كانت قد مضت 14 سنة على إصدار الطبعة الأولى، بالغلاف السميك، من كتاب «تشريح النقد» في 1957، عندما صمم آندي جورينكو، غلاف الطبعة التي صدرت أول مرة في 1971 عن جامعة برينستون الأميركية بالغلاف الورقي. ولعل جورينكو كان يعي يومها أنه يصمم غلافاً لكتابٍ مهمٍ؛ لكتابٍ ثبت على مدى السنوات أنه «magnum opus»، أي أهم كتب الناقد والمُنَظر الكندي نورثروب فراي وأشهرها وأكثرها تأثيراً. لكن ما لم يخطر ببال جورينكو، أو حتى لم يعبر في خياله كالومضة، أن يَعبرَ الغلافُ الذي صممه آلاف الأميال ويحط رحاله في مدينة جدة، حيث اختير غلافاً لكتابٍ بلسان عربي مبين سيصدر عن نادي جدة الأدبي الثقافي بالعنوان «الخطيئة والتكفير، 1985» للدكتور عبد الله محمد الغذامي.
لم ترِدْ في «الخطيئة والتفكير» أدنى إشارة إلى مصمم الغلاف، وإلى من أين أتى؛ ويبدو هذا متسقاً مع محاولة المؤلف والناشر إحداث بعض التغيير في الغلاف برمي بعض المصطلحات في المثلثات متلاصقة الرؤوس، أو الساعات الرملية، داخل الدائرة في النصف السفلي من الغلاف. لكن يبقى الشبه واضحاً، ويؤكده «الأثر» المتبقي من غلاف كتاب فراي: كلمة «تشريح» التي تحولت إلى «تشريحية أو التشريحية»، الترجمة الغذامية لـ«Deconstruction» ويقصد بذلك التقويض والتفكيك. وثمة فرق بين التشريح والتفكيك حسب إدريس جبري في «الإمكانات والعوائق في المشاكلة والاختلاف». فالتشريح كما يوضح جبري «عادة ما يقف عند سطح المادة المراد تشريحها في حين أن التفكيك يتضمن الهدم والتقويض والتأزيم. لكل وحدة أو مركزية أو هوية متوحشة بتعبير عبد الكريم الخطي...». (جبري، 51).
عَلِقَت كلمة «تشريح» بـ«الخطيئة» لتذكر دائماً بكتاب فراي. ولا يقل أهمية عن ذلك، تسرب الأسطوري من «تشريح النقد» إلى سيرة الغذامي النقدية، فكتاب فراي في جزء منه - المقالة الثالثة - في النقد الميثولوجي: «نقد النماذج الأصلية: نظرية الأساطير». لقد بدا الغذامي وسط الضجة الإعلامية بعد صدور «الخطيئة» وكأنه بطل الثقافة الأسطوري الآتي إلى أمته بالجديد الذي لم يأتِ به أحد قبله، الجديد الذي سيعود عليها بالنفع والفائدة، فكان الاحتفاء والاحتفال به اللذان فاقا تصوراته أو لم يتخيلهما إطلاقاً.
في الأسطورة، بطل الثقافة هو من يعمل على جعل العالم صالحاً للسكن وآمناً، ويبني المؤسسات، ويعلمُ الناس فنون الحضارة، ويقدم لهم الثقافة. من الأمثلة على بطل الثقافة: بروميثيوس سارق النار من زيوس، أو هوميروس الذي جاء بالقصيدة «الإلياذة» إلى أمته، أو بطل الثقافة الهندي «الأحمر» الوجه ذو الندبة الذي عاد إلى قبيلته بصخر الصوان لإيقاد النار، ومن أبطال الثقافة من علموا شعوبهم وقبائلهم الصيد والقنص وتربية الحيوانات الأليفة لتطيب لهم الحياة. أبطال الثقافة أو بطلات الثقافة أيضاً، هم الآتون لأقوامهم بما لم يسبقهم إليه أحد، بالجديد المفيد وما يعين على البقاء. وفي «الخطيئة والتكفير» جاء الغذامي بمنهج نقدي جديد.
أعتقد أن بطولة الثقافة، بما حققت للغذامي من شهرة ومكانة مرموقة في المشهد الثقافي بامتداداته الخليجية والعربية، كانت أحد المحركات، إن لم تكن المحرك الأهم والأكبر لتحولاته النقدية. إن تحولات الغذامي ليس مردها، فقط، إلى موهبته الخارقة على التحول الدائم، أو إلى «قراءته الأولى لرولان بارت في التحولات الدائمة»، كما يقول الدكتور عبد الرحمن السماعيل، بل أيضاً إلى الطموح إلى تكرار البطولة الثقافية بما يعنيه ذلك من مراكمة الأمجاد الشخصية مجداً على مجد. وهذا ما تحقق بالفعل بانتقاله من البطولة الثقافية البنيوية، إذا صح التعبير، إلى النقد الثقافي، مروراً بمرحلة النقد النسوي، أو بما سميتها ذات حوار صحافي، على سبيل الدعابة، مرحلة التشبه بالنساء، بتأثير من المفارقة التي تشكلت في استشهاده في «المرأة واللغة» بالناقدة النسوية إلين شوالتر، التي عُرِفَتْ بموقفها المتشدد تجاه النُقاد الذين يتبنون الخطاب النسوي، ومنهم الناقد والمفكر تيري إيغلتون في كتابه «اغتصاب كلاريسا». لقد أطلقت شوالتر «transvestite/متشبه بالنساء» على الرجل الذي يمارس النقد النسوي، ليثبت أنه أقدر وأبرع من المرأة حتى في التحدث عن قضاياها وإبداعها. يظهر شيء من هذا في تعليقها على تنكر مايكل دورسي (دَستين هوفمان) على أنه «دوروثي» في الفيلم «توتسي/ Tootsie». يعري هذا موقفاً نسوياً متطرفاً، وشوالتر ليست لوحدها في ذلك.
ما لا شك فيه أن غلاف جورينكو هاجر من برينستون ليحتضن كتاباً هو «magnum opus» أيضاً، فـ«الخطيئة والتكفير» كتابُ الغذامي الأهم والأكثر شهرة. لكن ما «يتعاصى» على الفهم، ويبدو غريباً للغاية، هو أن يستخدم الباحث والناقد حسين محمد بافقيه غلاف «تشريح النقد» نفسه لكتابه «الحداثة الغائبة: بواكير النقد الألسني في المملكة العربية السعودية، 2018».
يُحسبُ لبافقيه اعترافه أن تصميم أو لوحة الغلاف هي غلاف كتاب فراي، وذكره أيضاً أن الدكتور نعيمان عبد الرحمن أشار إلى الشبه بين غلافي كتابي فراي والغذامي. ويحسب له أيضاً حفاظه على غلاف كتاب فراي فلم تمسه أدنى لمسة تغيير. ولكن حبذا لو أنه اختار غلافاً آخر لكتابه، خصوصاً أنه يتطرق إلى موضوع جديد، كان سيكون له أصداء وتأثير أقوى لو صدر في الثمانينات أو على الأقل في التسعينات. هذا مجرد رأي شخصي ليس القصد منه الحط من قيمة وأهمية هذا الكتاب الصغير الكبير وفاتح العين والممتع معاً.
يعود بافقيه في «الحداثة الغائبة» إلى ما قبل صدور «الخطيئة» في 1985، مدفوعاً بالرغبة إلى تبديد العتمة التي تحيط بنشأة النقد الحداثي الألسني، ولتجلية دور مدينة جدة في التنوير والحداثة، التي شهدت صدور أول كتاب في النقد البنيوي: «الطيب صالح في منظور النقد البنيوي، 1983» للناقد والمترجم د. يوسف نور عوض. يُذَكر بافقيه قبل ذلك بالريادة الفكرية والتنويرية للشاعر محمد حسن عواد، والمعاناة التي تعرض لها بعد إصدار كتابه «خواطر مصرحة، 1926». ثم يسلط الضوء على الشبه بين العواد والدكتور سعيد السريحي في شبابه، عندما جُرد من درجته العلمية وعانى الضرر والتضييق عليه. لقد كان السريحي أول ناقد سعودي «خاض غمار... المناهج النقدية الجديدة - ولا سيما البنيوية» (22). ثم يمضي بافقيه إلى عرض إسهام كل واحد من الذين سبقوا الغذامي - سعوديون وعرب - ومهدوا الطريق أمامه إلى النقد ونظرية البنيوية.
تُرى هل سيحتضن غلاف جورينكو المهاجر كتاباً آخر؟
* ناقد وأكاديمي سعودي
غلاف جورينكو يحتضن كتب فراي والغذامي وبافقيه
هاجر من برينستون إلى جدة
غلاف جورينكو يحتضن كتب فراي والغذامي وبافقيه
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة