ألمانيا تمنح حصانة للرئيس الفلسطيني وتمنع التحقيق معه أو اعتقاله

على الرغم من قرار شرطة برلين، أمس (الجمعة)، فتح «تحقيق أولي» ضد الرئيس الفلسطيني محمود عباس، بسبب تصريحاته الأخيرة بأن إسرائيل ارتكبت «50 هولوكوستاً (محرقة نازية) ضد الفلسطينيين»، أعلنت وزارة الخارجية الألمانية أن عباس وصل إلى البلاد في زيارة رسمية، بوصفه ممثلاً للسلطة الفلسطينية، «ولذلك فإنه سيتمتع بالحصانة من الملاحقة القضائية. وعملياً لن يجري التحقيق معه».
ومع ذلك، فإن النيران التي أشعلتها جهات إسرائيلية ضد عباس لم تخمد، وتواصل صب الزيت لزيادتها اشتعالاً، وهو الأمر الذي لاقى ردود فعل وانتقادات حتى في إسرائيل، إذ خرج عدد من الكتاب والخبراء بمقالات يحذرون فيها من الهجوم على عباس، ويتساءلون عن الحكمة من ورائه، ويعدونه مساساً بالمصالح الإسرائيلية.
وفي الوقت الذي حاولت فيه أوساط حزبية تحويل الموضوع إلى صراع انتخابي وهاجمت وزير الدفاع، بيني غانتس، بسبب لقاءاته مع أبو مازن «رغم علمه بمواقفه التي تنكر المحرقة»، قال غانتس إن «أقوال رئيس السلطة عباس هي حدث خطير جداً. مجرد إنكار المحرقة، خصوصاً في ألمانيا، هذه أقوال مثيرة للغضب، مهووسة وكاذبة، ولا مكان لها أبداً». لكنه في الوقت ذاته رفض أن يقاطع عباس، وقال: «لقد طلبت من عباس بواسطة مكتبي أن يتراجع عن أقواله، وحسناً أنه فعل ذلك». وأضاف غانتس، خلال مقابلة أجراها معه موقع «واينت» العبري: «مصلحتنا أن نحافظ على التنسيق الأمني. ونحن لا نفعل ذلك مع الأم تريزا، بل مع الناس الموجودين في الساحة. هذه هي طبيعة الأمور. وأعلن أمام الجميع، نحن موجودون هنا، والفلسطينيون هنا أيضاً، وينبغي إقامة علاقات معهم. والتقيت مع أبو مازن، مرة في منزله ومرة في منزلي ومرة في مكتبه برام الله. ولا توجد هنا مسألة صداقة شخصية».
وأضاف غانتس أنه «لا توجد خطة للقاء آخر في الفترة القريبة. وسألتقي مع عباس كلما دعت الحاجة إلى ذلك، من أجل ضمان مصالح دولة إسرائيل. بل إن الحوار مع الفلسطينيين هو مصلحة مشتركة لكلا الجانبين».
وسئل غانتس إن كان لا يزال يرى في عباس «شريكاً لاتفاق سياسي»، فأجاب: «أواجه صعوبة في رؤية اتصالات حول اتفاق دائم وطويل الأمد في الوقت الراهن. وأعتقد أن علينا مواصلة العمل من أجل تقليص الصراع، وربما نصل لاحقاً إلى تسوية دائمة». وأضاف أن دعوة المرشح في حزبه ورئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق، غادي آيزنكوت، إلى الانفصال عن الفلسطينيين، «لا تعني إخلاء مستوطنات، وإنما الحفاظ على الحوار الاستراتيجي. وأنا أتساءل: ما البديل؟ أن تنشأ منظمة راديكالية أكثر من أبو مازن ومن (حماس)؟ هل (الجهاد الإسلامي) أفضل من أبو مازن؟ هل (حماس) أفضل؟ وما الذي نريده لمستقبلنا؟ الدولة الواحدة؟ تريدون أن نصبح هنا أقلية يهودية؟».
من جهة ثانية، أعربت الأمانة العامة لجامعة الدول العربية عن رفضها واستغرابها لما بدا كأنه حملة ألمانية من «التنمر» ضد فلسطين والرئيس أبو مازن. وقال مصدر مسؤول في الجامعة في بيان له أمس (الجمعة)، إن «بعض ردود الفعل الألمانية ذهبت بعيداً، وبشكل غير مسبوق وليس له تبرير مقنع وعقلاني، في شيطنة الفلسطينيين والاستهانة بمعاناتهم الهائلة على مدار عقود، كأن الحقائق صارت تقف على رأسها وانقلبت الضحية إلى جانٍ وتحول الجاني الحقيقي، وهو الاحتلال الإسرائيلي، إلى ضحية».
وأضاف المصدر أنه «من العجيب أن الأطراف المترصدة دوماً بفلسطين، سواء في ألمانيا أو بريطانيا أو غيرهما، لم تلتفت إلى التصريح التوضيحي الصادر عن الرئاسة الفلسطينية في هذا الخصوص، وهو الأمر الذي يلقي بظلال كثيفة من الشكوك حول النوايا السيئة من جانب تلك الأطراف إزاء القضية الفلسطينية ورئيسها ومعاناة شعبها البطل. إن الجامعة العربية تدرك وتتفهم ثقل الإرث التاريخي على الحكومات الألمانية المعاصرة، بالقدر ذاته الذي تتفهم به الحساسية والخصوصية اللتين يتسم بهما مصطلح (الهولوكوست) وما ارتبط به من جرائم بشعة ومدانة. غير أن هذا لا يجب أن يتحول إلى مدخل لتسجيل نقاط سياسية ضد القضية الفلسطينية وقائدها، بما يسهم ليس فقط في طمس المعاناة الفلسطينية اليومية من جرائم الاحتلال، وإنما في تحقيق استفادة لقوة الاحتلال على حساب الشعب الفلسطيني المنكوب».
وكان الرئيس عباس قد توجه إلى ألمانيا في مطلع الأسبوع، في مهمة لإقناع قادتها بأهمية الاعتراف بفلسطين كعضو كامل في الأمم المتحدة. وخلال مؤتمر صحافي مشترك مع المستشار الألماني، أولاف شولتس، وجه إليه صحافي إسرائيلي سؤالاً بدا مطباً سياسياً، عن حدث وقع قبل 50 عاماً: «هل أنت مستعد للاعتذار عن الاعتداء الإرهابي الذي نفذه فلسطينيون من منظمة أيلول الأسود الإرهابية بحق الرياضيين الإسرائيليين في أولمبيادة ميونيخ بألمانيا؟». ورد عباس بغضب قائلاً إن «الفلسطينيين يتعرضون في كل يوم لخمسين مذبحة، لخمسين هولوكوست». وحملت ماكينة الدعاية الإسرائيلية هذا الجواب لتطلق حملة تحريض، ليس عليه فحسب بل أيضاً على شولتس، «الذي لم يتفوه بكلمة رغم أنه غادر القاعة بغضب»، وعلى سائر القيادة الألمانية «التي تقيم علاقات وثيقة مع من ينكر المحرقة». ورد الألمان بحملة دفاع عن النفس، وفي الوقت نفسه تراجع عباس بنفسه عن التصريح، قائلاً إنه لا ينكر المحرقة، إنما يعدها أفظع الجرائم في التاريخ الحديث. وأكد أنه «لم يكن المقصود في إجابته إنكار خصوصية الهولوكوست، التي ارتكبت في القرن الماضي، فهي مدانة بأشد العبارات». وأوضح أن «المقصود بالجرائم التي تحدث عنها هي المجازر التي ارتكبت بحق الشعب الفلسطيني منذ النكبة على أيدي القوات الإسرائيلية، وهي جرائم لم تتوقف حتى يومنا هذا».
وعند عودة عباس إلى فلسطين تم استقباله بحرارة من مجموعة من مؤيديه، لكن سُمعت في الشارع الفلسطيني أيضاً انتقادات له ولمستشاريه. وقال مصدر في قيادة منظمة التحرير: «لو كان لدى الأخ محمود عباس مستشارون مهنيون لكانوا قرأوا الخريطة السياسية في ألمانيا جيداً قبل الزيارة ونصحوه بألا يسافر في هذا الوقت بالذات، وإن سافر فليستعد للزيارة جيداً ويتوقع مطبات إسرائيلية هناك».