الصراع الأميركي الصيني على العمق المائي ينتظر لقاء الرئيسين

الرئيسان الصيني شي جينبينغ والأميركي جو بايدن (أ.ف.ب)
الرئيسان الصيني شي جينبينغ والأميركي جو بايدن (أ.ف.ب)
TT

الصراع الأميركي الصيني على العمق المائي ينتظر لقاء الرئيسين

الرئيسان الصيني شي جينبينغ والأميركي جو بايدن (أ.ف.ب)
الرئيسان الصيني شي جينبينغ والأميركي جو بايدن (أ.ف.ب)

كان بإمكان الرئيس الصيني شي جينبينغ وآلته الحزبية الحاكمة التغاضي عن زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي لتايوان وتركها تمر مرور الكرام بدل جعلها مسألة «خطيرة» تستدعي كلاماً عالي النبرة ومناورات حربية كبيرة وتحديات عسكرية مع القطع البحرية الأميركية الموجودة في المنطقة، ناهيك بهجمات إلكترونية طالت مؤسسات رسمية تايوانية. إلا أنه آثر الوقوف بحزم ضد الزيارة لأسباب جوهرية، أهمها على الإطلاق أن يثبت صلابة التوجه والتمسك بسياسة الصين الواحدة وكون تايوان جزءاً لا يتجزأ من الوطن الأم، عشية المؤتمر العام للحزب الشيوعي، وفي ظل الحرب في أوكرانيا التي تنطوي على إعادة رسم للحدود الاستراتيجية وخطوط النفوذ...
كان أداء الاقتصاد الصيني المذهل على مدى سنوات طويلة الورقة الرابحة للحزب الشيوعي ولرئيس البلاد تحديداً، أما الآن وقد تراجع هذا الأداء بسبب جائحة كورونا واعتلال الاقتصاد العالمي عموماً، فلا بد من جرعة «قومية» بين الحين والآخر لاستثارة مشاعر «الجماهير» وتثبيت شرعية السلطة.
لا تتوقف الأمور عند هذا الحد، بل هي أعمق حتماً وتتصل بالجغرافيا السياسية والمصالح الاقتصادية المصيرية...
*القوّة مصدر ضعف؟
تتمثل مشكلة الصين الجغرافية في أنها القوة التصديرية الأولى في العالم (2.7 تريليون دولار عام 2022)، وبالتالي من الحيويّ لها أن تملك القدرة على الوصول إلى المحيط الهادئ والمياه المجاورة. وفي المقابل، تنظر الولايات المتحدة إلى وصول الصينيين بحرية إلى المحيط الهادئ على أنه تهديد محتمل لعمقها الاستراتيجي، وهو أمر أساسي لواشنطن منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وعلى امتداد سنوات الحرب الباردة وما بعدها.
تكفي نظرة إلى الخريطة لكي نرى أن وصول الصين إلى المحيط الهادئ تعترضه سلسلة من الجزر: اليابان وتايوان والفلبين وإندونيسيا. وهذه الدول (إذا اعتبرنا تايوان دولة) حليفة للقوى المجاورة ومنها أستراليا والهند وفيتنام. وإذا لم تكن كل هذه الدول والقوى حليفة للولايات المتحدة، فإنها تشترك حتماً معها في معارضة التوسع النفوذ البحري الصيني.

مدمّرة أميركية في مضيق تايوان (رويترز)
بتعبير آخر، تريد الصين الدفاع عن عمقها الاستراتيجي من خلال السيطرة عليه، فيما تريد الولايات المتحدة الدفاع عن عمقها الاستراتيجي بكل الوسائل الممكنة. أما القوى الإقليمية فتخشى التنين الصيني من جهة، وأي صدام عسكري بين الأميركيين والصينيين من جهة أخرى لأنه سيمتد إليها حتماً.
انطلاقاً من هذا الواقع، نرى أن الصين تبحث عن حل استراتيجي مع تجنب الضرر الاقتصادي الذي قد يرتّبه مزيد من التوسع. ومشكلتها الأساسية في هذا المسعى هي الولايات المتحدة، خصوصاً أن الأخيرة هي «زبونها» الأكبر واستوردت منها سلعاً بقيمة 577 مليار دولار عام 2021، على سبيل المثال. والصين هنا لا تشبه روسيا، فهذه اجتازت عتبة استراتيجية كبيرة عندما أرسلت جيشها إلى أوكرانيا في 24 فبراير (شباط) الماضي، فقدّمت مصحلتها الأمنية ومداها الحيوي الجغرافي على مصالحها الاقتصادية، وطفقت تبحث – بنجاح مقبول - عن أسواق بديلة لغازها ونفطها تعويضاً عن الأسواق التي قاطعتها أو التي أُقفلت في وجهها.
الصين لا تستطيع القيام بذلك، فإذا كان التاجر الصغير لا يستطيع معاداة سكان الحيّ، لا شك في أن التاجر العالمي لا يستطيع إثارة ريبة الدول التي تشتري منتجاته وتمدّه بوسائل التنمية التي يحتاج إليها مليار و400 مليون صيني.
هذا هو المأزق الذي على شي جينبينغ التعامل معه، ليبقى الزعيم الذي حقق الازدهار الاقتصادي وفي الوقت نفسه الرئيس الذي لا يقبل المساس بالسيادة في مسألة تايوان أو قمع الطموحات «المشروعة» لبلاده في التمدد عبر جسور العلاقات التجارية.

