الإرهاق الذهني... حالة نفسية بيولوجية تضعف الأداء المعرفي والجسدي

يعوق إنتاجية المرء في المهام العقلية والبدنية داخل بيئات مختلفة

الإرهاق الذهني... حالة نفسية بيولوجية تضعف الأداء المعرفي والجسدي
TT

الإرهاق الذهني... حالة نفسية بيولوجية تضعف الأداء المعرفي والجسدي

الإرهاق الذهني... حالة نفسية بيولوجية تضعف الأداء المعرفي والجسدي

هل تنتابك حالة من الإرهاق الذهني ولا تستطيع حينها مواصلة التفكير؟ هل تشعر بأنك أصبحت مستنزفاً عقلياً، ولا رغبة لديك في مزيد من القراءة خلال مراحل التحصيل العلمي أو الاستمرار في مراجعة البيانات أثناء عملك الوظيفي؟ إذا كان الأمر كذلك؛ فمن المحتمل أنك تعاني من «التعب العقلي».

- «تعب عقلي»
«التعب العقلي (Mental Fatigue)» يمكن أن يحدث؛ ولأي إنسان، حينما يرهق عقله بنشاط ذهني معرفي لوقت طويل، مما يعوق قدرة الاستمرار على الإنتاجية في إنجاز المهام؛ سواء أكانت مهام ذهنية، كمواصلة القراءة أثناء التحصيل العلمي أو مراجعة يومية لبيانات وظيفية مرهقة، أم مهام بدنية تتطلب تفكيراً ذهنياً، كالتنافس في الألعاب الرياضية أو تكرار قيادة السيارة. كما قد يتكرر حدوث ذلك التعب الذهني بشكل يومي لدى البعض، وتصبح لديه حالة مزمنة.
وفي الغالب، يمكن للشخص القيام بمعظم المهام في بداية اليوم، ويمكن اعتباره بصحة جيدة تماماً. ولكن بمرور الساعات؛ لا تكون الطاقة العقلية لديه كافية للاستمرار، وتؤثر بالتالي على قدرة العمل والمشاركة في الأنشطة الاجتماعية.
وتشمل الأعراض الأكثر شيوعاً كلاً من: التثبيط العقلي، وقلة الدافع، والتهيج، وزيادة الأكل أو فقدان الشهية، والأرق، وتعطيل النوم الليلي.
وتشير الأبحاث إلى أن الإرهاق العقلي يؤثر على الأشخاص من جميع الخلفيات والتركيبات السكانية والاجتماعية. وتفيد بأن نحو ربع الأشخاص في عموم الناس، يعانون من علامات التعب الذهني، وأن النساء أكثر عرضة من الرجال لذلك النوع من الإرهاق. وهذا الإرهاق العقلي يمكن أن يتأثر به الشخص على المديين القصير أو الطويل؛ سواء في قدرات التحمل النفسي أو الذهني، والبدني، كما يمكن أن يؤدي إلى أنواع من المشكلات الصحية.
ويوضح أطباء «مايو كلينك»: «يشعر كل شخص تقريباً بالإِنهاك وضغط العمل من وقت لآخر. ويمكن تحديد السبب وراء أمثلة الإرهاق المؤقت هذه، ومن المحتمل وجود علاج لها. من جانب آخر؛ قد يستمر الإنهاك الشديد لفترة أطول، ويكون معمقاً أكثر، ولا يمكن التخفيف منه عند الراحة. وهو حالة من الوهن المستمر تقريباً، وينشأ بمرور الوقت، فيُقلل من طاقتك وحماسك وتركيزك. ويؤثر الإرهاق عند هذا المستوى أيضاً على سلامتك الانفعالية والنفسية».
ومن أجل التغلب على التعب الذهني بشكل فعال حين حدوثه، ومنع تكرار الوصول إليه، من المهم أن يكون المرء قادراً على التعرف على بدايات أعراض هذا التعب، وفهم ما يمكن أن يسبب هذا الإرهاق له، ومعرفة ما الملائم له للتخفيف منه أو منع حدوثه.

