أوغست كونت... عاشق على حافة الجنون

نشر رسائل كارولين ماسان إلى الفيلسوف الفرنسي بعد 150 سنة على وفاتها

أوغست كونت  -   كارولين ماسان
أوغست كونت - كارولين ماسان
TT

أوغست كونت... عاشق على حافة الجنون

أوغست كونت  -   كارولين ماسان
أوغست كونت - كارولين ماسان

لم يخطر على بالي إطلاقاً أن حياة الفيلسوف أوغست كونت كانت هائجة مائجة إلى مثل هذا الحد. فهي تشبه حياة الشعراء المنحوسين، من أمثال بودلير أو رامبو أو فيرلين، أكثر مما تشبه حياة الفلاسفة الرزينين الرصينين من أمثال ديكارت أو كانط أو هيغل. نقول ذلك، وبخاصة إذا كان الأمر يتعلق بمؤسس الفلسفة الوضعية في فرنسا، أي الفلسفة العقلانية المحضة التي اشتهرت بالدقة العلمية والصرامة الفكرية. إنها أبعد ما تكون عن التحليق في سماوات المثالية الوردية، أو الخيالات المجنَّحة والشطحات الشاعرية أو الصوفية. إنها فلسفة العصر الصناعي والتكنولوجي الذي كان في طور انبثاقه أيام أوغست كونت، إبان القرن التاسع عشر.
وترجع أهمية هذا الفيلسوف بالضبط إلى أنه عرف كيف يستبق هذا العصر الجديد، وينظِّر له حتى قبل أن يولد. هذا على المستوى العام. أما على المستوى الشخصي فقد كانت حياته مناقضة تماماً لفلسفته. لم تكن حياته عقلانية، علمية، محسوبة بدقة على غرار فلسفته، وإنما كانت متقلبة، مليئة بالخضَّات والهزات السيكولوجية المرعبة. كل شيء يحصل كما لو أن فلسفته كانت تعويضاً عن حياته. بمعنى آخر: لقد خسر الحياة وربح الفلسفة. من الصعب أن تربح على كلتا الجبهتين، وعبثاً تحاول. ينبغي أن تضحِّي بإحداهن من أجل الأخرى. وقد كان المبدعون من العباقرة يضحون عادة بكل شيء من أجل النجاح في تأدية رسالتهم. كانوا يعرفون أنه ينبغي عليهم أن يضحوا بحياتهم الشخصية من أجل شيء آخر يعلو عليهم ويتجاوزهم كلياً. العبقري «يحبل» بشيء واحد فقط، هو رسالته أو عبقريته. وما عدا ذلك فتفاصيل ثانوية لا يعتدُّ بها.
ولكن ليس من المؤكد أن العبقري يستطيع التوصل إلى هذه الحقيقة منذ البداية، وإنما بعد المرور بتجارب رهيبة وخطرة أحياناً، تجارب يدفع ثمنها غالياً وقد تودي به. فكثيراً ما يضيع وقته من أجل التفاصيل الثانوية، قبل أن يكتشف في لحظة ما أنه ضل الطريق، وأنه قد خُلق لشيء آخر غير الحب أو الزواج أو النجاح في الحياة أو الوصول إلى المناصب أو تجميع الثروات والأموال... في لحظة ما يشعر العبقري بأنه مدعو لتحقيق شيء واحد فقط: أن يشطب على حياته الشخصية إذا لزم الأمر. بمعنى آخر: عليه أن يفشل لكي ينجح!
لو أن همنغواي نجح في حبه الأول مع الممرضة الرائعة أنييس فون كوروفسكي، هل كان سيكتب «الشمس تشرق أيضاً»، أو «وداعاً أيها السلاح»؟ الأغلب لا. كان ينبغي أن يفشل في أول وأعظم حب في حياته، أن ينكسر شيءٌ ما في داخله، ألا يلتئم جرحه إلا بعد سنوات طويلة؛ هذا إذا التأم، لكي يستطيع أن يكتب ما كتب، ويبدع ما أبدع. وهل كان غيُّوم أبولينير سيكتب إحدى أجمل قصائد الشعر الفرنسي:
«تحت جسر ميرابو
يجري نهر السين
وحبُّنا...».
لولا أن حبيبته ماري لورانسان هجرته فجأة وتخلت عنه؟
لكن لنعد إلى أوغست كونت. فهذا الرجل الذي سيطرت فلسفته الوضعية العقلانية على فرنسا وعموم أوروبا طيلة القرن التاسع عشر، وحتى منتصف هذا القرن، لم يكن عقلانياً على الإطلاق! صدقوا أو لا تصدقوا، أنتم أحرار. علاوة على ذلك فقد عانى الأمرَّين في حياته الزوجية. والواقع أن قصة زواجه غريبة الشكل والمضمون. فقد تزوج من «مومس» محترفة معروفة من قبل الأوساط الباريسية كلها. والدليل على ذلك أنه هو شخصياً كان أحد زبائنها قبل بضعة أشهر فقط! ولم يكن يعرف أنه سيقع عليها يوماً ما في أحد المكاتب المحترمة، وأنه سيسقط في حبها غصباً عنه. هنا يكمن الخطأ الكبير للبروفسور أوغست كونت. فقد أحبها وأشفق عليها، وأراد أن ينقذها من مواصلة هذه «الصناعة» الرديئة: أقدم مهنة في العالم. وهكذا نقلها مباشرة من الرصيف إلى مكتب عمدة البلدية لكي يتزوجها، ويوقع اسمه إلى جانب اسمها! من يصدق ذلك؟ هنا تكمن عظمته ونزعته الإنسانية الحقيقية. ولكن المشكلة هي أن السيدة كارولين لم تستطع أن تتخلى عن عادتها، ولم «تعقل» بعد الزواج كما كان يتوقع أستاذنا الكبير. باختصار شديد: «عادت حليمة إلى عادتها القديمة».
فكلما نقصها فستان جميل أو قبعة زرقاء نزلت إلى الرصيف، وحلَّت المشكلة في أقل من عشر دقائق! وأحس أوغست كونت بالخطر، وخاف من «الشرشحة» والفضيحة. وراح يبكي ويتوسل ويتهدد ويتوعد، لكي تكفّ كارولين عن فعلتها تلك. وهكذا يتصالحان لمدة يومين أو ثلاثة، قبل أن تعود إلى سابق عهدها. بل وكانت تختفي أحياناً أسبوعاً أو أسبوعين متتاليين، ثم تتصل به لكي تعرض عليه إذا كان يقبل باستضافة تاجر غني في البيت... وهكذا يتشكل الزواج من ثلاثة أشخاص بدلاً من شخصين فقط! كان من المتوقع في مثل هذه الحالة أن يتراجع الفيلسوف عن حلمه بإعادتها إلى جادة الصواب، ويطالب بالطلاق فوراً. ولكنه على العكس، راح يتعلق بها أكثر فأكثر. كان يركض في شوارع باريس كالمجنون باحثاً عنها في كل مكان، سائلاً المارة، كلما اختفت. فالحب أعمى، الحب لا يرحم. وقد وصل الأمر بأحد المفجوعين إلى حد القول: أرجوكم مارسوا كل الموبقات، ارتكبوا كل المحرمات، تاجروا حتى بالمخدرات، ولكن إياكم ثم إياكم أن تعشقوا!
كان فيلسوفنا يطرق على كل الأبواب سائلاً عنها، وهو في حالة يرثى لها من الهلع والولع. ثم يعود إلى بيته خاسئاً حسيراً، ويمضي الليل كله في تدبيج الرسائل غير المفهومة إلى أصدقائه ومعارفه، راجياً منهم مساعدته في البحث عن كارولين. أين هي كارولين؟ رجاءً ابحثوا لي عن كارولين، إلخ. وفجأة تظهر كارولين في صبيحة أحد الأيام أمام البيت، وكأن شيئا لم يكن!
ولكن بعد أن تكررت هذه القصص مرات عديدة، راح الفيلسوف يفقد أعصابه شيئاً فشيئاً. حقاً لقد سحقته كارولين وأذلَّته أمام الناس. وراح يهذي ويتخيل أنه يشبه عيسى ابن مريم، وأنه يستطيع أن يمشي على الماء دون أن يغرق. واصطحب مرة كارولين معه في إحدى النزهات، ودخل البحيرة وغطس فيها ودعاها إلى أن تتبعه. ولكنها فضلت أن تنادي الشرطة لكي ينقذوه. فهذا أفضل حل. وهذا ما كان. وانقطعت دروس البروفسور كونت بعد أن وصلت به الأمور إلى هذا الحد من «الشرشحة» والتدهور وفقدان التوازن. نقول ذلك على الرغم من أن «دروسه في الفلسفة الوضعية» كانت تستقطب شخصيات كبيرة، من أمثال الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت ميل، أو الأب لامنيس، أحد كبار رجالات الكنيسة الفرنسية في عصره، أو الفيلسوف والعالم اللغوي إميل ليتري، صاحب القاموس الشهير الذي يحمل الاسم نفسه، إلخ.
وانتشرت الإشاعة الرهيبة: لقد أصيب الفيلسوف الكبير بلوثة في عقله! فأحالوه إلى المصحات العقلية، وأشرف عليه أحد كبار الأطباء النفسانيين في القرن التاسع عشر: إيسكيرول. ونصحه بالاستحمام بالماء البارد عدة مرات في اليوم، بدلاً من الغطس في مياه البحيرة! ولكن عوضاً عن أن ينسى كارولين ومغامراتها التي لا تنتهي، راح زعيم الفلسفة الوضعية –أي العلمية والمادية الإلحادية- يطالب بالزواج منها شرعاً أمام الكنيسة الكاثوليكية! وجن جنون تلامذته وأتباعه: كيف يمكن لزعيمهم أن يتراجع عن مبادئه إلى مثل هذا الحد؟ كيف يمكن أن يخون قضية الإلحاد التي لا تعترف بالأوهام الميتافيزيقية الماورائية؟ ومعلوم أن الملاحدة يعتبرون الأديان كلها عبارة عن مجرد خيالات وأوهام ليس إلا. كيف يمكن أن يستسلم للكنيسة الرجعية ورجال الدين؟ لقد انتصرت كارولين بجسدها الفتان وعينيها اللتين تذبحان ذبحاً على أحدث النظريات الفلسفية! وتدخل الأب الليبرالي الشهير لامنيس لكي تقبل الكنيسة بهذا الزواج العسير على الهضم. فأرسل مطران باريس أحد كهنته لكي يباركه غصباً عنه. وعندما وصل الفيلسوف إلى الكنيسة ومثل أمام الكاهن مع كارولين، طلبوا منه التوقيع على سجل الزيجات، فوقع باسم «بروتوس-بونابرت»! وأطلق ضحكة مجلجلة مخيفة، أشعرت الكاهن المسكين بالهلع الشديد... باختصار شديد: لقد جن الفيلسوف!
ولكن هل أصبحت كارولين «عاقلة» بعد هذا الزواج الكنسي المهيب والمحترم إلى أقصى الحدود؟ في الواقع أنها أوهمته بذلك لفترة من الزمن. فقد لانت كثيراً وراحت تراعي الأستاذ الهش نفسياً (أو المريض) وتهتم به حتى استعاد توازنه أو كاد. وما إن شعرت بأنه قد هدأ قليلاً حتى راح شيطان المغامرة يعربد في جسدها من جديد. فاختفت فجأة في إحدى «الغزوات» الليلية المحمومة. وعندئذ فضل الفيلسوف هذه المرة الانتحار في ماء النهر على ماء البحيرة. فذهب إلى أقرب جسر على نهر السين ورمى بنفسه فيه. وهو الجسر القريب من معهد العالم العربي حالياً. ولكن يبدو أن الموت لا يريده هذه المرة أيضاً. فقد شاءت الصدفة أن يمر في تلك اللحظة بالضبط أحد ضباط الحرس الجمهوري فغطس عليه وانتشله، واقتاده إلى مقر البوليس، وبعد أن جفّفوا ثيابه وهدَّأوا من روعه اعترف بأنه مذنب، وأنه انصاع لحالة من الضعف المعنوي والنفسي.
وشعر أوغست كونت عندئذ لأول مرة بحقيقته. وأدرك مدى هشاشته أو هشاشة الوجود ذاته. وعرف أن أعماله العلمية أو رسالته الفلسفية بالأحرى هي المبرر الوحيد لوجوده على هذه الأرض. وأدرك أنها هي وحدها القادرة على إنقاذه من حمأة الجنون. وبالتالي فما عليه إلا أن «يشطب» كلياً على كارولين، ويكرس نفسه لتلك المهمة التي خُلق لأجلها في الحياة. وهذا ما كان. فبعد ذلك اليوم لم يسمعه أحد يتحدث عن كارولين أو يذكر اسمها مجرد ذكر. لقد تجاوز الفيلسوف محنته أخيراً، واستطاع أن يبدع ما أبدعه، ويخلد اسمه على صفحة التاريخ.
بقيت كلمة أخيرة عن الست كارولين قبل أن نختتم هذا المقال. يقال بأنها تابت توبة نصوحاً في نهاية المطاف؛ بل وأصبحت تحضر دروس الفيلسوف مع بعض الشخصيات الفرنسية والأجنبية. وكانت تجلس في الصفوف الخلفية وتصغي بكل خشوع لأكبر فيلسوف فرنسي في القرن التاسع عشر، والذي كان زوجها حتى أمد قريب. ولكن للأسف رفض مصالحتها رفضاً باتاً، وأهانها أمام الجميع إلى درجة أن تلميذه إميل ليتري انزعج من موقفه، وترجاه أن يقبل اعتذارها. ولكنه كان قد طوى الصفحة نهائياً بعد أن عذبته كثيراً، ولم تعرف من هو إلا بعد فوات الأوان. يضاف إلى ذلك أنه كان قد وقع في حب عذري صوفي لآنسة جديدة تدعى كلوتيلد دو فو. وهذا الحب الأفلاطوني طهر روحه وصفاها، وجعله يتجاوز كلياً الحب الحسي أو الجسدي.
وقد نشرت مؤخراً في باريس رسائل كارولين له بعد مائة وخمسين سنة على وفاتها! كنا نعرف رسائله الملتهبة إليها منذ زمن طويل، ولكن لم يكن أحد قد اطلع حتى الآن على رسائلها هي. وبعد أن نقرأها نكتشف أنها كانت إنسانة حساسة وتستحق الاحترام أكثر مما نتصور. حقاً لقد شوهت الإشاعات سمعة كارولين ماسان أكثر مما ينبغي. صحيح أنها لم تكن ملاكاً، ولكن من يعرف ظروفها أو من يقدر تلك الظروف؟


