تختلط أضواء المسرح ونغم البيانو بالكلام الخارج من حنجرة بديع أبو شقرا وهو يدلي بـ«اعترافات بيتهوفن» على خشبة «مونو». تتكامل المعاناة الصاعدة من الاعترافات مع العزف الناطق بها، بأنامل الفرنسي نيكولا شُفرو، حدّ التصاق النصّ بالنوتة، كأنهما خليطُ الخلود والأسى ولا سبيل لسلخ أحدهما عن الآخر. لنحو الساعة ونصف الساعة، تتجلّى عبقرية لودفيغ فان بيتهوفن بالتحمُّل والألم.
النصّ فرنسي للكاتب اللبناني الفرنكوفوني ألكسندر نجار، نقله الشاعر هنري زغيب إلى العربية بلغة تحذر السقوط في ميكانيكية الترجمة وتأبى تجويف روحها. تمرّ فصول من حياة طافحة بالندوب، عاشها عازف البيانو الألماني بيتهوفن (1770- 1827)، فخلّدته إلى الأبد. بصوت أبو شقرا المتماهي مع المعاناة، تخرج إلى المسرح اللبناني أبرز محطات صاحب السوناتات المذهلة، لتؤكد أنّ للعبقرية أثماناً باهظة.
العرض سبعة فصول، يقرأها الممثل اللبناني بانفعالات تعلو وتهدأ وفق حدّة السطور أمامه. تُعرّي الاعترافات موسيقياً لا يريد أن يكون سوى إنسان عادي. حياة جارفة، مرتطمة بصخور قاسية، مُشلّعة؛ شاء التصدّي لها فتصدّت له. أخرجت منه سلوكيات مُخجلة يعترف أنها لا تصلح للنشر. وهو بهذا النصّ لا يطلب مغفرة وإن أخفى المجد انحرافاته، بل يدلي بمصارحة ليُخفف العبء الأكبر.
إنه عبء الصراع بين التفوّق العبقري والضرر. في حياته، تلازما كأم تمسك بيد ابنها طوال درب طويل لئلا يُباغته طارئ. «سبّبتُ الضرر لأكثر من ضحية وكبش محرقة. ارتكبتُ أخطاء قاتلة»، يصرخ أبو شقرا كمن يُسقط عن صدره أثقاله.
يعود ألكسندر نجار إلى الجذور متسائلاً على لسان قارئ اعترافات بيتهوفن: «هل أنا ضحية طفولتي التعسة؟ هل قدري العذاب لأؤلّف موسيقاي؟». يشعر مؤلّف 16 مقطوعة رباعية وتريّة باقتراب نهايته، فيلاحق الصفح باتجاهين: أولاً تجاه ذاته، وثانياً تجاه مُتحمّلي فداحة ارتكاباته، منهم أرملة أخيه وابنها. «قلبي ليس من صوان»، يقول، مشعلاً رغبةَ أن يغمره السماح ويغسل قلبه الممتلئ بالضربات القاضية.
بين فصل وآخر، يعزف نيكولا شُفرو مقطوعات تجسّد النار في داخل بيتهوفن. عزفٌ ينبثق من المخاض، من الصراخ، من الشقاء والرفض والصفعة والخيبة. لم تربط مَن سُمّي على اسم جدّه، بوالده، علاقةٌ طيّبة، بل ما يطفح بالخشونة في العلاقات، وبالتشرذم والمرض. على عكس أمه «المُسالمة المُحبّة، تحمّلتْ أبي بصبر»، حسد العبقري الألماني عبقريَّ النمسا موزارت على أب بمرتبة «معلّم نموذجي، أتاح له تنمية موهبته». أبوه حفر جراحه العميقة فهوى في قعرها طوال حياته.
بالشتيمة والصفع على أقل خطأ في النوتة، تغذّى الشرخ بين أب قرّر ألا فائدة من ارتياد ابنه المدرسة، وابن لوّعته معاملة أبٍ أخَّر تاريخ ميلاده سنتين ليوهم الناس زوراً أنّ لديه ولداً متفرّداً. موته بنوبة قلبية، لم يُنجّه من تهكّم حاضري الدفن، وردّاً عليهم يعتزم المواجهة: «لأنّ اسم أبي يثير التهكّم، سأنتقم برفع اسم بيتهوفن إلى الصف الأول في تاريخ الموسيقى».
