أن تكون الجزائر وجهة الرئيس الفرنسي الأولى خارج الاتحاد الأوروبي منذ إعادة انتخابه لولاية ثانية في شهر أبريل (نيسان) الماضي، وأن يختارها مقصداً ليطلق معها موسمه الدبلوماسي عقب العطلة الصيفية، فإن ذلك ليس محض صدفة، بل يعود وفق مصادر سياسية في باريس لجملة متداخلة من الأسباب، تجعل الجزائر اليوم كما تقول: «حاجة فرنسية من الطراز الأول».
الوجه الأول لهذه الحاجة عنوانه العلاقة المتردية لباريس مع ثلاث من دول المغرب العربي الخمس، وهي المغرب وتونس وليبيا. فمع المغرب تمر العلاقة بأزمة صامتة. لكن الكلام الذي جاء على لسان الملك محمد السادس، بمناسبة العيد الوطني بالغ الدلالة. فمن جهة، لم يأتِ العاهل المغربي على ذكر باريس من بين العواصم التي ترتبط مع بلاده بعلاقة خاصة، بوصلتها موقف الدول المعنية من مغربية الصحراء، وخطة الحكم الذاتي التي طرحتها الرباط قبل سنوات. ويريد المغرب من فرنسا أن يكون موقفها طبق الأصل لموقف إسبانيا التي تبنّت تماماً الرؤية المغربية. إلا أن باريس مترددة، وهي تعي أن أي بادرة إزاء الرباط في هذه السياق ستُقرأ في الجزائر على أنها موجهة ضدها، وبالتالي ستنعكس سلباً على علاقات الطرفين، بينما تجهد باريس لتحسينها.
كما أن علاقة باريس بتونس يغلب عليها الفتور بسبب الإجراءات التي اتخذها الرئيس قيس سعيد من شهر يوليو (تموز) 2021، وآخرها الاستفتاء الدستوري. ورغم أن باريس لا تنتقد مباشرة التطورات الداخلية في تونس، فإنه من الواضح أن لديها تحفظات إزاءها. أما الملف الليبي، الذي سعت باريس في الماضي لأن تلعب فيه دوراً رئيسياً، فإنها تجد اليوم نفسها على الهامش ولا قدرة لها على التأثير. وقد راهن الرئيس الفرنسي على تعظيم دور بلاده، بفضل المؤتمر الدولي الذي دعا إليه الخريف الماضي لمساعدة ليبيا. لكنّ نتائج هذا المؤتمر تبخرت سريعاً جداً. وفي هذا السياق، تبرز أهمية الجزائر، وأهمية توثيق العلاقة الفرنسية بها، أقله لتوفير رافعة للتأثير المشترك في الملفين الليبي والتونسي، والتعويل على الجزائر لتجنب مخاطر عدم الاستقرار الكامنة في المنطقة. لكن يتعين على باريس، حسبما تقول مصادر سياسية فرنسية، أن تكون «حذرة» حتى لا تخسر في الجانب المغربي، ما يمكن أن تربحه في الجانب الجزائري.
بيد أن الجزائر يمكن أن تكون أكثر فائدة لفرنسا في منطقة الصحراء، حيث خسرت باريس موقعها في مالي، رغم حضور عسكري متواصل طيلة تسعة أعوام، كان غرضه مساعدة باماكو في محاربة التنظيمات الإرهابية، بعد أن أنقذت العاصمة المالية من الوقوع في أسرها بداية عام 2013. وتلاحظ المصادر الفرنسية ذاتها أن للجزائر حدوداً مشتركة مع مالي والنيجر وليبيا تمتد لآلاف الكيلومترات، وتستخدم لجميع أنواع التهريب ولتحرك المجموعات الإرهابية. ومن هنا، فإن شراكة فرنسية - جزائرية لمحاربة الإرهاب، والحد من تبعات انعدام الاستقرار، وإطفاء النزاعات تبدو أساسية للطرفين، خصوصاً أن السلطات الجزائرية حافظت، بعكس باريس، على علاقات جيدة مع المجلس العسكري في باماكو، ومع الحكومة النيجرية ومع الكثير من العواصم الأفريقية.