*المأزق أميركي أيضاً
ليست الصين وحدها في مأزق، فالولايات المتحدة بدورها تتعامل مع مسألة تحتاج إلى توازنات دقيقة جداً. ولا ننسى أن الأميركيين يستوردون سلعاً كثيرة من الصين، ويصدّرون إليها أيضاً وإن يكن الميزان التجاري بين الطرفين يميل بفرق شاسع لمصلحة العملاق الأصفر. يضاف إلى ذلك، أن الصين تملك سندات خزينة أميركية بأكثر من تريليون دولار، واستثمارات مباشرة في الأسواق الأميركية تفوق 38 مليار دولار.
أمامنا طرفان يحتاج أحدهما إلى الآخر اقتصادياً، بل يحتاج العالم كله إلى تعاونهما. ونتذكر هنا أن الرئيس السابق دونالد ترمب قال كلاماً معسولاً كثيراً عن شي جينبينغ وإمكان التعاون بينهما، لكن ذلك لم يترجَم عملياً. واستمرت إدارة جو بايدن على المنهاج نفسه في التعامل التجاري المتشدد مع بكين، لكن مع حذف كلام التودد من قاموس العلاقة.
مقاتلة أميركة الصنع من طراز «إف 16» في قاعدة جوية تايوانية (أ.ف.ب)
لا تستطيع واشنطن، من وجهة النظر الأميركية، التهاون في تأمين العمق الاستراتيجي في منطقة آسيا – المحيط الهادئ. وهو درس تعلمته بألم يوم الهجوم الياباني على بيرل هاربور. وهنا يمكن عقد مقارنة بين هذا الواقع والمشهد الأوروبي الحالي، فالولايات المتحدة تغدق المال والسلاح على أوكرانيا لضمان صمودها في وجه الهجوم الروسي، لأن انهيار أوكرانيا يعني عودة القوات الروسية إلى تخوم أوروبا الغربية وأوروبا الشرقية التي بدّلت الولاء، للمرة الأولى منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، وأمر كهذا يُعتبر نكسة كبيرة للأميركيين، ومغيّراً لديناميكيات اللعبة على رقعة الشطرنج العالمية...
من المقرر أن يلتقي جو بايدن وشي جينبينغ منتصف نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل خلال جولة للأول في جنوب شرق آسيا، علماً أن مكان اللقاء لم يحدَّد بعد (ربما تايوان أو أندونسيا). وستكون مسألة تايوان العنوان الظاهر للبحث، لكن البنود الشائكة أكثر بكثير، من الطموحات الأمنية الصينية في جزر سليمان، إلى الاتفاق الأمني الأميركي – البريطاني – الأسترالي (أوكوس)، إلى حرية الملاحة في بحر الصين الجنوبي والمحيط الهادئ وسوى ذلك...
الاقتصاد العالمي مرهق، والحرب في أوروبا تقض المضاجع، والعالم لم يتعافَ كلياً من آثار الجائحة... فهل يملك الجانبان الأميركي والصين ما يكفي من العقلانية والبراغماتية لحل الخلافات بحيث تُحفَظ المصالح من دون صدامات؟
ما يبعث على شيء من الأمل – أقلّه في الوقت الحالي – أن جهود الصين لتعزيز قوتها الاقتصادية والعسكرية تتعلق بتقليل نقاط ضعفها أكثر من كونها تهدف إلى تحقيق التفوق على الولايات المتحدة.


