يرصد كتاب «شوقي الآخر» الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب للشاعر أحمد عنتر مصطفى جوانب من الحياة الشخصية لأمير الشعراء أحمد شوقي، ويرد عن كثيراً من الاتهامات والشائعات التي طاردته حياً وميتاً. ومنها ما يتعلق برفاهية شوقي، مؤكداً أنه لم يكن أميراً، ولم يكن من مواليد القصور، ولم يعرف فمه ملاعق الذهب في صباه كما يحلو للبعض أن يروج، أو كما هو شائع فيما تذكره بعض الكتابات كحقيقة مسلم بها، تم البناء عليها حتى صارت الصورة ورتوشها أقوى من الخطوط الأصلية التي تكونها!
وبحسب الكتاب، فإن شوقي هو حفيد لضابط من أصل كردي جاء في حملة «محمد علي» قبل أن يصبح والياً على مصر 1805. أما والده فقد كان ميسور الحال، ورث عن أبيه ثروة أتلفها، ما جعل والدته لأمه تكفله لتضمن له حياة غير متقلبة، وكانت هذه الجدة التركية، واسمها «تمراز» مجرد إحدى وصيفات القصر في عهد الخديوي إسماعيل. مضيفاً أن الكل يكاد يعرف الواقعة الشهيرة حين قادته المصادفة طفلاً في صحبة جدته إلى لقاء حاكم البلاد وعمره 3 سنوات، قالت الجدة للوالي: «إنه لا يملك أن ينظر إلى الأرض»، فأخرج الخديوي من جيبه قطعاً ذهبية وألقى بها على سجادة، فخطف بريقها عين الصغير فنظر إلى السجادة وما فوقها، فقهقه الخديوي، وقال لها: عالجيه بهذا الدواء، سوف يتماثل للشفاء!
عاش «شوقي» ودرج في حي «الحنفي» وانتظم في مدارس هذا الحي الشعبي، دخل كُتاب «الشيخ صالح» وهو في الرابعة، ومنه انتقل إلى مدرسة المبتديان، فالتجهيزية، فأين القصور إذن؟ يتساءل المؤلف، مؤكداً أنها سنوات التكوين الأولى، ولها تأثير هائل في وجدان المرء عامة، والمبدع خاصة، إلا أن هناك أقداراً تحوكها السماء تنتظر فارسها، فالخديوي لم يكن يعرف ماهية هذا الصبي الذي ترجل عن ركوبته حين شاهده في شرفة قصر عابدين. أدب شوقي الجم ولباقته وثقافته هي التي جعلته إذن يترجل احتراماً لحاكم البلاد، فما كان من الأخير سوى أن تحرى عنه، وحين لمس فيه النبوغ المبكر فكر في إلحاقه بالقصر بعد إتمام دراسته، ووعده بذلك، بل شرع في إعداده بإلحاقه في بعثته لفرنسا. إذن «شوقي» لم يسع إلى ذلك.
ويذكر «د. محمد صبري» في الجزء الثاني من «الشوقيات المجهولة» أن شاعرنا كان أحياناً يقترض مالاً من أصدقائه، كما حدث له مع الشاعر «خليل مطران» الذي طلب منه أن يقرضه 100 جنيه، فأرسل له «مطران» 200 فما كان من «شوقي» إلا أن كتب يشكره:
«مطران أعطيت المكارم حقها
ورغبت في مائة فجدت بضعفها
فقبلتها وصرفت فكري تارة
نحو الثناء وتارة في صرفها»
وينتقد المؤلف موقف عميد الأدب العربي د. طه حسين من شوقي، مؤكداً أنه موقف يثير الدهشة، فقد كان يتمنى لو أن «شوقي» كلفه بكتابة مقدمة لديوانه، ومع ذلك يعود ويهاجمه! فقد طلب أحمد شوقي من الباحث والمؤرخ الشهير د. زكي مبارك (1892 - 1952) كتابة مقدمة لأعماله الكاملة «الشوقيات»، واعتذر «مبارك» عن عدم كتابة المقدمة لأن المقدمات على حد تعبيره «يُراعى فيها التلطف». ويروي د. زكي بقية الواقعة، قائلاً إنه التقى بعد ذلك بالدكتور طه حسين، وكان جاره في حي «مصر الجديدة» وقص عليه ما دار بينه وبين «شوقي»، فقال طه حسين: «لو طلب شوقي مني ما طلب منك، وأنا خصمه، لاستجبت بلا تردد، فهو في رأيي أعظم شاعر عرفته اللغة العربية بعد المتنبي»، فقال «مبارك»: إنه يراه أعظم من المتنبي، فسأله الدكتور طه؛ ما دام هذا رأيه فما الذي يمنعه أن يكتب المقدمة؟ فأجابه حتى يحتفظ لنفسه بحقه في نقده حين يخطئ، فقال د. طه؛ إن مثل شوقي لا يخطئ أبداً!