يُبدّل بديع أبو شقرا كرسيّه، وأنامل العازف الفرنسي تُطرب على البيانو. إنه أقسى الفصول؛ مأساة بيتهوفن مع الصمّ! سنة بعد سنة، يئس من تحسّن سمعه، ليميل إلى العزلة والانطواء. كان في السابعة والعشرين حين فقد السمع، فتعكّر مزاجه وزاد سلوكه حدّة. صممُه فجيعتُه، فشعر الموسيقي الذي يصفّق له الجمهور من وراء ظهره ولا يسمعه، بأنّ حاسة السمع تسلّلت منه وخنقته، لتتقهقر حياته على نحو دراماتيكي.
مرّة أخرى، يُعاند: «سأواصل التأليف طالما أسمعه في داخلي. سأجعل الموسيقى أفقي اللامحدود»، ويُضاعف مؤلّفاته، «فقد كان عليَّ أن أجني حصاداً معنوياً من عاهتي لأكون جديراً بمغفرة الله».
في الحب، ليست الأمور أفضل حالاً! عاش بيتهوفن حياة عاطفية هدّدتها الخلافات، وبكل بساطة يعترف: «مغامراتي كلها انتهت بالفشل». كان ردّد أنّ الحب يمنح السعادة وتضرّع ليجد حبيبة. مراراً، أخذ عليه أصدقاؤه التورّط بعلاقات صعبة لتجنُّب الارتباط. «مخطئون!». حاول فعلاً الزواج، فنال رفضاً بحجّة أنه بشع ونصف مجنون، أو لفوارق الطبقات الاجتماعية ومزاجه الصعب. إخفاق وخيبات، «وكما استقلتُ من صحتي، كذلك استقلتُ من الحب».
بيتهوفن تحت مجهر ألكسندر نجار بالفرنسية ومواطنه هنري زغيب بالعربية، يتوصّل إلى عبرة: «لا عزاء سوى الموسيقى، وحده الفن خلاصي». أنقذته من الانتحار لتصبح أصدق رفيقاته والأسمى على الإطلاق.
يتابع أبو شقرا قراءة الفصول، فيحطّ عند «بيتهوفن والسياسة». أيضاً، القاعدة واحدة: التقلُّب. اعترف بأنّ نابليون بونابرت أبهره حين لمح فيه رمز عصر الأنوار والثورة الفرنسية، ثم خذله لتسبّبه بموت مئات الآلاف وهو ينصّب نفسه إمبراطوراً. «أحسستُني مغشوشاً (...)، هو ليس سوى رجل عادي كسواه، يحرّكه التكبّر، قادر على قمع الحرّيات والتحوّل طاغية».
تُكمل الأمسية استخراج الجروح البليغة في اعترافات مَن رأى أنّ «نغماً من آلة موسيقية يرتفع، يرفعنا معه أعلى بكثير من حماقات البشر». محطة أبو شقرا قبل الختام في الفصل المضطرب عاطفياً بين بيتهوفن وابن أخيه. «مارستُ معه امتلاكية مرضية ضاغطة»، يعترف. أراده مبدعاً موسيقياً بالقوة وحرمه من أمه بعد محاكمة فَبْرك أدلّتها امتدّت لسنوات، إلى أن هرب من بيته وحاول الانتحار.
اسمه كارل، «قليل التهذيب، كثير المعاشرة السيئة»، يرفض السير بجانب عمه بذريعة مظهره المجنون. «أمسيتُ أسوأ لكثرة ما أرادني أفضل»، يقول. محاولة انتحاره وصمة على ضمير بيتهوفن، فحرّره. لم يعد يريده مبدعاً يرفض أن يكونه.
ليس ثمة سوى بيتهوفن واحد ترك موسيقى للخلود. لم يتزوّج، فكانت مؤلّفاته أولاده. لم يفهمه والده وهجرته نساؤه؛ وعزاؤه أنّ هذه المؤلّفات منحته حباً. يقف بديع أبو شقرا بعدما قرأ كل الاعترافات جالساً: «لست إنساناً متفوّقاً بل عادي، وحده تسامحكم يكفيني». تصفيق حارّ لصلابة المواجهة.
«اعترافات بيتهوفن»... للعبقرية أثمان باهظة
«اعترافات بيتهوفن»... للعبقرية أثمان باهظة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة