«حكايات لمريم».. معرض مرح لمحمد عبلة في القاهرة

أهداه لحفيدته على شكل {حدوتة} بصرية

محمد عبلة وزوجته وابنته  في لقطة أمام الجدارية المصورة بالمعرض   

أحد لوحات المعرض
محمد عبلة وزوجته وابنته في لقطة أمام الجدارية المصورة بالمعرض أحد لوحات المعرض
TT

«حكايات لمريم».. معرض مرح لمحمد عبلة في القاهرة

محمد عبلة وزوجته وابنته  في لقطة أمام الجدارية المصورة بالمعرض   

أحد لوحات المعرض
محمد عبلة وزوجته وابنته في لقطة أمام الجدارية المصورة بالمعرض أحد لوحات المعرض

يلعب الفنان محمد عبلة في معرضه الجديد «حكايات لمريم» مع حفيدته، عبر لغة فنية مرحة شفيفة، يتقاطع ويتجاور فيها بحيوية إيقاع الفن والحياة بمفرداتها وحواراتها اليومية البسيطة.
ويبدو لافتا في لوحات المعرض الذي أهداه الفنان لحفيدته، الاحتفاء بأجواء الطفولة، طفولة الفن واللغة والحياة، وكأنها تجدد نفسها وبهجتها من خلال عفوية الصورة، التي يحرص عبلة دائما على تطويرها في مغامرته التشكيلية، محافظا على رسوخ تجربته والتصاقه الشخصي الحميم بها، الذي لا ينفصل عن دبيب البشر ورائحة الأرض وحواديت الليل والنهار.
وإذا كان الفن لعبا فهو عدوى أيضا.. هذا الإحساس سيطاردك بقوة وأنت تتأمل لوحات المعرض المقام حاليا بقاعة «مشربية» بالقاهرة، وسوف تتفاعل مع أجوائها ورموزها، من طيور ونباتات وحيوانات أليفة وأولاد ونباتات وأسماك، وشمس ونجوم تلمع في شطحات الخيال ونزق الفرشاة والألوان. ولا تندهش وأنت تتوقف إمام إحدى اللوحات وتسترجع مناخات طفولتك القصية، بأن رائحة (حدوتة) ما، طالعة من هذه اللوحات، ربما روتها لك جدتك أو أمك أو أبوك عن أسماك تطير، وقطط بأجنحة ملونة كالعصافير.
يجسد عبلة هذا العالم الشيق من خلال مجموعة من المقومات والأساليب الفنية، ففي صدارة المعرض يبني جدارية مصورة من القصاقيص الفنية (السلويت) معتمدا على مهارته كرسام، حيث تحلق الرسوم بلونها الأسود الداكن على خلفية بيضاء، وتنساب حركتها من كل اتجاه بحيوية داخل الجدارية، مخلفة إحساسا ما بالفرح والرغبة في الطيران، يترك أثره المبهج على عين المشاهد.
وفي بعض اللوحات، يعمد عبلة إلى تلوين هذه القصاقيص بصباغات حارة مشعة، أو باستخدام قصاصات ملونة في الخلفية، لكسر التضاد الصوري الذي يحدثه تجاور اللونين الأبيض والأسود، كما يلجأ إلى تخليق مساقط أخرى للضوء، من العلاقات المباغتة بين الخط واللون والفراغ، وهو ما يجعل حركة الرسوم تبدو كأنها تمتد إلى الخارج، كتنويع على فضاء اللوحة الداخلي، وفي الوقت نفسه، يغري بالمزيد من التأمل للوحة نفسها.
وكعادته دائما في كل معارضه التي يوثق بها لتجربته الفنية، لا يكف عبلة عن المغامرة، والتمرد على أسلوبه، وذلك بدفعه في كل مرة إلى آفاق أوسع من التجريب، ينصهر فيها بمحبة إيقاع الحياة المتغير، ومشاعره المتباينة، على المستوى الشخصي والاجتماعي والسياسي، وربطها بالإشكال والأساليب الفنية المختلفة.
لذلك لا ينسى في هذا المعرض خبرته الطويلة كفنان غرافيك، فيقدم ملمحا آخر لملامسة هذه الأشكال والرسومات، في مجموعة من لوحات الغرافيك الملونة بخامة الزيت، ليؤكد رحابة الشكل الفني، وقدرته على أن يستوعب الكثير من الرؤى والأفكار.
هذا التنوع في الخامة وأسلوب الرسم واللعب الفني أثرى المعرض بصريا وفكريا، فالحكاية لم تعد عالما مفردا قائما بذاته، وإنما أصبحت مادة خصبة للحوار واستدعاء الأحلام والأشواق والذكريات، ليس فقط من عباءة الطفولة والماضي، وإنما من تداعيات اللحظة الحاضرة، إنها عالم لا ينتهي، يتناسل كل يوم في الواقع واللوحة معا، لكن علينا أن ندخله ونتفاعل معه بوسائط بسيطة، لأن جوهره بسيط وفطري أيضا، كما تشي بذلك وتعبر عنه بقوة لوحات المعرض، حيث التنويع المستمر على تيمة الحكاية، كمخزون بصري وإنساني، متعدد الدلالات والإشارات والرموز.
أيضا، يبرز هذا التنوع، حتى على مستوى أحجام اللوحات، هي تتجاور في باقات مجمعة، ينتظمها خيط فني مشترك في إطار معين، ثم يتسع هذا التجاور في لوحات أخرى ذات أحجام متوسطة، أو كبيرة نسبيا، وهنا تطرح اللوحات فكرة التكرار للكثير من العلامات والرموز والشخوص، لكن كقيمة إيجابية، ولتخلق لها حيوات جديدة وزوايا نظر أخرى، دون أن تسقط في الاجترار والتشابه أو التماثل الفني، فالأشياء تتكرر في لوحات المعرض لتحقق نوعا من الاستدامة للحكاية وللرسم نفسه، بروح مغايرة ومعالجة فنية مختلفة.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)