ويعيب المؤلف على عباس محمود العقاد تجاوزه في حق شوقي، بلغة يراها غير لائقة، مثل تناوله لبيت شوقي الشهير، الذي قاله في رثاء الزعيم الوطني مصطفى كامل:
«يزجون نعشك في السناء
وفي السنا
فكأنما في نعشك القمران»
يقول العقاد ساخراً من أمير الشعراء: «وزعيمنا الفقيد كان فرداً، والقمران اثنان، فمن كان الثاني في ذلك النعش؟ يا للفكاهة المسفة! يا للعبقرية الساطعة! المشكل في العدد أيها الجبار الجهبذ! واحد أم اثنان في النعش أيها الشاعر العملاق! القمران هنا هما الحياة والزمان... الليل والنهار معاً، وكأنما النعش ضم هذه كلها، وليس هما القمرين اللذين في خيالك المحدود غير العابئ المتجاهل بإيحاءات اللفظ لفضاءات المعنى!».
ويقدم المؤلف تفسيره الخاص لتحامل العقاد: «فالقضية ببساطة أن شوقي كان شاعراً مطبوعاً، والعقاد لا يجاريه في عفوية الطابع وما كان يراه العقاد نظماً لدى شوقي إنما كتبه أمير الشعراء عفو الخاطر والطبع، والذي يجمع عليه جمهرة المحللين أن شوقي منذ صباه إلى كهولته كان يأتيه الشعر عفواً فهو ينطبق عليه الوصف العربي القديم (لا ينحت في صخر إنما يغرف في بحر)، ولم يكن يخلو إلى نفسه إلا ليجمع الشعر الذي ملك عليه أقطاره في سهولة ويسر. وهو ما أقر به الأستاذ العقاد لشوقي بعد رحيله. وموهبة شوقي أوسع وأكبر من شاعرية العقاد، وإن كان العقاد مفكراً أكثر توهجاً من العقاد شاعراً، وليس بالفكر وحده يتألق الشعر، بل ربما كان الفكر الخالص مثلبة إذا استأثرت الفكرة باهتمام الشاعر على حساب ومقومات الشعر الأخرى. إن اليقظة الذهنية لدى الأستاذ العقاد جعلته يولي الفكرة مكانة الصدارة في الإبداع، في حين أن الشعر ابن الطفولة البشرية، وهو فن الفطرة، والطفل المنفتحة عيناه على العالم في دهشة دائبة واثبة مشرئبة، ذلك الطفل الشقي الطروب اللعوب المتأرجح في قلب الشاعر يضفي على قصائده الحيوية والنضارة، وهو ما يفتقر إليه شعر الأستاذ برصانته الخانقة وصرامته وخضوعه للأجرومية اللغوية والبنى الموسيقية المحكمة».
وينتقل المؤلف إلى ملمح آخر، وهو الحياة الخاصة لأمير الشعراء معتمداً على شهادة السكرتير الخاص لشوقي، أحمد سامي أبو العز، فيرصد كيف كان شاعرنا يرعى والده في مرضه حتى وفاته، وكيف كان حريصاً على علاجه حتى إنه أحضر له 7 أطباء يوالونه، منهم طبيب مشهور آنذاك اسمه «كومانوس باشا»، وكيف هيّأ له منزلاً في ضاحية «الزيتون»، طيبة الهواء، ليستشفي بها، وكان شوقي آنذاك يقيم بحي «الحنفي».
