«القتيلة رقم 232» في لعنة جغرافية اسمها لبنان

ضحايا القنابل الموقوتة قبل الانفجار الكبير وبعده

«القتيلة رقم 232» في لعنة جغرافية اسمها لبنان
TT

«القتيلة رقم 232» في لعنة جغرافية اسمها لبنان

«القتيلة رقم 232» في لعنة جغرافية اسمها لبنان

في روايتها الصادرة حديثاً لدى دار «هاشيت أنطوان - نوفل» («القتيلة رقم 232») تحرّك الكاتبة اللبنانية جمانة حداد شخصيّتَيها الرئيسيتين: هند وميشا، داخل عقارب الساعة الزاحفة نحو الفجيعة. تجعل من الانفجار الكبير، عصر الرابع من أغسطس (آب) 2020، لحظة الذروة لتجلّي انفجارات «صغيرة» متتالية لا تكفّ عن ابتلاع الضحايا. وإن لم تكن نيترات الأمونيوم ذريعة اشتعالها؛ فذلك لأن فظاعات أخرى تولّت فعل الجرم، كالذل والاغتصاب والنتانة، في بلاد نولد فيها جميعنا «وموتنا فينا، يدق، يدق، كمثل قنبلة موقوتة».
تجيب الكاتبة عن سؤال تنقله على لسان «أحد قرائي المؤتمنين»: «لماذا هذا الإصرار على قصص النساء المهمّشات والمظلومات؟ اكتبي لمرة عن موضوع آخر!»، قائلة إنها لا تستطيع الكتابة عن أي موضوع آخر، ولا بأس باعتبار المسألة «نقطة ضعف أدبية» أو «عيباً جوهرياً في التصنيع». من «نقطة الضعف» هذه و«العيب الجوهري في التصنيع»، تختزل «القتيلة رقم 232» بساعة حياتَين تقيمان في الأسفل، «تحت... مع البكتيريا والطحالب وما شابهها».
أرادت مواصلة السرد. لكنّ الحكاية توقّفت بمقتل هند بانفجار 4 أغسطس الساعة السادسة و7 دقائق و43 ثانية. دوي جعل خفّة غريبة تجتاحها، فمرّ شريط حياتها البائس من دون أن يهزّها، كأنه أصبح ماضياً للمرة الأولى. موت البطلة «من خارج الرواية»، يجعل جمانة حداد «كاتبة مغدورة». «كنتُ أعرف أنها ممددة في كفن بوجداني، هنا حيث لن يلحقها أي أذى بعد اليوم»، تواريها فيها.
هند هي «عباس» - كما سمتها أمها - امرأة بالروح، رجل بالجسد. تذكر أمها، التي تعاملها بازدراء رفضاً لمثليتها الجنسية، أنّ «عباس» وُلد في عام 1996، يوم مجزرة قانا الأولى في قرية بليدا بالجنوب اللبناني: «منذ صغري وأنا، كلما نادى أحد باسمي، التفتُّ من حولي لأجد المُنادى عليه، لأنه لا يُعقل أن يكون أنا»، تقول هند التي لا تشبه «هذا الرجل». تتيح لها الكاتبة التنقّل على طبيعتها داخل الرواية، وتفرض على القارئ مناداتها بالاسم الذي اختارته تيمّناً بهند رستم، لا بالاسم والهوية الجندرية اللذين لا يد لها في اختيارهما.
منذ أن التقيا للمرة الأولى في مظاهرات «جسر الرينغ» البيروتي، رمز ثورة «17 أكتوبر»، أصبحت ميشا وهند بمثابة أم وابنة. وتتخذ الكاتبة من الانتفاضة رمزاً «لهدم الأقفاص»، ثم يطرأ ما هو أكبر. إنها القنابل الموقوتة التي تنفجر وتعصف بالأرض والشعب من دون أن يتوقع أحد.
محاولة هند الحصول على لجوء إلى آيسلندا، وتتخلص، ومسعى ميشا للتخلّص من زوجها الوحش، ينتهيان على شكل سراب. لا الرحلة تتم ولا مصير الزوج مُغتصب امرأته ومُشغّلها في الدعارة، يُعرف. تدسّ له كمية من المواد المنوّمة تُسقطه أرضاً قبل دقائق من الانفجار، فتضع الكاتبة النقطة على صفحاته، من دون نعيه، وإقامة العزاء له. لم تحتمل ميشا طلبه «تشغيل» هند في وحوله، ولحماية ابنتها تتحوّل أماً تجرؤ على الحسم. أقدار الشخصيات مفتوحة، تشرّعها جمانة حداد للقارئ. إلا هند، قدرها الالتحاق بقافلة المغادرين إلى الأبد.
فلتكن رواية مبتورة، تقول. «ما الهَم؟ جميعنا نولد مبتورات ومبتورين، أليس كذلك؟»، تتساءل لتؤكد، لا لتنتظر جواباً. هنا حيوات تتمخّض في أفواه الوحوش حين لا تعود الأرحام مُهيّأة للاحتضان. ميشا المُغتصبة من أب ظنّته والدها البيولوجي ليتبيّن أنه جحيمها، فتهرب منه نحو زوج أسوأ. هند المحبوسة في جسدها، المرفوضة من عائلتها ومجتمعها، المُعنّفة بالألفاظ والنظرات. ومَن يمرّ ذكرهم، بينهم الكاتبة نفسها، المُعذّبة ذاكرتها بمجازر الحرب الأهلية على بُعد أمتار من منزلها. تختار «حي المسلخ» المُجاور للمرفأ مكاناً روائياً من عمق وجعها الشاهد على استحالة النجاة في «هذه المسخرة المأساوية التي اسمها العيش في لبنان».
وإن كانت ميشا وهند تجرّان معاناتهما كالظلال وراء البشر، فمثلهما الكاتبة بتحوّلها شاهدة على الموت في طفولتها. مذّاك، ويدان تشدّان على عنقها بما يكفي لتصل إلى مرحلة ما قبل الاختناق بثانية. من هنا تولد الشخصيات. مما يسبق الاختناق.
تمنح الأجواء الضاغطة إحساساً بالصخور الجاثمة فوق الصدر. تهدّئ الكاتبة التشنّجات بأناقة الأسلوب، وتتّبع قول ألبير كامو: «لا أحد يدرك أنّ بعض الأشخاص يبذلون طاقة هائلة فقط لكي يبدوا طبيعيين»، كفتيل مشتعل يسير بصحبة ناره نحو الموت المحتوم للشخصيات. تنفلش محاولة بذل هذه الطاقة على صفحات الرواية قبل أن يطلّ «ليلٌ يشرق وراءه مزيدٌ من الليل»، فتدرك الكاتبة أنّ هند هي الجزء الذي مات فيها ومنها في 4 أغسطس، ولن يعود إلى الحياة، وهي خصوصاً بيروت المقتولة بالفاجعة.
الساعة الأخيرة قبل الانفجار، وتقسيم القصة دقيقة دقيقة خلالها، يشكلان بداية الرواية ونهايتها معاً. لم تستطع الكاتبة رفع الضوء؛ فالعتمة ماحقة. تتبنّى مقولة الشاعرة الإيطالية أميليا روسيللي «الأمل أذى ربما نهائي»، وتترك سردها للتشظّي عن «لعنة جغرافية اسمها لبنان».


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

طباخ بريطاني يحثّ سارقيه على التبرّع بالطعام المسروق للمحتاجين

الطاهي البريطاني تومي بانكس مع صورة لشاحنته المسروقة (صفحته على «إنستغرام»)
الطاهي البريطاني تومي بانكس مع صورة لشاحنته المسروقة (صفحته على «إنستغرام»)
TT

طباخ بريطاني يحثّ سارقيه على التبرّع بالطعام المسروق للمحتاجين

الطاهي البريطاني تومي بانكس مع صورة لشاحنته المسروقة (صفحته على «إنستغرام»)
الطاهي البريطاني تومي بانكس مع صورة لشاحنته المسروقة (صفحته على «إنستغرام»)

قال تومي بانكس، الذي يمتلك مطعمين حائزين على نجمة ميشلان لجودة الطعام، وحانة في مقاطعة يوركشاير الإنجليزية الشمالية، إن أحد موظفيه اكتشف اختفاء شاحنة للعمل، وفي داخلها حمولتها من شرائح اللحم والديك الرومي وغيرها من المأكولات والمشروبات المخصصة لسوق عيد الميلاد في مدينة يورك البريطانية.

وقُدرت قيمة الطعام بنحو 25 ألف جنيه إسترليني (32 ألف دولار)، وفق وكالة «أسوشييتد برس».

وقال بانكس إن الشاحنة كانت مؤمنة، لكنه ناشد لصوص الشاحنة عدم ترك الطعام يضيع. وفي مقطع فيديو على «إنستغرام»، اقترح أن يتخلصوا من الفطائر في مركز مجتمعي أو مكان آخر.

قال: «أعلم أنك مجرم، ولكن ربما عليك أن تفعل شيئاً لطيفاً لأنها عطلة عيد الميلاد، وربما يمكننا إطعام بضعة آلاف من الناس بهذه الفطائر التي سرقتها. افعل الشيء الصحيح».

صورة غير مؤرخة تظهر فطائر للطاهي البريطاني تومي بانكس (أ.ب)

تعد سرقة الفطائر أحدث سرقة للأطعمة التي تهزّ تجارة الأغذية في المملكة المتحدة. وفي أكتوبر (تشرين الأول)، تم سرقة ما يقرب من 1000 عجلة من جبن الشيدر المصنوع يدوياً، والمغلفة بالقماش، التي تزن 22 طناً، وتقدّر قيمتها بـ300 ألف جنيه إسترليني (390 ألف دولار) من شركة «Neal’s Yard Dairy» في لندن، بواسطة محتال متنكر في هيئة موزع جملة لتاجر فرنسي كبير.

وعلى الرغم من مطاردة الشرطة البريطانية والدولية، ونداء من قبل الشيف التلفزيوني جيمي أوليفر، لم يتم العثور على الجبن. وتم القبض على رجل يبلغ من العمر 63 عاماً، واستجوابه من قبل الشرطة، لكن لم يتم توجيه اتهام إليه.