كيف تغيرت أمور إلى غير رجعة... وبشكل إيجابي أحياناً؟

غيرت جائحة «كورونا» أموراً كثيرة في المجتمعات الإنسانية، خلال العامين الماضيين، بما في ذلك الطريقة التي نتواصل بها ونعتني بالآخرين ونعلم أطفالنا ونعمل وغير ذلك. لكن بعض هذه التغييرات قد تكون وقتية، مثل ارتداء الكمامات في الأماكن العامة، والتباعد الاجتماعي، وغير ذلك، وبعضها قد يبقى معنا بشكل دائم. وهكذا، ما إن تخفّ حدة الأزمة الصحية العالمية، ما السلوكيات والتغييرات في نمط الحياة التي أصبحت هي القاعدة خلال الوباء، والتي ستبقى معنا، وأيها ستنتهي مع انتهاء الجائحة؟
ربما كان التغيير الذي طرأ في مجال العمل هو الأكثر وضوحاً خلال الجائحة؛ فقد اضطر الكثيرون إلى تغيير عملهم، أو تغيير طريقة أدائهم لعملهم. أعاد «كوفيد - 19» تعريف طبيعة العمل لملايين الناس والشركات؛ فقد خرج جنّي العمل من المنزل من القمقم في بعض أماكن العمل، واختفى الروتين المألوف، مثل التنقل اليومي والاجتماعات وجهاً لوجه، ويبدو أن طريقة العمل القديمة لن تعود بشكل كامل، كما كانت في السابق، ولا شك أن الشركات التي تتطلب حضوراً شخصياً بنسبة 100 في المائة، كشرط للتوظيف، ستجد صعوبة في الحصول على موظفين والاحتفاظ بالكفاءات الممتازة.
وقد أجرت «مؤسّسة غالوب ‏الأميركية للتحليلات والاستشارات» مؤخراً استطلاعاً أظهرت نتائجه أن ثلثي العمال المكتبيين (67 في المائة) يعملون من المنزل، إما بشكل كامل (41 في المائة) أو بشكل جزئي (26 في المائة). وعبر 91 في المائة من الموظفين المشاركين في الاستطلاع عن رغبتهم في مواصلة العمل عن بُعد، لأنه يلغي متاعب وتكاليف التنقل اليومي من وإلى العمل، ويوفر المرونة في الموازنة بين التزامات العمل والالتزامات الشخصية. وقال 30 في المائة منهم إنهم سيبحثون عن وظيفة أخرى، إذا ألغت شركتهم العمل عن بُعد.
من ناحية ثانية، بيّن الاستطلاع أن تفضيل العمل من المنزل ليس حِكراً على الموظفين، بل يخطط العديد من أصحاب العمل لمواصلة السماح بالعمل عن بُعد في المستقبل، مستشهدين بانخفاض تكاليف مباني المكاتب والموظفين، بسبب الاكتفاء بالاجتماعات الافتراضية ومحادثات الفيديو، بدل الحاجة إلى الانتقال إلى مكان العمل والتخطيط لعقد المؤتمرات الكبيرة على الأرض، والنشاطات الأخرى التي كانت شائعة في السابق.
كما غيرت الجائحة نظرة الناس إلى الترفيه المنزلي؛ فقد أصبح الكثيرون يميلون للبقاء في المنزل، بعد أن حرمهم الوباء من الخروج وحضور الحفلات الموسيقية وارتياد دور السينما ومراكز الترفيه والمراكز التجارية وحتى دور العبادة. هذا التغير انعكس بالفائدة على «نتفليكس» وغيرها من خدمات البث عبر الإنترنت، وكذلك الأمر بالنسبة لـ«أمازون» والشركات المصنعة لأنظمة المسرح المنزلي.
على سبيل المثال، أبلغت «نتفليكس» عن 214 مليون عضوية مدفوعة عالمياً للربع الثالث من عام 2021، ارتفاعاً من نحو 168 مليوناً في عام 2019، كما شهدت «أمازون» و«ديزني» ارتفاعاً كبيراً في الاشتراكات في العامين الماضيين. ورغم تباطؤ هذا التوجه، فإن الخبراء لا يتوقعون أن يتلاشى اهتمام الناس بالترفيه المنزلي.
من ناحية أخرى، أصبح الناس أكثر اهتماماً بصحتهم الشخصية وصحة أحبائهم والمقربين منهم. لقد جعلت الأزمة العالمية الناس يركزون على أهمية صحتهم، وهو تحول إيجابي يتوقع الخبراء أن يستمر بعد أن يخف الوباء. حتى بعض السلوكيات التي ربما بدت غريبة قبل الوباء، مثل تعقيم اليدين وارتداء الكمامة في الأماكن العامة، أصبحت طبيعية ومقبولة لمعظم الناس.
ومن الناحية الاجتماعية، تسبب الحجر الصحي المفروض على مئات الملايين من البشر في جميع أنحاء العالم، في تغيير وتيرة الحياة اليومية وعاداتنا وسلوكياتنا الاجتماعية، لكنها حملت في ثناياها فوائد، وساهمت في خلق إيجابيات وسلوكيات جديدة لم تكن لتطرأ على حياتنا لولا هذه الجائحة. وأبرزت هذه الأزمة الإنسانية جوانب إيجابية، مثل روح التضامن بين الجيران، وقضاء المزيد من الوقت مع الأسرة، وتراجع الوتيرة السريعة للحياة اليومية، وحتى انخفاض معدل تلوث الهواء على مستوى العالم.
وقد أعربت كثير من الأمهات، في لقاءات تلفزيونية وصحافية، عن سعادتهن، لأن وجودهن في المنزل منحهن الفرصة للعناية بالأسرة والأولاد وقتاً أطول، كما أنه من الواضح أن أفراد الأسرة أصبحوا أكثر تقارباً، بسبب وجودهم مع بعضهم داخل المنزل فترات طويلة. حتى العلاقات بين الجيران صارت أفضل. كما أن الوقت الطويل الذي قضاه الناس في المنزل، وتوفر الإنترنت منح الكثيرين الفرصة لتعلم مهارات جديدة، وتطوير قدراتهم إلى حد كبير.
ورغم افتقاد الأصدقاء والعلاقات الاجتماعية والنقاشات في محيط العمل بسبب الحجر الصحي؛ فقد وجد الكثيرون توازناً نفسياً ممتعاً، بسبب قلَّة ضغوط الحياة اليومية وظروف العمل والقدرة على النوم بشكل أفضل وأطول. هذه التجارب الإيجابية لم تكن لتحدث لولا جائحة «كورونا».
كما أبرزت الأزمة الصحية العالمية أهمية التكافل الاجتماعي، حيث بادر كثيرون إلى دعم الفقراء وأصحاب الأعمال البسيطة الأكثر تضرراً بسبب الجائحة، وذلك بتوفير المواد الغذائية الأساسية لمئات الآلاف من الفقراء في شتى أنحاء العالم.
أما تأثير أزمة «كوفيد - 19» على البيئة، فقد كان إيجابياً إلى حد كبير، خلال حالة الإغلاق العام، وتراجع الأداء الاقتصادي، وتقييد حركة انتقال البشر، وانخفاض معدل استخدام وسائل النقل العام وركوب السيارات وحظر الطيران، أصبحت البيئة المستفيد الأول من هذه الأزمة غير المسبوقة في القرن الحادي والعشرين. عدد من التقارير العلمية كشف انخفاض مستوى التلوث حتى في الدول الصناعية الكبرى، وأولها الصين. وأظهر تحليل لموقع «موجز الكربون» أن هذه الأزمة قلَّلت مؤقتاً انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في الصين بنسبة 25 في المائة، مع استمرار الانبعاثات دون المستوى الطبيعي، بعد أكثر من شهرين من دخول البلاد في حالة إغلاق. هذه الحقيقة قد تشجع كثيراً من الجهات على اتخاذ تدابير إضافية بعد القضاء على «كوفيد - 19»، التي من شأنها تقليل الانبعاثات، مثل العمل عن بُعد وتقصير خطوط التوريد العالمية.
أما من حيث المزايا الأكاديمية، التي لمستها عن قرب بسبب عملي في «جامعة الملك عبد العزيز» في جدة خلال الجائحة، فإن التعلم عبر الإنترنت يساعد في ضمان التعلُّم عن بعد، ويمكن إدارته، ويمكن للطلاب الوصول بسهولة إلى أساتذتهم وإلى المواد التعليمية المطلوبة. كما خففت الأزمة المهام الإدارية، مثل تسجيل المحاضرات وتسجيل الحضور. كما أن طرائق التعلم عبر الإنترنت شجعت على تركيز الطالب أثناء حالة الإغلاق، وتعلم الطالب تنظيم وقته وجهده بشكل ذاتي خلال اليوم.
ختاماً، يمكن القول إن جائحة «كوفيد - 19»، رغم كل الآلام التي تسببت بها لقطاعات واسعة من الناس، كان لها جوانب إيجابية أيضاً، وقدمت دروساً قد تستفيد منها الأجيال القادمة بشكل كبير.
- باحث ومترجم سوري