مقالات ذات صلة

بايدن يستضيف رئيس الفلبين لمواجهة تصاعد التوترات مع الصين

الولايات المتحدة​ بايدن يستضيف رئيس الفلبين لمواجهة تصاعد التوترات مع الصين

بايدن يستضيف رئيس الفلبين لمواجهة تصاعد التوترات مع الصين

في تحول كبير نحو تعزيز العلاقات الأميركية - الفلبينية، يستضيف الرئيس الأميركي جو بايدن، الرئيس الفلبيني فرديناند ماركوس جونيور، في البيت الأبيض مساء الاثنين، في بداية أسبوع من اللقاءات رفيعة المستوى، تمثل تحولاً في العلاقة بين البلدين التي ظلت في حالة من الجمود لفترة طويلة. زيارة ماركوس لواشنطن التي تمتد 4 أيام، هي الأولى لرئيس فلبيني منذ أكثر من 10 سنوات.

هبة القدسي (واشنطن)
العالم الحرب الباردة بين أميركا والصين... هل تتغيّر حرارتها؟

الحرب الباردة بين أميركا والصين... هل تتغيّر حرارتها؟

من التداعيات المباشرة والأساسية للحرب في أوكرانيا عودة أجواء الحرب الباردة وبروز العقلية «التناحرية» التي تسود حالياً العلاقة بين الولايات المتحدة والصين. ومع كل ما يجري في العالم، نلمح الكثير من الشرارات المحتملة التي قد تؤدي إلى صدام بين القوتين الكبريين اللتين تتسابقان على احتلال المركز الأول وقيادة سفينة الكوكب في العقود المقبلة... كان لافتاً جداً ما قالته قبل أيام وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين وشكّل انعطافة كبيرة في مقاربة علاقات واشنطن مع بكين، من حيّز المصالح الاقتصادية الأميركية إلى حيّز الأمن القومي.

أنطوان الحاج
الاقتصاد الشركات الأميركية في الصين  تخشى مزيداً من تدهور علاقات البلدين

الشركات الأميركية في الصين تخشى مزيداً من تدهور علاقات البلدين

تخشى الشركات الأميركية في الصين بشكل متزايد من مزيد من التدهور في العلاقات بين البلدين، وفقاً لدراسة استقصائية أجرتها غرفة التجارة الأميركية في الصين. وأعرب 87 في المائة من المشاركين في الدراسة عن تشاؤمهم بشأن توقعات العلاقة بين أكبر الاقتصادات في العالم، مقارنة بنسبة 73 في المائة في استطلاع ثقة الأعمال الأخير. ويفكر ما يقرب من ربع هؤلاء الأشخاص، أو بدأوا بالفعل، في نقل سلاسل التوريد الخاصة بهم إلى دول أخرى.

«الشرق الأوسط» (بكين)
الاقتصاد دعوات أميركية للحد من اعتماد الدول الغنية على السلع الصينية

دعوات أميركية للحد من اعتماد الدول الغنية على السلع الصينية

من المتوقع أن يبحث قادة مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى في قمتهم المقررة باليابان الشهر المقبل، الاتفاق على تحديد رد على التنمر الاقتصادي من جانب الصين.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
الاقتصاد الصين تنتقد «الإكراه الاقتصادي» الأميركي

الصين تنتقد «الإكراه الاقتصادي» الأميركي

انتقدت بكين الجمعة، عزم واشنطن فرض قيود جديدة على استثمارات الشركات الأميركية في نظيرتها الصينية، معتبرة أن خطوة كهذه هي أقرب ما يكون إلى «إكراه اقتصادي فاضح وتنمّر تكنولوجي». وتدرس إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، برنامجاً لتقييد استثمارات خارجية أميركية، بما يشمل بعض التقنيات الحسّاسة التي قد تكون لها آثار على الأمن القومي. وتعاني طموحات الصين التكنولوجية أساساً من قيود تفرضها الولايات المتحدة ودول حليفة لها، ما دفع السلطات الصينية إلى إيلاء أهمية للجهود الرامية للاستغناء عن الاستيراد في قطاعات محورية مثل أشباه الموصلات. وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية وانغ ونبين، إن «الولايات المتحد

«الشرق الأوسط» (بكين)

فريق ترمب يريد الوصول إلى «ترتيب» بين روسيا وأوكرانيا من الآن

عناصر من خدمة الطوارئ الأوكرانية تخمد حريقاً شب في مبنى نتيجة قصف روسي على دنبيرو (خدمة الطوارئ الأوكرانية - أ.ب)
عناصر من خدمة الطوارئ الأوكرانية تخمد حريقاً شب في مبنى نتيجة قصف روسي على دنبيرو (خدمة الطوارئ الأوكرانية - أ.ب)
TT

فريق ترمب يريد الوصول إلى «ترتيب» بين روسيا وأوكرانيا من الآن

عناصر من خدمة الطوارئ الأوكرانية تخمد حريقاً شب في مبنى نتيجة قصف روسي على دنبيرو (خدمة الطوارئ الأوكرانية - أ.ب)
عناصر من خدمة الطوارئ الأوكرانية تخمد حريقاً شب في مبنى نتيجة قصف روسي على دنبيرو (خدمة الطوارئ الأوكرانية - أ.ب)

أعلن مايك والتز، المستشار المقبل لشؤون الأمن القومي الأميركي، في مقابلة تلفزيونية، الأحد، أن فريق الرئيس المنتخب دونالد ترمب يريد العمل منذ الآن مع إدارة الرئيس المنتهية ولايته جو بايدن، للتوصل إلى «ترتيب» بين أوكرانيا وروسيا، مبدياً قلقه بشأن «التصعيد» الراهن.

ومنذ فوز الملياردير الجمهوري في الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني)، يخشى الأوروبيون أن تقلّص الولايات المتّحدة دعمها لأوكرانيا في هذا النزاع، أو حتى أن تضغط عليها لتقبل باتفاق مع روسيا يكون على حسابها.

واختار الرئيس المنتخب الذي سيتولّى مهامه في 20 يناير (كانون الثاني)، كل أعضاء حكومته المقبلة الذين لا يزال يتعيّن عليهم الحصول على موافقة مجلس الشيوخ.

وفي مقابلة أجرتها معه، الأحد، شبكة «فوكس نيوز»، قال والتز إنّ «الرئيس ترمب كان واضحاً جداً بشأن ضرورة إنهاء هذا النزاع. ما نحتاج إلى مناقشته هو مَن سيجلس إلى الطاولة، وما إذا كان ما سيتمّ التوصل إليه هو اتفاق أم هدنة، وكيفية إحضار الطرفين إلى الطاولة، وما الذي سيكون عليه الإطار للتوصل إلى ترتيب».

وأضاف، وفقاً لـ«وكالة الصحافة الفرنسية» أنّ «هذا ما سنعمل عليه مع هذه الإدارة حتى يناير، وما سنواصل العمل عليه بعد ذلك».

وأوضح والتز أنّه «بالنسبة إلى خصومنا الذين يعتقدون أنّ هذه فرصة لتأليب إدارة ضد أخرى، فهم مخطئون»، مؤكّداً في الوقت نفسه أن فريق الإدارة المقبلة «قلق» بشأن «التصعيد» الراهن للنزاع بين روسيا وأوكرانيا.

وفي الأيام الأخيرة، صدر عن مقرّبين من الرئيس المنتخب تنديد شديد بقرار بايدن السماح لأوكرانيا بضرب عمق الأراضي الروسية بصواريخ بعيدة المدى أميركية الصنع.

وخلال حملته الانتخابية، طرح ترمب أسئلة كثيرة حول جدوى المبالغ الهائلة التي أنفقتها إدارة بايدن على دعم أوكرانيا منذ بداية الغزو الروسي لهذا البلد في 2022.

ووعد الملياردير الجمهوري مراراً بإنهاء هذه الحرب بسرعة، لكن من دون أن يوضح كيف سيفعل ذلك.

وبشأن ما يتعلق بالشرق الأوسط، دعا المستشار المقبل لشؤون الأمن القومي للتوصّل أيضاً إلى «ترتيب يجلب الاستقرار».

وسيشكّل والتز مع ماركو روبيو، الذي عيّنه ترمب وزيراً للخارجية، ثنائياً من الصقور في الإدارة المقبلة، بحسب ما يقول مراقبون.

وكان ترمب وصف والتز، النائب عن ولاية فلوريدا والعسكري السابق في قوات النخبة، بأنه «خبير في التهديدات التي تشكلها الصين وروسيا وإيران والإرهاب العالمي».