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

حفر صينية عملاقة تحبس الزمن في باطنها... وتجذب السياح

اكتشاف عالم الغابات القديمة داخل حفرة على عمق 630 قدماً في الصين (يونيلاد نيوز)
اكتشاف عالم الغابات القديمة داخل حفرة على عمق 630 قدماً في الصين (يونيلاد نيوز)
TT

حفر صينية عملاقة تحبس الزمن في باطنها... وتجذب السياح

اكتشاف عالم الغابات القديمة داخل حفرة على عمق 630 قدماً في الصين (يونيلاد نيوز)
اكتشاف عالم الغابات القديمة داخل حفرة على عمق 630 قدماً في الصين (يونيلاد نيوز)

على عمق يتخطى 100 متر تحت الأرض (328 قدماً) ثمة عالم مفقود من الغابات القديمة والنباتات والحيوانات. كل ما يمكنك رؤيته هناك قمم الأشجار المورقة، وكل ما تسمعه صدى أزيز حشرة الزيز وأصوات الطيور، الذي يتردد على جوانب الجروف، حسب «بي بي سي» البريطانية .على مدى آلاف السنين، ظل ما يعرف بـ«الحفرة السماوية» أو «تيانكنغ»، كما تُسمى باللغة المندرينية، غير مكتشفة، مع خوف الناس من الشياطين والأشباح، التي تختبئ في الضباب المتصاعد من أعماقها. إلا أن طائرات الدرون وبعض الشجعان، الذين هبطوا إلى أماكن لم تطأها قدم بشر منذ أن كانت الديناصورات تجوب الأرض، كشفت عن كنوز جديدة، وحوّلت الحفر الصينية إلى معالم سياحية. ويُعتقد أن ثلثي الحفر، التي يزيد عددها عن 300 في العالم، توجد في الصين، منتشرة في غرب البلاد، منها 30 حفرة، وتضم مقاطعة «قوانغشي» في الجنوب أكبر عدد من هذه الحفر، مقارنة بأي مكان آخر. وتمثل أكبر وأحدث اكتشاف قبل عامين في غابة قديمة تحتوي على أشجار يصل ارتفاعها إلى 40 متراً (130 قدماً). تحبس هذه الحفر الزمن في باطنها، ما يحفظ النظم البيئية الفريدة والدقيقة لقرون. ومع ذلك، بدأ اكتشافها يجذب السياح والمطورين، ما أثار المخاوف من أن هذه الاكتشافات المدهشة والنادرة قد تضيع إلى الأبد.

بوجه عام، تعد هذه الحفر الأرضية نادرة، لكن الصين، خاصة «قوانغشي»، تضم كثيراً منها بفضل وفرة الصخور الجيرية. جدير بالذكر هنا أنه عندما يذيب نهر تحت الأرض الصخور الجيرية المحيطة ببطء، تتكون كهوف تتمدد صعوداً نحو الأرض. وفي النهاية، تنهار الأرض تاركة حفرة واسعة، ويجب أن يكون عمقها وعرضها لا يقل عن 100 متر حتى تُعدّ حفرة أرضية. وبعض الحفر، مثل تلك التي جرى اكتشافها في «قوانغشي» عام 2022، أكبر من ذلك، مع امتدادها لمسافة 300 متر في الأرض، وعرضها 150 متراً.

من وجهة نظر العلماء، تمثل هذه الحفر العميقة رحلة عبر الزمن، إلى مكان يمكنهم فيه دراسة الحيوانات والنباتات، التي كانوا يعتقدون أنها انقرضت. كما اكتشفوا أنواعاً لم يروا أو يعرفوا عنها من قبل، بما في ذلك أنواع من أزهار الأوركيد البرية، وأسماك الكهوف البيضاء الشبحية، وأنواع من العناكب والرخويات. وداخل محميات من الجروف الشاهقة، والجبال الوعرة، والكهوف الجيرية، ازدهرت هذه النباتات والحيوانات في أعماق الأرض.