- حلول طبية
ولا تزال مشكلة الإرهاق الذهني تبحث عن حلول لها من قبل الأوساط الطبية. وضمن مراجعة منهجية؛ قدم باحثون في جامعة «فريجي» في بروكسل ببلجيكا دراستهم بعنوان: «كيفية معالجة التعب العقلي: مراجعة منهجية للتدابير المضادة المحتملة والآليات الكامنة وراءها». ووفق ما جرى نشره ضمن عدد سبتمبر (أيلول) الحالي من «مجلة الطب الرياضي (Sports Medicine)»، أفاد الباحثون البلجيكيون: «التعب العقلي حالة نفسية بيولوجية تضعف الأداء المعرفي والجسدي في بيئات مختلفة. وفي الآونة الأخيرة، سعى العديد من الدراسات إلى معرفة طرق مواجهة هذه الآثار السلبية للتعب العقلي والتغلب عليها (MF Countermeasures). ويتم تصنيف هذه الإجراءات المضادة وفق توقيت تطبيقها واستخدامها (قبل أو أثناء أو بعد المعاناة من حالة التعب العقلي)، ووفق نوع التدخل (سلوكي أو فسيولوجي أو نفسي)».
وقال الباحثون في نتائجهم: «تكشف المراجعة المنهجية الحالية أن ثمة مجموعة واسعة من الإجراءات المضادة لمواجهة التعب العقلي بنجاح على المستوى الشخصي، والمستوى العصبي الفسيولوجي و/ أو السلوكي. ومن بين هذه العوامل، يعدّ الكافيين، والروائح العطرية، والموسيقى، والمساعدة من الغير (كالأصدقاء وأفراد الأسرة أو زملاء العمل)، هي الأكثر إثباتاً لفائدتها».
وصنف الباحثون كلاً من الكافيين والروائح العطرية بوصفها معالجات فسيولوجية، والاستماع إلى الموسيقى والمساعدة من الغير بوصفها معالجة سلوكية. وقالوا إن الآلية الأكثر افتراضاً التي تعمل من خلالها هذه الإجراءات المضادة هي «نظام الدوبامين (Dopaminergic System)». ومعلوم أن المسارات العصبية في «نظام الدوبامين» داخل الدماغ، تلعب دوراً رئيسياً في العديد من الوظائف العقلية الذهنية، كالوظائف التنفيذية والتعلم والتأثر الإيجابي بالمكافأة وبالعوامل المحفزة.
وضمن مراجعة علمية أخرى لباحثين من جامعة موناش في ملبورن بأستراليا، حول الآليات العصبية الكامنة وراء التعب العقلي، تم نشرها ضمن عدد يوليو (تموز) الماضي من مجلة «مراجعات في علوم الأعصاب (Reviews in the Neurosciences)»، قال الباحثون: «رغم تأثيره السلبي المعترف به على نطاق واسع، فإن الآليات العصبية التي تبرز هذه الظاهرة لا تزال غير مفهومة تماماً. والإرهاق العقلي عَرَض شائع في بعض الحالات المرضية المزمنة، ويؤثر على نوعية حياة المرضى. كما يمكن أن يؤدي استمرار أداء المهام المعرفية الذهنية، إلى حدوث حالة التعب العقلي، التي تتسم بالإحساس الذاتي بالتعب الذهني وانخفاض الأداء المعرفي. وبالإضافة إلى المخاطر المهنية المرتبطة بالإرهاق العقلي، يمكن أن يؤثر أيضاً على الأداء البدني، مما يقلل من القدرة على التحمل والتوازن والمهارات الفنية الخاصة بالرياضة».

- العقل والجسد
ومثالاً؛ عرض فريق مشترك لباحثين من جامعة «سارلاند» في ألمانيا، وجامعة «إيدج هيل» وجامعة «تشيتشستر» وجامعة «نيوكاسل» في بريطانيا، دراستهم بعنوان: «فهم وجود التعب العقلي لدى اللاعبات النخبة لكرة القدم النسائية». و«اللاعبون النخبة» يُقصد بهم المحترفون في الغالب. ووفق ما تم نشره ضمن عدد سبتمبر (أيلول) الحالي من مجلة «البحوث الفصلية لممارسة التمارين والرياضة (Research Quarterly for Exercise and Sport)»، قال الباحثون: «أظهرت الأبحاث السابقة في كرة القدم، تأثير الإرهاق العقلي على انخفاض الإنجاز المرتبط بالأداء البدني والفني والتكتيكي واتخاذ القرار». وقالوا في ملخص نتائج دراستهم: «تقدم هذه النتائج توصيات عملية لتقليل الإرهاق العقلي في إعدادات كرة القدم النخبوية، مثل النظر في توقيت اجتماعات الفريق ومحتواها ومدتها، وتزويد اللاعبين بوقت فراغ (راحة) حيثما أمكن ذلك، والنظر في طريقة إرشادات التدريب أثناء المباريات».
وكان باحثون من جامعة «غوتنبيرغ» في السويد قد نشروا ضمن عدد مارس (آذار) الماضي من مجلة «الرابطة الطبية السويدية (Lakartidningen)»، دراستهم بعنوان: «التعب العقلي... التفسيرات الممكنة وطرق التشخيص والعلاجات الممكنة».
وقال الباحثون: «التعب العقلي أو إرهاق الدماغ عَرَض مرضي، ومسبب للعجز، مع انخفاض الطاقة العقلية. وفيه يمكن للشخص القيام بمعظم الأشياء (في الأحوال العادية) ويمكن اعتباره بصحة جيدة تماماً، ولكن بمرور الوقت لا تكون الطاقة العقلية لديه كافية للاستمرار، ويؤثر بالتالي على قدرة العمل والمشاركة في الأنشطة الاجتماعية. وعلى سبيل المثال؛ بعد محادثة مع الغير، يمكن أن تُستنزف طاقة الشخص تماماً، ويكون بعدها وقت التعافي طويلاً بشكل غير متناسب».
ووصف الباحثون ظاهرة «التعب العقلي»، وقدموا نموذجاً توضيحياً لكيفية ظهور الحالة، وأشاروا إلى طرق التشخيص والعلاجات الممكنة، التي هي حالياً في مرحلة البحث، ولكن يمكن تنفيذها في مجال الرعاية الصحية في المستقبل المنظور.

- أعراض مختلفة للإرهاق العقلي
> «الإرهاق العقلي» يطال في الأساس قدرات المهارات المعرفية، مثل التفكير والذاكرة واتخاذ القرار وحل المشكلات. ولكن العلامات الشائعة الأخرى تشمل ما يلي:
- الاكتئاب أو القلق أو التشاؤم.
- صعوبة الاهتمام بأي شيء.
- الغضب أو الانفعال.
- صعوبة معالجة وإدارة العواطف.
- انخفاض في الدافع أو الإنتاجية.
- الشعور بالخمول أو التباطؤ في الحركات أو الاستجابات.
كما يمكن أن تظهر أعراض بدنية ليس لها سبب واضح. مثل:
- آلام الرأس والجسم.
- معدة مضطربة.
- مشكلات النوم.
- تغيرات في الشهية والوزن.
- شعور عام بالتوعك.
وبعض من هذه الأعراض قد يحدث أيضاً في حالات الإرهاق العاطفي والإرهاق البدني كذلك. ولكن على المرء أن يلاحظ أن ثمة مسببات مختلفة لكل منها.

- ما الذي يتسبب بالضبط بالإرهاق الذهني؟
> في صورته الشائعة، قد يحدث الإرهاق العقلي إذا كان المرء يؤدي بانتظام أنواعاً من المهام التي تستهلك كثيراً من الطاقة للتفكير المعرفي و/ أو التفاعل العاطفي، خصوصاً إذا نسي المرء تحديد وقت للاسترخاء والرعاية الذاتية. ولكن مسببات الإرهاق الذهني تختلف لدى الطالب عنها لدى التاجر، كما تختلف لدى المُضارب في الأسهم عنها لدى الطبيب، وكذلك بين اللاعب الرياضي في الألعاب الجماعية وآخر في تلك الفردية.
وفي العموم، هناك قواسم مشتركة في تلك المسببات؛ منها:
- تطلب تكرار اتخاذ القرار: إذ إن تكرار اتخاذ القرار أمر مرهق ذهنياً ويستنفد القدرات الوظيفية التنفيذية لدى الشخص؛ سواء أكان ذلك في مرحلة تحضير الطالب للاختبارات، أم اللاعب خلال مراحل التدريب وأثناء أداء المباريات المهمة، أم خلال المضاربة في الأسهم، أم بوصفه أحد متطلبات العمل الوظيفي.
- فوضى التنسيق الذهني: عند تراكم أنواع من المشوشات الذهنية، خلال قيام المرء بأعمال ذهنية متعددة دون تنسيق، يحدث ارتفاع إنتاج هرمون التوتر (هرمون الكورتيزول)، وتتدني قدرات التركيز والإبداع، وتنخفض عتبة المعاناة من الألم البدني والنفسي (سهولة حدوث ذلك). ويعطي مارك هيرست، مؤلف كتاب «قليل من المعرفة (Bit Literacy)»، مثالاً بقوله: «الاستهلاك المفرط للأشياء الرقمية؛ مثل إشعارات الوسائط الاجتماعية، وموجز الأخبار، والألعاب، والملفات الموجودة على جهاز الكومبيوتر... كلها تتنافس على جذب انتباهنا، مما يصنع فوضى رقمية في أذهاننا».
- الإفراط في الالتزام: التزام المرء بمهام أكثر مما لديه من قدرة أو وقت لإنهائها، ليس فقط سبباً لاستنزاف قدراته العقلية، ولكن يؤدي كذلك إلى نتائج عكسية أيضاً في نتائج أداء المهام تلك. ناهيك بتسببه في الإنهاك الوظيفي. ويقول أطباء «مايو كلينك»: «الإنهاك الوظيفي نوع خاص من التوتر المرتبط بالعمل، هو حالة من الإرهاق البدني أو النفسي. ويتضمن أيضاً إحساساً بتراجع الإنتاجية، بما يؤثر على صحتك البدنية والنفسية».
- التحاشي والتسويف: وبخلاف الاعتقاد الشائع؛ فإن التسويف يضغط على العقل أكثر من ذلك الضغط الذي يتسبب فيه إنجاز العمل دون تأخير. وتوضح الدكتورة أليس بويز، مؤلفة كتاب «مجموعة أدوات العقل السليم ومجموعة أدوات القلق (The Healthy Mind Toolkit and The Anxiety Toolkit)، قائلة: «عندما نماطل أو نتجنب، فإن قلقنا بشأن كل ما نتجنبه يميل إلى الازدياد»، وهو ما بالتالي يستنزف الطاقة العقلية إلى حد النفاد.
- اضطرابات النوم: عدم أخذ قسط كاف من النوم (أي نحو 8 ساعات) في الليل بالذات، أحد الأسباب الشائعة للإرهاق الذهني. وفترة النوم في الليل هي الوقت الأساسي للدماغ كي يُقوي الروابط بين الخلايا العصبية فيه، ويدمج الذكريات، وينظف نفسه من السموم ونواتج عمليات تفاعلات الأيض الكيميائية، ويصلح ويعيد ترتيب نفسه.
- ضعف التغذية الدماغية: يحتاج الدماغ إلى شرب الماء، والتغذية الجيدة بالخضراوات والفواكه والأسماك الدهنية والروبيان والمكسرات وزيت الزيتون والبقول وحبوب القمح الكاملة غير المقشرة (Whole – Grain)، مع خفض تناول الشحوم الحيوانية واللحوم الحمراء والسكريات. وثمة منتجات معينة ذات تأثيرات إيجابية «عامة» في تنشيط عمل الدماغ؛ مثل القهوة، وثمار الأفاكادو، وأنواع الفواكه التوتية (Berries)، ودهون «أوميغا3» في الأسماك، والشوكولا الداكنة، ولبن الزبادي، وزيت الزيتون البكر، والكركم، ومكسرات الجوز والفستق، والطحالب البحرية.

- استشارية في «الباطنية»


مقالات ذات صلة

سمنة البطن مع وزن طبيعي للجسم... مشكلة صحية تستدعي الاهتمام

صحتك سمنة البطن مع وزن طبيعي للجسم... مشكلة صحية تستدعي الاهتمام

سمنة البطن مع وزن طبيعي للجسم... مشكلة صحية تستدعي الاهتمام

تعتمد الأوساط الطبية بالعموم في تحديد «مقدار وزن الجسم» على عدد الكيلوغرامات بوصفه «رقماً»

د. حسن محمد صندقجي (الرياض)
صحتك الحياة الخاملة ترفع ضغط الدم لدى الأطفال

الحياة الخاملة ترفع ضغط الدم لدى الأطفال

كشفت أحدث دراسة تناولت العوامل المؤثرة على ضغط الدم، عن الخطورة الكبيرة للحياة الخاملة الخالية من النشاط على الصحة بشكل عام، وعلى الضغط بشكل خاص.

د. هاني رمزي عوض (القاهرة)
صحتك الصداع النصفي: خيارات العلاج المستهدف

الصداع النصفي: خيارات العلاج المستهدف

الصداع النصفي ليس مجرد صداع عادي يعاني منه الجميع في وقتٍ ما، بل هو اضطراب عصبي معقد يمكن أن يُشعر المريض وكأن العالم قد توقف.

د. عبد الحفيظ يحيى خوجة (جدة)
صحتك استشارات طبية: المغنيسيوم والنوم... وعدم تحمّل دواء خفض الكوليسترول

استشارات طبية: المغنيسيوم والنوم... وعدم تحمّل دواء خفض الكوليسترول

ما تأثير تناول المغنيسيوم الغذائي بالعموم، أو أقراص مكملات المغنيسيوم، على النوم؟

د. حسن محمد صندقجي
صحتك تعريض الجسم للبرودة الشديدة قد يساعد الشخص على النوم بشكل أفضل (رويترز)

تعريض جسمك للبرودة الشديدة قد يساعدك على النوم بشكل أفضل

كشفت دراسة جديدة عن أن تعريض الجسم للبرودة الشديدة قد يساعد الشخص على النوم بشكل أفضل.

«الشرق الأوسط» (أوتاوا)

سمنة البطن مع وزن طبيعي للجسم... مشكلة صحية تستدعي الاهتمام

سمنة البطن مع وزن طبيعي للجسم... مشكلة صحية تستدعي الاهتمام
TT

سمنة البطن مع وزن طبيعي للجسم... مشكلة صحية تستدعي الاهتمام

سمنة البطن مع وزن طبيعي للجسم... مشكلة صحية تستدعي الاهتمام

تعتمد الأوساط الطبية بالعموم في تحديد «مقدار وزن الجسم» على عدد الكيلوغرامات بوصفه «رقماً»

مؤشرات وزن الجسم

يستخدم «مؤشر كتلة الجسم» BMI الذي يحسب مقدار وزن الجسم بالكيلوغرامات، مع الأخذ بالاعتبار مقدار طول الجسم بالمتر، ليعطينا «رقماً» يفصل بين 3 حالات: الحالة الطبيعية، وزيادة الوزن، والسمنة.

ونلجأ كذلك إلى قياس «محيط الخصر» WC بعدد السنتيمترات بوصفه «رقماً» يميز وجود سمنة البطن من عدم ذلك.

في السنوات الأخيرة ازداد ظهور أمراض ذات صلة بالسلوكيات غير الصحية في نمط عيش الحياة اليومية، وعادات الأكل السيئة، وتداعيات التقدم التكنولوجي الذي يفصل الناس عن ممارسة النشاط البدني. وقد ثبت تجريبياً أن العواقب الصحية السلبية لذلك تنمو على مستوى العالم بمعدل مثير للقلق. وهي تشمل السمنة Obesity، ومرض السكري من النوع 2، وأمراض القلب.

وإلى جانب ظهور «أمراض نمط الحياة» هذه، هناك انتشار زائد لمتلازمة التمثيل الغذائي Metabolic Syndrome، وهي مجموعة من الاضطرابات الأيضية في العمليات الكيميائية الحيوية التي تجري في الجسم، وترتبط بمقاومة الجسم لمفعول الإنسولين، ونشوء عمليات بطيئة ومستمرة في الالتهابات، واضطرابات الدهون في الدم (خصوصاً ارتفاع الدهون الثلاثية)، وارتفاع ضغط الدم.

«سمنة مركزية» ووزن طبيعي

ومن بين كل ذلك، تطفو السمنة البطنية (السمنة المركزية Central Obesity)، التي تتميز بزيادة كمية الأنسجة الشحمية (الشحوم الصفراء) داخل البطن، بوصفها علامة مميزة في كثير من تلك الحالات.

والسؤال الذي يتبادر للذهن: هل الأمر في شأن الأضرار الصحية مرتبط بالسمنة بوصفها حالة عامة في زيادة كتلة عموم الجسم أم أن الأمر مرتبط على وجه الخصوص بزيادة تراكم الشحوم في البطن (محيط منطقة الوسط)؟

والأدق أيضاً في طرح هذا السؤال عندما يكون لدى المرء حالة «الوزن الطبيعي مع سمنة بطنية» NWCO، أي عندما يكون وزن الجسم طبيعياً لدى الشخص بالنسبة لطوله، ولكن في الوقت نفسه لديه سمنة بطنية... هل من الممكن أن يكون هذا الشيء ضاراً ويمثل خطراً صحياً؟

والإجابة عن هذا السؤال تحتاج بداية إلى التساؤل بالأصل: هل ثمة «مشروعية طبية» لطرح مثل هذا السؤال؟

والإجابة نعم بالتأكيد، أن ثمة مشروعية طبية في طرح هذا السؤال لدواع شتى، أهمها اثنان، هما:

- الداعي الأول أن هناك أمثلة من سمنة أجزاء معينة في الجسم، ثبت أن ليس لها ضرر صحي واضح، حتى لو كان لدى الشخص ارتفاع في مقدار وزن الجسم، وارتفاع في مؤشر كتلة الجسم. وتحديداً أفادت نتائج دراسات عدة بأن سمنة شحوم الأرداف بحد ذاتها لدى النساء، ليس لها تأثير صحي ضار يوازي وجود سمنة تراكم شحوم البطن لديهن. وكذلك ثبت أن سمنة كتلة عضلات الجسم (زيادة مقدار وزن الجسم بسبب زيادة وزن كتلة العضلات فيه وليس زيادة تراكم الشحوم)، التي قد تزيد في مقدار مؤشر كتلة الجسم لتجعله ضمن نطاق السمنة، ليس لها تأثيرات سلبية مقارنة مع سمنة زيادة كتلة الشحوم في الجسم بالعموم وفي البطن على وجه الخصوص. وثبت أيضاً أن سمنة الوزن الطبيعي، مع تدني حجم كتلة العضلات، وارتفاع كتلة الشحوم Sarcopenic Obesity، لها تأثيرات ضارة لا تقل عن سمنة زيادة مؤشر كتلة الجسم.

- الداعي الآخر أن نحو 25 في المائة من البالغين ذوي الوزن الطبيعي، يُصنفون بالفعل على أن لديهم سمنة تراكم شحوم البطن، وفي الوقت نفسه يكون وزن أجسامهم طبيعياً، وفق «المجلة الطبية البريطانية BMJ» عدد 26 أبريل (نيسان) 2017. وهذه النسبة مقاربة جداً للإحصاءات الطبية في الولايات المتحدة. وفي مجتمعات أخرى ثبت أنها أعلى وفق نتائج دراسات طبية فيها. وهي نسبة مهمة بين عموم البالغين الذين قد يعتقدون أن كون مقدار وزن جسمهم طبيعياً يعني تلقائياً أنه لا ضرر متوقعاً عليهم من تراكم الشحوم في بطونهم.

دراسات سمنة البطن

والملاحظ أن الأوساط الطبية تأخرت كثيراً في الاهتمام بهذه الوضعية الصحية ومعرفة آثارها. وأيضاً تأخرت في وضع إرشادات ونصائح طبية للتعامل معها. وفي دراسة مشتركة لباحثين من جامعة آيوا، ومن كلية ألبرت آينشتاين للطب بنيويورك، ومن جامعة كاليفورنيا، ومن كلية الطب بجامعة هارفارد، ومن مركز فريد هاتشينسون لأبحاث السرطان في سياتل، تم طرح الأمر في دراسة بعنوان: «ارتباط السمنة المركزية ذات الوزن الطبيعي بالوفيات بين النساء». ونشر ضمن عدد 24 يوليو (تموز) 2019 من مجلة «شبكة جاما المفتوحة» JAMA NETWORK Open، الصادرة عن «الجمعية الطبية الأميركية» AMA.

وقال فيها الباحثون: «السمنة المركزية، التي تتميز بتراكم الشحوم في منطقة البطن بشكل مرتفع نسبياً، ارتبطت بارتفاع خطر الوفاة، بغض النظر عن مقدار مؤشر كتلة الجسم. ومع ذلك، فإن الأفراد الذين لديهم مؤشر كتلة جسم طبيعي مع السمنة المركزية يتم إهمالهم عادة في الإرشادات الإكلينيكية. وعلاوة على ذلك لا يحظى الأفراد الذين يعانون من السمنة المركزية ذات الوزن الطبيعي باهتمام كبير في وضع استراتيجيات الحد من المخاطر، مثل تعديلات نمط الحياة والتدخلات الأخرى».