وتبدو الجزائر اليوم قادرة على إسداء خدمات كبرى لفرنسا في منطقة الساحل، حيث تعاني باريس من تزايد المنافسة في مواقع كانت معقودة اللواء لها في الساحل أو أفريقيا. وما يزعج الطرف الفرنسي هي الرغبة الروسية في إزاحة باريس، أو على الأقل إضعاف مواقعها. ففي مالي، يتزايد النفوذ الروسي، ليس فقط بفضل ميليشيا «فاغنر» التي استعان بها المجلس العسكري للحلول محل قوة «برخان» الفرنسية، وقوة «تاكوبا» الأوروبية، بل أيضاً من خلال مبيعات السلاح الروسي للجيش المالي، والتواصل الحكومي الرسمي بين الطرفين. وليس سراً أن علاقات الجزائر مع موسكو وباماكو جيدة. ومن هنا، فإن الجانب الجزائري يمكن أن يلعب دور الوسيط مع موسكو في النزاع المالي. وآخر المنافسين لباريس هي إيران، التي زار وزير خارجيتها حسين أمير عبداللهيان باماكو ليومين هذا الأسبوع، وعقد اجتماعات مطولة مع رئيس المجلس العسكري ومع وزير الخارجية.
وفي الأسابيع الأخيرة ومع اشتداد أزمة الطاقة أوروبياً بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا، وانقطاع أو تراجع تدفق الغاز الروسي إلى الكثير من البلدان الأوروبية، والتخوف من الشتاء القادم، ومن ارتفاع أسعار الطاقة المتنوعة الأشكال، وعدم توافرها للقطاعين الصناعي والمنزلي... تحولت الجزائر إلى قِبلة المسؤولين الأوروبيين لكونها أحد أكبر عشرة مصدرين للغاز في العالم. بيد أن مصدراً في الرئاسة الفرنسية أعلن قبل يومين أن الغاز «ليس سبباً للزيارة». ورغم ذلك، فإن باريس، التي تبدو أقل تبعية للغاز الروسي بفضل محطاتها النووية لإنتاج الكهرباء، تحتاج لبديل عن الغاز الروسي المستورد (نحو 25 في المائة من الاستهلاك الفرنسي قبل الحرب الأوكرانية). وترافق رئيسة شركة «أنجي» الضخمة للغاز والطاقة، الرئيس ماكرون إلى الجزائر. لكنّ الإليزيه لا يتوقع إعلاناً خاصاً حول هذا الموضوع، أو إبرام اتفاقات جديدة. ورغم ما سبق، يبقى ملف الطاقة رئيسياً بين الطرفين، ليس فقط للأسابيع والأشهر القادمة، خصوصاً أن باريس أعلنت أنها نجحت في تأمين 90 في المائة من الغاز لأشهر الشتاء، بل للسنوات القادمة. لكن ليس مستبعداً أن يتشاور ماكرون وتبون حول فرص زيادة الإنتاج الجزائري من الغاز وما يتطلبه من استثمارات.
أما في الجانب الاقتصادي بين البلدين، فإن حصة فرنسا من السوق الجزائرية إلى تراجع (10 في المائة)، والشركات الفرنسية تجد صعوبات كبيرة في الفوز بعقود رئيسية في الجزائر. ونظراً للعجز المتزايد للميزان التجاري الفرنسي، فإن لباريس مصلحة كبرى في إعطاء دفعة سياسية - دبلوماسية، وحل المشكلات العالقة مع الجزائر، لما لذلك من انعكاسات إيجابية عليها وعلى الطرف الجزائري بالطبع.
ماكرون يعوّل على حل المشكلات العالقة مع الجزائر
خلفيات وأبعاد تجعل من الجزائر «حاجة فرنسية من الطراز الأول»
ماكرون يعوّل على حل المشكلات العالقة مع الجزائر
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة