في إحدى أمسيات شتاء 1960، تلقى روبن بلوم، أستاذ التاريخ الضريبي في جامعة «كوربين» الواقعة في أقصى شمال ولاية نيويورك، طلباً غريباً من إدارته... عليه مرافقة أستاذ أجنبي آتٍ من إسرائيل في زيارته الأولى إلى الحرم الجامعي وتقييم عمله البحثي. لماذا هو بالذات؟ يتساءل روبن... هل لأنه الأستاذ اليهودي الوحيد في الجامعة؟ ولماذا يطلب منه؛ وهو أستاذ التاريخ الضريبي، تقييم عمل مؤرخ مختص في محاكم التفتيش الإسبانية... ما العلاقة؟
هكذا تبدأ رواية جوشوا كوهين؛ النجم الساطع والوريث المفترض لأقطاب الأدب اليهودي الأميركي أمثال سول بيلو وفيليب روث وبرنارد مالامود. البعض يطلق عليه لقب «وودي ألان الأدب»، لأسلوبه الساخر المستفز وموهبته الفذة، فقد تمكن رغم سنه (42) من التألق وإضافة بصمة خاصة في سجل هذا الجنس الأدبي المتميز، دون أن يغير من ثوابته، كاللعب بالصور النمطية لليهود واستغلال السخرية والهجاء، والتركيز على التقاليد، والهوية، وشخصية الأب، والعائلة.
عمل مراسلاً سابقاً لصحيفة «جيويش ديلي فورورد» في أوروبا، وناقداً أدبياً سابقاً في مجلة «هاربر»؛ وهو يتحدث العبرية والألمانية. أعماله من مقالات وقصص قصيرة وروايات لقيت استحسان النقاد الأميركيين، حتى إن «واشنطن بوست» قالت عنه إنه «ربما أكبر كتاب أميركا الأحياء». ومن أشهر أعماله رواية «ويتز» و«كتاب الأرقام»؛ خصوصاً «موفينغ كينغز».
في العنوان الفرعي لروايته السادسة «آل نتنياهو» الفائزة بجائزة «بوليتزر» لعام 2022، يمكننا قراءة ما يلي: «آل نتنياهو، أو قصة حلقة صغيرة تماماً، حتى لا تكاد تُذكر في التاريخ، عائلة مشهورة جداً». العائلة المشهورة هي عائلة الرجل الذي شغل منصب رئيس وزراء إسرائيل بين عامي 1996 و1999 وبين 2009 و2021؛ بنيامين نتنياهو، والحلقة الصغيرة جداً هي إقامة عائلته في الولايات المتحدة لفترة كان فيها الوالد أستاذاً في جامعتي كورنيل (نيويورك) ودنفر (كولورادو). وعكس ما هو متوقع؛ فإن الرواية لا تروي قصته ولا تهتم به أساساَ، حيث تخصص له بالكاد فقرتين صغيرتين، حين يطارده الأستاذ بلوم فيقع في السلالم وحين يلعب مع أخيه الرضيع.
الرواية تركز على الوالد «بن صهيون نتنياهو» وتتناول بالنقد شخصيته الحادة والفترة التي عمل فيها باحثاً في التاريخ في الجامعات الأميركية بأعين أستاذ من الدياسبورا الأميركية اليهودية.
إنه مقسّم بين ولائه لأصوله وبين ثقافته الأميركية وتعلقه بالأرض التي ولد وترعرع فيها. حين يُطلب منه تقييم عمل المؤرخ الإسرائيلي، يلاحظ أن هذا الأخير يُفسر التاريخ من وجهة نظر عقائدية غريبة وأن الإشكالية العلمية التي يقدمها ضعيفة؛ لكنه يبقى بين نارين، فإما يكون رأيه سلبياً فيتهم بخيانة أصوله، وإما يكون رأيه إيجابياً فيتهم بالتحيز.
الرواية مستوحاة من الواقع، فبطل الرواية؛ روبن بلوم، كان أستاذ وصديق الكاتب جوشوا كوهين (توفي عام 2019) وكان يشغل منصب أستاذ الأدب الإنجليزي في جامعة يال العريقة، كما كان أيضاً ناقداً أدبياً، واسمه الحقيقي هارولد بلوم.
يتذكر جوشوا كوهين في أحد لقاءاته كيف جاءته فكرة الرواية حيث كان يستمع لحديث هارولد حول صداقاته الأكاديمية مع المفكر الفرنسي ديريدا والكاتب إيفري كورمان ودون ديليلو حين ظهرت صورة بنيامين نتنياهو على شاشة “«سي إن إن»، فصاح على أثره هارولد بلوم: «أعرف هذا الشخص... (أي ناو ثيز غاي)» فسأله جوشوا كوهين: «كيف؟ هل التقيته حين كان سفيراً؟»، فأجابه هذا الأخير: «كلا... أعرفه وهو طفل في العاشرة...»، وحين طلب منه جوشوا كوهين مزيداً من التفاصيل، استرسل هارولد بلوم في سرد قصة استضافته تلك العائلة الإسرائيلية في بداية ستينات القرن الماضي وكيف تحولت الضيافة التي فُرضت عليه من إدارة الجامعة إلى كابوس له ولعائلته.
الرواية تبدأ بوتيرة بطيئة. فقرات طويلة عن تأملات الأستاذ الجامعي الخجول الذي يعيش حياة هادئة في إحدى ضواحي مدينة نيويورك، يبتسم على مضض لنكت زملائه عن بخل اليهود، وأمله الوحيد أن ينال الاعتراف عن عمله الأكاديمي ويتم ترسيمه أستاذاً معتمداً في الجامعة. ثم هناك زوجته إيديث التي تشعر بالملل من عملها في المكتبة، وابنتهما جودي المراهقة المهووسة بإجراء عملية جراحية لتغيير أنفها الذي تعدّه سبب تعاستها.
ثم يسترسل جوشوا كوهين في سرد تفاصيل عن علاقته بوالديه ذوي الأصول البسيطة وعائلة حماه تاجر الأقمشة ميسور الحال، والمناوشات الكلامية بين عائلة إيديث التي تتباهى بأسماء المطاعم الفاخرة والمسارح التي تتردد عليها وعائلة روبن المتدينة التي تقضي معظم وقتها في أعمال خيرية بالكنيس.
أحداث الرواية تتسارع حين يدخل حياة روبن باحث إسرائيلي صاخب، متعجرف ومتهور ويفرض نفسه وعائلته عليه، فيغزو حياته شيئاً فشياً؛ بدءاً بطلب الضيافة لبضعة أيام، وأعقبتها استعارة غرفته، فثيابه وطعامه لابنه المراهق الذي ينتهز الفرصة لينسج علاقات حميمية مع ابنة روبن المراهقة.
الرواية ضمت مواقف كوميدية جديرة بأفلام وودي ألان حين تفتعل «غوديث» الابنة المراهقة حادثة لكسر أنفها أملاً في أن يؤدي ذلك إلى إجراء عملية جراحية تغير مظهره. أو حين يعود الأستاذ روبن من محاضرة ضيفه فيجد الأطفال وقد كسروا الأثاث وقلبوا المنزل رأساً على عقب، فيشرع الكبار في ملاحقة الصغار في مطاردات أشبه بالمسرحيات الهزلية.
الرواية؛ التي وصفها النقاد بأنها «متطورة لغوياً»، ضمت أيضاً تأملات طويلة في تاريخ الحركة الصهيونية، والنزاعات التي قسّمت مختلف توجهاتها السياسية، وعلاقة بن صهيون نتنياهو بفلاديمير غابوتينسكي.
حين سئل جوشوا كوهين لماذا اختار أن يكتب حول ماضي هذا الرجل تحديداً، أجاب بأنه أراد أن يقدم للقارئ مادة للتفكير في الخلفية التاريخية لتصاعد الحركات الشعبوية واليمين المتطرف... لماذا تجد أميركا نفسها مع شخص مثل (الرئيس الأميركي السابق دونالد) ترمب؟ والهوة العميقة التي تفصل الدياسبورا الأميركية ويهود إسرائيل. أيضاَ عن أزمة الهوية لدى يهود أميركا... والسؤال الذي يبقى دون جواب: لمن الولاء... للعقيدة... للوطن... أم للمبادئ؟