ولكن حتى بين الأفراد ذوي الوزن الطبيعي، قد يكون أولئك الذين يعانون من السمنة المركزية مُعرّضين لخطر زائد للوفاة بسبب تراكم الشحوم المفرط في البطن. وفي نتائج دراستهم التي شملت أكثر من 160 ألف امرأة أفادوا بالقول: «ارتبطت السمنة المركزية ذات الوزن الطبيعي بارتفاع خطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية والوفاة بالسرطان، مقارنة بالوزن الطبيعي دون السمنة المركزية».

عوامل خطر أيضية قلبية

ومن ثمّ بدأت تصدر دراسات طبية من مناطق مختلفة من العالم حول هذا الأمر. وعلى سبيل المثال، نذكر دراسة حديثة من الصين، وأخرى من بنما.

وفي دراسة بعنوان: «ارتباط السمنة المركزية ذات الوزن الطبيعي بارتفاع ضغط الدم»، تم نشرها العام الماضي، عدد 8 مارس (آذار) 2023 من مجلة «BMC» لاضطرابات القلب والأوعية الدموية، لباحثين من الصين، أفادوا بالقول: «السمنة المركزية ذات الوزن الطبيعي (NWCO) هي حالة أيضية تم وصفها أخيراً في عدد قليل من الدراسات. ويتم تجاهل الأفراد المصابين بها بسهولة في الرعاية الصحية الروتينية، بسبب التركيز الصارم على مؤشر كتلة الجسم».

وأضافوا: «قد يكون لدى الفرد ذي الوزن الطبيعي نسبة شحوم كبيرة في الجسم، وهو ما لا يظهر عندما يكون مقدار مؤشر كتلة الجسم طبيعياً. وتشير الأدلة الموجودة إلى أن السمنة المركزية، التي تتميز بالتراكم المرتفع نسبياً للشحوم في البطن، ترتبط ارتباطاً أقوى بعوامل الخطر الأيضية القلبية من السمنة العامة، وحتى بين الأفراد ذوي الوزن الطبيعي». وخلصوا في نتائجهم إلى القول: «ترتبط السمنة المركزية، كما هو محدد بواسطة محيط الخصر، بزيادة خطر الإصابة بارتفاع ضغط الدم لدى البالغين ذوي مؤشر كتلة الجسم الطبيعي».

وضمن عدد يونيو (حزيران) 2022 من مجلة «لانسيت للصحة الإقليمية - بالأميركتين» The Lancet Regional Health - Americas، نشر باحثون من كلية الطب بجامعة بنما، حول انتشار السمنة المركزية والتعرف على مدى وجود عوامل الخطر القلبية الأيضية Cardiometabolic risk لديهم.

ويتم تعريف مخاطر القلب والأيض على أنها مجموعة من التشوهات في العمليات الأيضية الكيميائية الحيوية، وفي القلب، وفي الأوعية الدموية، بما في ذلك السمنة البطنية، ومقاومة الإنسولين، وارتفاع ضغط الدم، واضطرابات الكولسترول، ودهون الدم، وتصلب الشرايين، التي تجعل الأفراد أكثر عرضة للإصابة بأمراض القلب، والأوعية الدموية، ومرض السكري من النوع 2.

ولاحظوا أن باستخدام مؤشر «نسبة الخصر إلى الطول»WHtR، كان معدل انتشار السمنة البطنية نحو 44 في المائة بين الذين بالأساس لديهم مؤشر كتلة الجسم طبيعياً. وقالوا في نتائجهم: «ارتبطت السمنة البطنية مع الوزن الطبيعي للجسم بعوامل الخطر القلبية الوعائية، خصوصاً مع ارتفاع تركيز الدهون الثلاثية. قد يكون تقييم السمنة البطنية على مستوى الرعاية الصحية الأولية تقنية مفيدة لتحديد الأشخاص ذوي الوزن الطبيعي مع خصائص السمنة الأيضية».

