عمليات «تطهير» تعصف بالإعلام الأميركي لاستعادة ثقة الجمهور

رأسمال أوروبي وافد لاستقطاع حصة والتأثير على السوق المستقطَبة

ماتياس دوبفنر
ماتياس دوبفنر
TT

عمليات «تطهير» تعصف بالإعلام الأميركي لاستعادة ثقة الجمهور

ماتياس دوبفنر
ماتياس دوبفنر

من غير المرجح أن تنتهي في أي وقت قريب، موجة الدعوة إلى «الحياد» التي تعصف بوسائل الإعلام الأميركية والغربية عموماً. هذا إذا كانت الدعوة للحيادية، مرتبطة على الأقل، بالاستحقاقات السياسية الانتخابية، في ظل الخلافات السياسية التي تعصف بالديمقراطيات الغربية في هذه المرحلة.
لكن، حسب بعض المراقبين، وبعيداً عن ادعاء الحياد، الذي يسعى إلى «تصحيح» الخلل في العلاقة مع الجمهور لتحسين ظروف الإنتاج والربحية، يبدو مثيراً أن تلك الدعوات - التي باتت تأخذ شكل «التطهير» - تصدر فقط ضد مؤسسات إعلامية متهَمة بالانحياز لليبراليين واليساريين، ومحسوبة عموماً على الديمقراطيين، في حين تعيش المؤسسات المحسوبة على اليمين والجمهوريين عموماً، حالة «استقرار» مزيفة، رغم «الفوضى» السياسية التي تعصف بالحزب الجمهوري.


«بوليتيكو» أمام فرصة لممارسة تأثيرها

اللافت في تلك الدعوات أنها تتجاوز الولايات المتحدة، في ظل دخول رأسمال أوروبي للاستحواذ على مؤسسات إعلامية أميركية، بهدف ترك بصمته عليها و«الإثبات أن الحياد هو في الواقع الموقف الأكثر نجاحاً». فقد أعلن الملياردير ماتياس دوبفنر، رئيس مجموعة «أكسل شبرينغر» الإعلامية الألمانية، التي استحوذت على صحيفة «بوليتيكو» الإلكترونية الأميركية قبل أشهر مقابل مليار دولار، أن لديه «طموحات عالمية»، لما يسميه «نوعاً أكثر ابتعاداً عن الحزبية في الصحافة»، رغم صعوبة تحديد ما تعنيه هذه العبارة.
دوبفنر دعا في رسالة إلى موظفيه صباح الانتخابات الأميركية عام 2020، للاجتماع لمدة ساعة من أجل الصلاة لفوز دونالد ترمب. ورغم قوله لاحقاً إنها كانت «مزحة» لاستفزاز موظفيه، فإنها تعبر عن صراحته!
حياد ديمقراطي لا جمهوري
من اللافت إذن أن تكون الحيادية مقصورة على وسائل الإعلام «الديمقراطية». لكن المثير أيضاً، أن أكثر دعوات الحياد، تصدر أيضاً من «ديمقراطيين» يشدّدون على الابتعاد عن الاستقطاب السياسي الذي يقسم المجتمع الأميركي، «كوسيلة أفضل للحفاظ على الوحدة».
غير أن هؤلاء في الواقع، وفي ظل عجزهم عن تقديم إجابات عن أزمة الحزب الديمقراطي، ومعالجة المشاكل السياسية والفكرية التي يعانيها، يبتعدون عن معالجة الأسباب الحقيقية لهذا الاستقطاب. لا سيما، في ظل إغلاق السبل أمام ظهور قادة محدثين جدد للحزب، المهيمن عليه من قبل دهاقنة المؤسسة الحزبية الديمقراطية التقليدية وعجزتها، بحسب المنتقدين.
ووفق إحصاءات حديثة، هذا الأمر يترجم غالباً بسيل من الكتابات والمقالات، بعضها يشجع على هذا الحياد، وبعضها الآخر ينتقده، محملاً إياه مسؤولية تصاعد وتيرة التشكيك وانعدام الثقة بالإعلام، في أذهان غالبية الأميركيين اليوم.


أسماء إعلامية كبرى غادرت «سي إن إن»

مراسلون... محلّلون
في السنوات الأخيرة، تحول مراسلو كثير من المحطات الإخبارية والإعلامية الأميركية، بما فيها الإلكترونية والإذاعية والمكتوبة، إلى محللين سياسيين مرغوبين ومطلوبين، من إداراتهم ومن جمهور المتابعين والمشاهدين. إلا أن تراجع حجم المشاهدات، بما في ذلك في ساعات الذروة والبرامج الأكثر استقطاباً، جراء فقدان الثقة، قرع جرس الإنذار لاستعادة هذا الجمهور.
وما يثير الاهتمام أيضاً، أن تلك الدعوات غالباً ما تنتشر وتتوسع في أعقاب أي حدث سياسي، خصوصاً، إذا كان ناجماً عن قرارات خلافية من النوع الذي تتخذه المحكمة الأميركية العليا، على سبيل المثال. وهذا ما يؤدي إلى الخلط بين ردود الفعل الناقمة على تلك القرارات - وحقيقة أن أحكام المحكمة - بمعزل عن طبيعة توازناتها الآيديولوجية، ليست مسؤولة عن تراجع الثقة بوسائل الإعلام وتراجع نسبة المشاهدين، أو عن الاستقطاب السياسي، ما يفترض وجاهة الدعوة إلى العودة للحياد.

إخراج منتقدي ترمب
يزعم كثير من موظفي شبكة «سي إن إن» الحاليين والسابقين أن الهجرة الجماعية المفاجئة وعمليات الطرد من المحطة، التي شملت أسماء إعلامية كبرى فيها، مثل برايان ستيلتر مضيف البرنامج الإخباري الإعلامي الأسبوعي «مصادر موثوقة» (لمدة ثلاثة عقود)، ومراسلها المخضرم في البيت الأبيض جون هاروود (الذي استقال أخيراً)، قد بدأت في أعقاب انضمام كريس ليخت على رأس المحطة.
هؤلاء يتهمون ليخت بأنه بدأ عمله من خلال إخراج – أو إبعاد - الأصوات التي غالباً ما تنتقد دونالد ترمب وحلفاءه. في المقابل، قال ليخت، إنه يريد من «سي إن إن» المساعدة في استعادة الثقة التي فقدها كثير من الناس في وسائل الإعلام. وأضاف أن هدفه تقديم صورة جديدة أكثر «حيادية» آيديولوجياً، تتماشى مع نظرة ديفيد زاسلاف، رئيس المؤسسة الأم «وورنر بروس»، من خلال «التحدث بلا خوف عن الحقيقة للسلطة، وتحدي الوضع الراهن، والتشكيك في التفكير الجماعي وتثقيف المشاهدين والقراء، مع حقائق واضحة وتعليقات ثاقبة، عبر احترام وجهات النظر المختلفة دائماً».
الواقع أن دعوات ليخت «لتنويع» حضور المشاركين في حوارات «سي إن إن»، فتحها أكثر أمام اتجاهات «الرأي الآخر»... يعني ظهور مزيد من السياسيين الجمهوريين واليمينيين.
غير أن حضور «الرأي الآخر» في المحطات ووسائل الإعلام المحافظة واليمينية، كان ويبقى شكلياً. وعلى سبيل المثال، تكاد استضافة معارضي ترمب على محطة «فوكس نيوز»، المحسوبة على الجمهوريين والمحافظين عموماً، تقتصر على «أهل البيت» من معارضي ترمب في الحزب الجمهوري نفسه. وهذا ما حصل الأسبوع الماضي، عندما استضافت وزير العدل السابق وليام بار، لتسمح له بانتقاد رئيسه السابق في قضية الملفات السرية التي صادرها محققو الـ«إف بي آي» من منزل ترمب في مارالاغو قبل نحو شهر.

«بوليتيكو» تتجه يميناً
ومع قدوم الوافد الألماني الأوروبي الجديد ماتياس دوبفنر إلى مجتمع المليارديرات الإعلاميين، وإعلان «قلقه» من أن الصحافة الأميركية أصبحت مستقطبة للغاية، وتنجرف نحو اليسار، مثل «نيويورك تايمز»، وتقع وسائل الإعلام المحافظة تحت تأثير «الحقائق البديلة» الترمبية، قال دوبفنر إن صحيفة «بوليتيكو» الإلكترونية تعد «فرصة عظيمة» لممارسة تأثيرها واقتطاع حصة أكبر في السوق الأميركية، وهذا بينما يُجمع الخبراء على أن وسائل الإعلام ككل تتجه أكثر فأكثر نحو الرقمنة. وخلال مقابلة صحافية، قال دوبفنر أخيراً: «نريد أن نثبت أن كونك محايداً هو في الواقع الموقف الأكثر نجاحاً... إنه الرهان الأكبر والأكثر تناقضاً».
لكن كيف يأمل دوبفنر في تعريف الصحافة «غير الحزبية» في ظل الاستقطاب السياسي الحاد الذي يلقي بثقله على وسائل الإعلام الأميركية؟ ثم إنه شخصياً كان قد صرح بأن ترمب اتخذ الخطوات الصحيحة بشأن خمس قضايا من أصل ما اعتبره أهم ست قضايا خلال نصف القرن الماضي، وهي: «الدفاع عن الديمقراطيات الحرة» في مواجهة روسيا والصين، و«دفع حلفاء الناتو إلى زيادة مساهماتهم»، و«الإصلاحات الضريبية»، و«جهود السلام في الشرق الأوسط»، فضلاً عن «تحدي الاحتكارات التكنولوجية»، رغم إقراره بفشلها ضمناً، فيما فشل في «التصدي لتغير المناخ». وختم قائلاً: «لم تفعل أي إدارة أميركية بما فعله ترمب خلال السنوات الخمسين الماضية».
وبينما يحاول دوبفنر الانتقال إلى السوق الأميركية وما وراءها، يقول إنه «يأمل أيضاً في الوصول عبر تلك الخطوط الفاصلة، التي تتشكل داخل ديمقراطياتنا».
في المقابل، ينظر اليساريون والوسطيون الليبراليون بعين الريبة إلى دوبفنر، ذي الصلات بصحيفة «بيلد» الألمانية اليمينية المشاكسة، وهي الصحيفة الأكثر مبيعاً في أوروبا، والمطبوعة التي تعد الرافعة المالية لمجموعة «أكسل شبرينغر».
أخيراً، بانتظار ما ستؤول إليه عمليات «التطهير» و«الحياد»، الجارية في «سي إن إن» وغيرها من المؤسسات الإعلامية الأميركية، يتساءل البعض عن كيف يمكن معرفة أين، بالضبط، سترسم الخطوط الجديدة، في حين تتجه المحطات والمواقع لتغطية الانتخابات النصفية والرئاسية المقبلة، التي يمكن أن يكون الرئيس السابق ترمب مرشحاً فيها، وما الذي سيتبقى من هذا الحياد؟


مقالات ذات صلة

«إيه بي سي نيوز» تدفع 15 مليون دولار لمكتبة ترمب الرئاسية لتسوية دعوى تشهير

الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (إ.ب.أ)

«إيه بي سي نيوز» تدفع 15 مليون دولار لمكتبة ترمب الرئاسية لتسوية دعوى تشهير

وافقت شبكة «إيه بي سي نيوز» على دفع 15 مليون دولار لصالح مكتبة دونالد ترمب الرئاسية، لتسوية دعوى قضائية تتعلق بتصريح غير دقيق من المذيع جورج ستيفانوبولوس.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
يوميات الشرق الفيلم يتناول مخاطرة صحافيين بحياتهم لتغطية «سياسات المخدّرات» في المكسيك (الشرق الأوسط)

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

فاز الفيلم الوثائقي «حالة من الصمت» للمخرج سانتياغو مازا بالنسخة الثانية من جائزة «الشرق الوثائقية».

«الشرق الأوسط» (جدة)
رياضة عربية المهندس خالد عبد العزيز رئيس المجلس الأعلى للإعلام في مصر (صفحة المجلس على «فيسبوك»)

مصر: قرارات جديدة لمواجهة «فوضى الإعلام الرياضي»

أصدر المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في مصر، برئاسة المهندس خالد عبد العزيز مجموعة قرارات، اعتماداً لتوصيات لجنة ضبط أداء الإعلام الرياضي.

محمد الكفراوي (القاهرة)
أوروبا مراسلات يتحدثن أمام الكاميرات خلال تغطية صحافية في البرازيل (رويترز)

ثلثهم على أيدي الجيش الإسرائيلي... مقتل 54 صحافياً في عام 2024

قُتل 54 صحافياً حول العالم أثناء قيامهم بعملهم أو بسبب مهنتهم في عام 2024، ثلثهم على أيدي القوات الإسرائيلية، وفق ما أظهر تقرير سنوي.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق الصحافي سامح اللبودي والزميلة بيسان الشيخ من «الشرق الأوسط»

«الشرق الأوسط» تفوز ببرونزية «أريج» للصحافة الاستقصائية

فازت «الشرق الأوسط» بالجائزة البرونزية للصحافة الاستقصائية العربية التي تمنحها مؤسسة «أريج»، عن تحقيق: قصة الإبحار الأخير لـ«مركب ملح» سيئ السمعة.

«الشرق الأوسط» (لندن)

السعودية تؤكد ضرورة تكاتف الإعلام العربي لدعم فلسطين

الدوسري مترئساً اجتماع المكتب التنفيذي لمجلس وزراء الإعلام العرب (واس)
الدوسري مترئساً اجتماع المكتب التنفيذي لمجلس وزراء الإعلام العرب (واس)
TT

السعودية تؤكد ضرورة تكاتف الإعلام العربي لدعم فلسطين

الدوسري مترئساً اجتماع المكتب التنفيذي لمجلس وزراء الإعلام العرب (واس)
الدوسري مترئساً اجتماع المكتب التنفيذي لمجلس وزراء الإعلام العرب (واس)

أكّد سلمان الدوسري وزير الإعلام السعودي، الاثنين، أهمية توظيف العمل الإعلامي العربي لدعم قضية فلسطين، والتكاتف لإبراز مخرجات «القمة العربية والإسلامية غير العادية» التي استضافتها الرياض مؤخراً.

وشددت القمة في 11 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، على مركزية القضية الفلسطينية، والدعم الراسخ للشعب لنيل حقوقه المشروعة، وإيجاد حل عادل وشامل مبني على قرارات الشرعية الدولية.

وقال الدوسري لدى ترؤسه الدورة العادية الـ20 للمكتب التنفيذي لمجلس وزراء الإعلام العرب في أبوظبي، أن الاجتماع يناقش 12 بنداً ضمن الجهود الرامية لتطوير العمل المشترك، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، بمشاركة رؤساء الوفود والمؤسسات والاتحادات الممارسة لمهام إعلامية ذات صفة مراقب.

الدوسري أكد أهمية توظيف العمل الإعلامي لدعم القضية الفلسطينية (واس)

وأضاف أن الاجتماعات ناقشت سبل الارتقاء بالمحتوى الإعلامي، وأهم القضايا المتعلقة بدور الإعلام في التصدي لظاهرة الإرهاب، وجهود الجامعة العربية في متابعة خطة التحرك الإعلامي بالخارج، فضلاً عن الخريطة الإعلامية العربية للتنمية المستدامة 2030.

وتطرق الدوسري إلى استضافة السعودية مؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة للتصحر «كوب 16»، وقمة المياه الواحدة، وضرورة إبراز مخرجاتهما في الإعلام العربي، مؤكداً أهمية الخطة الموحدة للتفاعل الإعلامي مع قضايا البيئة.

وأشار إلى أهمية توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي في الإعلام العربي، واستثمار دورها في تعزيز المحتوى وتحليل سلوك الجمهور، داعياً للاستفادة من خبرات «القمة العالمية للذكاء الاصطناعي» في الرياض؛ لتطوير الأداء.