاهرة في مارس الماضي.

إنها حقبة جديدة في العمل الدبلوماسي المصري بدأت بتولي بدر عبد العاطي حقيبة الخارجية، وبينما لا يُنتظر أن تشهد الفترة المقبلة تغيّرات في السياسة الخارجية المصرية، المرتبطة بمدرسة دبلوماسية عريقة وثوابت لا تتغير بتغير الأشخاص، يتوقع مراقبون نشاطاً متزايداً في ملفات عدة على رأسها الشراكة مع أوروبا، إضافة إلى الملفات الرئيسة الأخرى على أجندة السياسة المصرية مثل فلسطين وليبيا والسودان و«سد النهضة» الإثيوبي. القاهرة: فتحية الدخاخني