ولذا إذا أردنا ألا نفقد متابعة هذه الفئة من الناس، فيجدر قياس محيط الوسط مع قياس وزن الجسم وحساب مؤشر كتلة الجسم، والالتفات إلى كليهما في التقييم الإكلينيكي. وللتوضيح، على الرغم من حقيقة أن مؤشر كتلة الجسم يتم استخدامه على نطاق واسع لتحديد السمنة في الممارسة الإكلينيكية، فإن أحد القيود المهمة لمؤشر كتلة الجسم هو أنه لا يميز بين أشكال مكونات تركيبات أجزاء الجسم المختلفة، حيث قد يكون لدى الفرد ذي الوزن الطبيعي نسبة شحوم متزايدة في منطقة من الجسم، ولكنها قد تكون مخفية بالقيمة الطبيعية لمؤشر كتلة الجسم.

وحتى بين الأفراد ذوي الوزن الطبيعي، فإن أولئك الذين لديهم نسبة عالية من الشحوم في الجسم، لديهم انتشار أعلى لمتلازمة التمثيل الغذائي ومكوناتها من أولئك الذين لديهم مؤشر كتلة جسم طبيعي، ونسبة شحوم في الجسم طبيعية.

25 % من البالغين ذوي الوزن الطبيعي لديهم سمنة تراكم شحوم البطن

تشخيص السمنة بالأساس مجرد حسابات من الأرقام

* عند التكلم عن السمنة في جانب التشخيص، علينا ابتداءً استخدام لغة الأرقام. ومن بين عدة «طرق» مطروحة لدى الأوساط العلمية والطبية، يظل «الأشهر»، و«الأقرب» هو الطرق الأربع التالية في تقييم وزن الجسم والسمنة:

- حساب «مؤشر كتلة الجسم» BMI يتم بقسمة مقدار الوزن بالكيلوغرامات على مربع طول الجسم بالمتر. و«الطبيعي» أن يكون مؤشر كتلة الجسم ما بين 20 إلى 25، أما ما بين 25 و30 فهو «زيادة في الوزن»، وما بين 30 إلى 35 فهو «سمنة»، وما بين 35 و40 فهو «سمنة شديدة»، وما فوق ذلك هو «سمنة مفرطة».

- حساب محيط الخصر Waist Circumference هو طريقة مهمة في تقييم سمنة البطن بالذات. وبدقة، يتم قياس محيط الخصر عند مستوى منتصف المسافة بين أدنى ضلع ملموس وبين الحافة الحرقفية لأعلى قوس عظمة الحوض، وذلك تقريباً أعلى قليلاً من السرّة، بعد إخراج هواء الزفير من النفس، أي قياس محيط أصغر جزء من الخصر. ولكن تجدر ملاحظة أن محيط الخصر يختلف في المجتمعات الجغرافية المختلفة وفق متوسط الطول فيها وعموم حجم الجسم.

ووفقاً للمعاهد الوطنية للصحة في الولايات المتحدة NIH، فإن محيط الخصر الذي يزيد على 102 سنتيمتر (40 بوصة) للرجال ويزيد على 88 سنتيمتراً (35 بوصة) للنساء (غير الحوامل)، هو سمنة البطن. بينما لدى ذوي الأصول من جنوب شرقي آسيا، فإن الطبيعي نحو 94 سنتيمتراً (37 بوصة) للرجال و80 سنتيمتراً (31 بوصة) للنساء. ولذا تحتاج المجتمعات المختلفة دراسات لتقييم الطبيعي وغير الطبيعي في ذلك.

- حساب نسبة محيط الخصر إلى محيط الورك WHR. ومحيط الورك Hip Circumference يختلف عن محيط الخصر، حيث إن محيط الورك هو قياس محيط الجزء الأكبر من الوركين، أي الجزء الأوسع من كتلة الأرداف. والطبيعي أن تكون تلك النسبة أقل من 0.95 للرجال، وأقل من 0.80 للنساء. وما فوق ذلك فهو سمنة. وهي طريقة يتم بها التغلب على وجود حجم أكبر في الأرداف التي تكون الشحوم فيها مختلفة عن نوعية الشحوم التي في البطن. وتحديداً شحوم بيضاء في الأرداف، وشحوم صفراء في البطن.

- حساب نسبة الخصر إلى الطول WHtR: يكون بقسمة مقدار محيط الخصر على مقدار الطول. والطبيعي أن يكون أقل من 0.5، وما فوق ذلك هو سمنة. وهي طريقة يتم من خلالها التغلب على الاختلافات العرقية في متوسط الطول لدى غالبية الناس في المجتمعات المختلفة.