حزن الشاعر لموت أبيه حزناً شديداً، وما برح يذكره بكل الخير كلما ذكره وتذكره. وقد كانت وصية الوالد عاملاً مساعداً في شروع شوقي في جمع «الشوقيات الأولى»، ورغم أن هذا الوالد أتلف ثروته في لهوه ونزواته فإن شوقي لم يمس شخصيته بغمز أو لمز من قريب أو بعيد. وكان لشوقي أخت، تنازل لها عن حقه فيما تركه والده، وكان يتردد عليها لزيارتها بمنزلها في حي «شبرا». وكان في مرضها الذي عانته 11 عاماً يدعو لها ويقول: «ما من مرة أتيت هنا إلا خرجت مريضاً شفقة عليها»، وحين أتاه نعيها، وهو في منزله، رفع بصره إلى أعلى، وبقى صامتاً لا يتكلم 10 دقائق، ثم ركب إلى منزلها بشبرا، وهناك على حد رواية السكرتير جلس يبكي ساعة، وعاد إلى مكتبه لم يتكلم، وبدأ مرضه الأخير بعد ذلك بشهرين على الأكثر.
ويشير «أبو العز» إلى علاقة شوقي بالخدم الذين يعملون في بيته، قائلاً: «لم يشعر خادم من خدمه بذلّ الخدمة مطلقاً، بل كان يعطف عليهم جميعاً ويساعدهم ويجاملهم، وكثيراً ما كان يسأل عن آبائهم وأمهاتهم وما هم عليه من الصحة، وما قام خادم بواجب إلا قال له: متشكر. وكثيراً ما كان يوزع عليهم نقوداً بأسباب يسميها هو، وما ترك خادماً يشكو مرضاً إلا عرضه حالاً على الأطباء، وما سافر خادم في إجازة إلا أتحفه بمبلغ من المال».
ومن الملاحظ أن شوقي على كثرة أحاديثه عن أفراد أسرته في سياق الروايات ومختلف المناسبات المتعددة لم يذكر شيئاً عن زوجته التي لا نكاد نعرف عنها شيئاً سوى أن زواجهما كان تحت رعاية الخديوي، وأنها تنحدر من أسرة تركية موسرة، لكن «حسين شوقي» في كتابه المهم «أبي شوقي» يقدم والدته لنا في سطور قلائل. يقول «حسين»: أما والدتي فلم تكن تتدخل في أي منازعات مثل إصرار المربية على ذهابي إلى المدرسة، وكشف تمارضي ﻷنها، أي والدته، بطبيعتها رقيقة الحاشية إلى حد بعيد حتى لقد كان أبي يشبهها بقطة من أنقرة بسبب هذه الرقة، إشارة أيضاً إلى أنها من أصل تركي، وقد اشتهر هذا النوع من القطط بالرقة والترفع، وإذا كان أبي قد وفّق في حياته الأدبية فأكبر الفضل راجع إليها بسبب خلقها هذا، وبسبب طيبتها التي لا حد لها، فهي لم توجه إليه لوماً في حياته مرة، مع أنه كان خليقاً باللوم، فهو كثيراً ما كان يستصحب وقت الظهيرة أصدقاء له عند عودته إلى المنزل، فيتغدى معهم، على حين تتغدى هي وحدها، أما العشاء فكان يتناوله معظم الأحايين في الخارج». ويصف «حسين» أباه بأنه كان أنانياً و«بوهيمياً» حيث لم تكن الأسرة تستطيع أن تتغدى في ساعة معينة بسببه، بل كان لزاماً عليهم أن ينتظروا إلى أن تأتي شهيته، وكثيراً ما كان يطول هذا الانتظار، لأنه كان يصحو من نومه متأخراً، فيفطر بطبيعة الحال متأخراً أيضاً.
«شوقي الآخر»... المسكوت عنه في حياة أمير الشعراء
ربُّ أسرة فوضوي لا مواعيد لنومه أو لتناوله الطعام
«شوقي الآخر»... المسكوت عنه في حياة أمير الشعراء
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة