هل الجينات سبب أساسي لتجنب عدوى فيروس كورونا؟

العلماء يدققون في احتمالات وجود مقاومة فطرية للوباء

هل الجينات سبب أساسي لتجنب عدوى فيروس كورونا؟
TT

هل الجينات سبب أساسي لتجنب عدوى فيروس كورونا؟

هل الجينات سبب أساسي لتجنب عدوى فيروس كورونا؟

استباح متحوّر «أوميكرون» بداية السنة الجديدة جميع أنحاء الولايات المتّحدة، فوجدت ماري كارينغتون نفسها ومن دون علمها في مناسبة ذات نسبة انتشار عالية – حفلة في مكانٍ مقفل يحضرها أكثر من 20 شخصًا، انتهت بنقلِ واحدٍ من مدعوّيها على الأقل للفيروس إلى معظم الضيوف المجتمعين.
وبعد عامين من تجنّبها الإصابة بفيروس الكورونا، شعرت كارينغتون أنّ دورها في الإصابة قد حان، إلّا أنّها لم تلتقط الفيروس وشعرت «أنّها شديدة المقاومة لهذا المرض». عندها، لم تفكّر أنّ الحصانة المناعية ناتجة عن عدّة جرعات من اللقاح المضاد للفيروس، بل قدّرت أنّ طرد الجرثومة يعود لنوعٍ من المراوغة الوراثية الفطرية التي أتاحت لخلاياها إبعاد مسبّب المرض بطريقة طبيعية.
فهمت كارينغتون ما الذي قد يعنيه هذا الأمر لأنّها كخبيرة في علم الوراثة المناعي في المعهد الوطني للسرطان، كانت واحدة من علماء عدّة ساعدوا في بداية التسعينيات في كشف طفرة تمنع معظم سلالات فيروس نقص المناعة المكتسب من اختراق الخلايا البشرية، ما يجعل بعض الأشخاص عصيّين على تأثيرات مسبّب هذا المرض. ولعلّ شيئًا مماثلًا قد يقف خلف حماية تتمتّع بها قلّة من الأشخاص ضدّ فيروس «سارس-كوف-2».

فكرة خادعة
ولكنّ فكرة مقاومة الانسان للفيروسات التّاجية خادعة لدرجة أنّ العلماء يستكشفون اليوم جينومات أشخاص من جميع أنحاء العالم لرصد أيّ إشارة على وجود مثل هذه المقاومة. وإذا تبيّن أنّها موجودة فعلًا، فسيتمكّنون من استخدام هذه المعرفة لتحديد الناس الأكثر تأثّرًا بالفيروس، أو استغلالها لتطوير أدوية أقوى لعلاج وترويض فيروسات الكوفيد. أمّا بالنسبة للأشخاص الذين لم يصابوا بالفيروس بعد – أي الشريحة الآخذة في التضاؤل من البشر – تبقى المقاومة «قوّة خارقة» يعتقد النّاس واهمين بأنّهم يملكونها، بحسب باولا كانون، عالمة الوراثة المناعية والفيروسات في جامعة جنوب كاليفورنيا.
من جهتها، ترجّح هيلين سو، عالمة المناعة في المركز الوطني للحساسية والأمراض المعدية، أنّ هذه المقاومة الحميدة لعدوى «سارس-كوف-2» نادرة جدًا، شأنها شأن أيّ قوّة خارقة أخرى، خصوصًا أن حدس كارينغتون كان خاطئًا، لأنّ كارينغتون نفسها عادت أخيرًا من رحلة إلى سويسرا ووجدت أنّها مصابة بالفيروس.
وكما الكثير من النّاس الذين بقوا آمنين حتّى وقتٍ ليس ببعيد، كانت كارينغتون قد أمضت السنتين والنصف الماضيتين في تطبيق إجراءات احترازية كاللقاحات والسلوك الحذر إلى جانب الحظّ طبعًا، ما يعني أنّ المقاومة الفطرية لفيروس الكورونا لم تكن موجودة ربّما، أو أنها كانت موجودة ولكن بمجهود عال.

مقاومة فطرية
يعرف جان لوران كازانوفا، عالم جينات ومناعة في جامعة روكفلر، ثلاثة فقط من أصل ألف وأربعمائة فيروس وبكتيريا وكائنٍ طفيلي وفطري مسبّبة للأمراض يمكن طردها من الجسم بطفرات جينية نادرة هي فيروس نقص المناعة المكتسب، والنوروفيروس، والملاريا.
ولعلّ الطفرة الصادّة لفيروس نقص المناعة هي الأشهر بينها. بدأ عددٌ من العلماء من بينهم كارينغتون قبل حوالى ثلاثة عقود، بالبحث عن عددٍ صغير من الأشخاص الذين «كانوا شبه أكيدين أنّهم تعرّضوا لفيروس نقص المناعة عدّة مرّات وأنّهم أصيبوا فعلًا بالمرض ولكنّهم لم يكونوا كذلك». تبيّن لاحقّا أنّ «قوّتهم الخارقة» كانت بسيطة: كانت أجسامهم تخلو من نسخات فعّالة من جين «CCR5» المسؤول عن إنتاج بروتين يلفّ سطح الخليّة يحتاجه فيروس نقص المناعة المكتسب لاختراق الخلايا التّائية، وهي الفريسة المفضّلة للفيروسات لدى البشر. ووجد الباحثون أن 1 في المائة فقط من البشر يتحدّرون من أصولٍ أوروبية يملكون هذه الطفرة المسمّاة «CCR5-delta 32» بنسختين، وأنّ الطفرة أكثر ندرةً لدى الأعراق الأخرى. ومع ذلك، استغلّ الباحثون الاكتشاف لتطوير أدوية قويّة مضادّة للفيروسات وقضوا على الفيروس لدى أشخاص مصابين بمساعدة زراعات تعتمد على طفرة «delta32» في النخاع الشوكي، ليكون هذا الدواء الأقرب إلى تطوير عقار يشفي من فيروس نقص المناعة المكتسب.
تتشابه القصّة مع الفيروسين الآخرين. فقد حوّلت الأخطاء الجينية في جين «FUT2» الذي يغلّف خلايا الأمعاء بالسكريات، بعض الأشخاص إلى مقاومين للنوروفيروس norovirus. وفي السياق نفسه، يمحي الاختلال الجيني بروتينًا اسمه «دافي» Duffy من جدران خلايا الدمّ الحمراء، مانعًا بذلك المتصورة النشيطة (بلاسموديوم فيفاكس)، واحدة من طفيليات عدّة تسبّب مرض الملاريا، من الدخول إلى الخلايا. تشيع طفرة «دافي» التي تؤثّر على جينة اسمها «DARC/ACKR1» في جنوب الصحراء الأفريقية الكبرى التي نجحت نسبيًا في تخفيض معدلات عدوى المتصورة النشيطة.

في السنوات الأخيرة، ومع تقدّم التقنيات الجينية، بدأ الباحثون بالتحقيق في المزيد من الطفرات المقاومة لعدوى مسبّبات مرض أخرى كفيروس التهاب الكبد «بي» hepatitis B virus والفيروس العجلي rotavirus. ولكنّ روابط هذه الطفرات بالمرض صعبة الرصد نظرًا للأعداد الكبرى من المشاركين التي تتطلّبها هذه الدراسات، وصعوبة تحديد ورصد العدوى في الأساس، الأمر الذي قد ينطبق على فيروس «سارس-كوفيد-2».
يتواصل كازانوفا وفريق دولي من الباحثين المشاركين منذ أشهر مع آلاف الأشخاص حول العالم الذين يعتقدون أنّهم يتمتّعون بمقاومة جينية لفيروس الكورونا. تعرّض أفضل المشاركين في هذه الدراسة للفيروس بشكلٍ مباشر عبر الاختلاط بشخص يعاني من عوارضه في المنزل، إلّا أنّ فحوصاتهم لمسبّب المرض والاستجابة المناعية كانت تأتي دائمًا سلبية. ولكنّ الانتقال التنفّسي يحصل غالبًا بالصدفة، حيث يستطيع فيروس الكورونا اختراق الأشخاص بصمت دون ترك أثر للأجسام المضادّة. (يعتزم الفريق أيضًا اختبار استجابات الخلايا التائية الأقلّ طفرًا أيضًا).
يميل الأشخاص الذين لا يعانون من أعراض ظاهرة إلى عدم الخضوع للفحص، أو قد لا يخضعون للفحص بالطريقة الصحيحة. وعلاوةً على ذلك، يحمي الجهاز المناعي صاحبه من العدوى لا سيّما في الفترة التي تلي التلقيح أو المرض. في حالة فيروس نقص المناعة المكتسب، هذا الفيروس الذي يسبّب عدوات مزمنة ولا توجد لقاحات لعلاجه، وينتشر عبر طرق واضحة ومحدّدة في الشبكات الاجتماعية الكثيفة، «كان من الأسهل تحديد هؤلاء الأشخاص» الذين زارهم الفيروس دون أن يتجذّر فيهم، بحسب رافيندرا غوبتا، عالمة الفيروسات في جامعة كمبردج. ولكن دراسة «سارس-كوف-2» لن تكون بالسهولة نفسها.
يشبه فيروسا الملاريا والنوروفيروس فيروس نقص المناعة المكتسب ولكنّ القصّة ليست نفسها في حالتهما. تتجلّى المقاومة الفطرية في كثير من الأشكال وتميل غالبًا إلى التولّد من طفرات تشلّ قدرة مسبّب المرض على سلوك طريقه إلى الخلية أو التكاثر داخلها. تعمل طفرات «CCR5»، و«دافي»، والسكريات التي يفرزها «FUT2» مثلًا كشرائح للهبوط الميكروبي تمسك بالفيروسات بإحكام.

جينات مقاومة «كورونا»
في هذه الحالة، إذا تبيّن وجود طفرة موازية لمحاربة فيروس «سارس-كوف-2»، فمن المنطقي أن نعثر عليها في مستقبلات «ACE2» الذي يحتاجه فيروس الكورونا لاختراق الخلايا، أو في «TMPRSS2»، البروتين الذي يشبه المقصّ ويسرّع العملية التدخّلية لبعض المتحوّرات على الأقلّ.
وكان الباحثون قد عثروا في السابق على متحوّرات جينية قادرة على إضعاف وجود مستقبلات «ACE2» في الخلايا أو طرد نسخات من «TMPRSS2»، ما يدلّ على وجود طفرة قادرة على إبعاد جزيئات فيروس كورونا أكثر. ولكنّ مستقبلات «ACE2» مهمّة جدًا لتنظيم ضغط الدم والحفاظ على صحّة أنسجة الرئتين، بحسب الخبيرة سو، واحدة من العلماء الذين عملوا مع كازانوفا للعثور على جينات مقاومة لفيروس «سارس-كوفيد-2».
في المقابل، يمكن لأيّ طفرة قد تبقي فيروس الكورونا في الخارج أن «تعبث بجوانب أخرى من الفيزيولوجيا البشرية»، ما قد يؤدّي إلى طفرة جينية نادرة جدًا ومنهكة، أو كما يصفها غوبتا، «غير مناسبة للحياة». تشير باولا كانون إلى أنّ «الأشخاص الذين يملكون طفرة CCR5-delta32، التي تعطّل فيروس نقص المناعة المكتسب طبيعيون، ما يعني أنّ الفيروس أخفق في اختيار جين CCR5. في المقابل، نجح فيروس الكورونا في معرفة كيفية استغلال شيء حيوي لدى مضيفه في حركة غازية بارعة».
بدأ الباحثون أيضًا بدراسة بعض الاتجاهات المتعلّقة بفيروس الكوفيد. وكان كازانوفا من مستشفى روكفلر، واحدًا من باحثين متعدّدين قادوا جهودًا للكشف عن أهمية جزيئية مناعية أشبه بإنذار على شكل مضاد للفيروس في بداية السيطرة على العدوى. تسير أمور الأشخاص الذين ينتجون كتل البروتين بعد ساعات على التقاط العدوى على ما يُرام في محاربة الفيروس، بينما يواجه أصحاب الاستجابات الضعيفة أو البطيئة خطر المرض الشديد. وينطبق الأمر نفسه على الأشخاص الذين تفبرك أجسامهم أجسامًا مضادّة صعبة التكيّف تهاجم مضادّات الفيروسات أثناء تمريرها للرسائل بين الخلايا. تلعب عوامل أخرى قد تبدّل خطر المرض الشديد للأفضل أو الأسوأ دورًا مهمًا أيضًا وأبرزها قدرة الخلايا على استشعار الفيروس مبكرًا، ومستوى التنسيق بين مختلف فروع الدفاع، والمكابح التي يضعها الجهاز المناعي على نفسه حتّى لا يعرّض خلايا المضيف للخطر.

* مجموعة «ذي اتلانتك مونثلي»
- خدمات «تريبيون ميديا»


مقالات ذات صلة

علماء ينتجون «نموذج جنين بشري» في المختبر

علوم النموذج تم تطويره باستخدام الخلايا الجذعية (أرشيف - رويترز)

علماء ينتجون «نموذج جنين بشري» في المختبر

أنتجت مجموعة من العلماء هيكلاً يشبه إلى حد كبير الجنين البشري، وذلك في المختبر، دون استخدام حيوانات منوية أو بويضات.

«الشرق الأوسط» (لندن)
علوم الهياكل الشبيهة بالأجنة البشرية تم إنشاؤها في المختبر باستخدام الخلايا الجذعية (أرشيف - رويترز)

علماء يطورون «نماذج أجنة بشرية» في المختبر

قال فريق من الباحثين في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة إنهم ابتكروا أول هياكل صناعية في العالم شبيهة بالأجنة البشرية باستخدام الخلايا الجذعية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
علوم علماء يتمكنون من جمع حمض نووي بشري من الهواء والرمال والمياه

علماء يتمكنون من جمع حمض نووي بشري من الهواء والرمال والمياه

تمكنت مجموعة من العلماء من جمع وتحليل الحمض النووي البشري من الهواء في غرفة مزدحمة ومن آثار الأقدام على رمال الشواطئ ومياه المحيطات والأنهار.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
علوم صورة لنموذج يمثل إنسان «نياندرتال» معروضاً في «المتحف الوطني لعصور ما قبل التاريخ» بفرنسا (أ.ف.ب)

دراسة: شكل أنف البشر حالياً تأثر بجينات إنسان «نياندرتال»

أظهرت دراسة جديدة أن شكل أنف الإنسان الحديث قد يكون تأثر جزئياً بالجينات الموروثة من إنسان «نياندرتال».

«الشرق الأوسط» (لندن)
علوم دراسة تطرح نظرية جديدة بشأن كيفية نشأة القارات

دراسة تطرح نظرية جديدة بشأن كيفية نشأة القارات

توصلت دراسة جديدة إلى نظرية جديدة بشأن كيفية نشأة القارات على كوكب الأرض مشيرة إلى أن نظرية «تبلور العقيق المعدني» الشهيرة تعتبر تفسيراً بعيد الاحتمال للغاية.

«الشرق الأوسط» (لندن)

هل يمكن لنظم الذكاء الاصطناعي التكيف مع ثقافات متعددة؟

هل يمكن لنظم الذكاء الاصطناعي التكيف مع ثقافات متعددة؟
TT

هل يمكن لنظم الذكاء الاصطناعي التكيف مع ثقافات متعددة؟

هل يمكن لنظم الذكاء الاصطناعي التكيف مع ثقافات متعددة؟

في سباق محتدم لنشر نماذج اللغات الكبيرة والذكاء الاصطناعي التوليدي في الأسواق العالمية، تفترض العديد من الشركات أن «النموذج الإنجليزي ← المترجم» كافٍ لذلك.

اللغة- ثقافة وأعراف

ولكن إذا كنتَ مسؤولاً تنفيذياً أميركياً تستعد للتوسع في آسيا أو أوروبا أو الشرق الأوسط أو أفريقيا، فقد يكون هذا الافتراض أكبر نقطة ضعف لديك. ففي تلك المناطق، ليست اللغة مجرد تفصيل في التغليف: إنها الثقافة والأعراف والقيم ومنطق العمل، كلها مُدمجة في شيء واحد.

وإذا لم يُبدّل نظام الذكاء الاصطناعي الخاص بك تسلسل رموزه الكمبيوترية فلن يكون أداؤه ضعيفاً فحسب؛ بل قد يُسيء التفسير أو يُسيء المواءمة مع الوضع الجديد أو يُسيء خدمة سوقك الجديدة.

الفجوة بين التعدد اللغوي والثقافي في برامج الدردشة الذكية

لا تزال معظم النماذج الرئيسية مُدربة بشكل أساسي على مجموعات النصوص باللغة الإنجليزية، وهذا يُسبب عيباً مزدوجاً عند نشرها بلغات أخرى. وعلى سبيل المثال، وجدت دراسة أن اللغات غير الإنجليزية والمعقدة لغويا غالباً ما تتطلب رموزاً أكثر (وبالتالي تكلفةً وحساباً) لكل وحدة نصية بمقدار 3-5 أضعاف مقارنةً باللغة الإنجليزية.

ووجدت ورقة بحثية أخرى أن نحو 1.5 مليار شخص يتحدثون لغات منخفضة الموارد يواجهون تكلفة أعلى وأداءً أسوأ عند استخدام نماذج اللغة الإنجليزية السائدة.

والنتيجة: قد يتعثر نموذج يعمل جيداً للمستخدمين الأميركيين، عند عمله في الهند أو الخليج العربي أو جنوب شرق آسيا، ليس لأن مشكلة العمل أصعب، ولكن لأن النظام يفتقر إلى البنية التحتية الثقافية واللغوية اللازمة للتعامل معها.

«ميسترال سابا» نظام الذكاء الاصطناعي الفرنسي مصمم خصيصاً للغات العربية وجنوب آسيا

مثال «ميسترال سابا» الإقليمي جدير بالذكر

لنأخذ نموذج «ميسترال سابا» (Mistral Saba)، الذي أطلقته شركة ميسترال للذكاء الاصطناعي الفرنسية كنموذج مصمم خصيصاً للغات العربية وجنوب آسيا (التاميلية والمالايالامية... إلخ). تشيد «ميسترال» بأن «(سابا) يوفر استجابات أكثر دقة وملاءمة من النماذج التي يبلغ حجمها 5 أضعاف» عند استخدامه في تلك المناطق. لكن أداءه أيضاً أقل من المتوقع في معايير اللغة الإنجليزية.

وهذه هي النقطة المهمة: السياق أهم من الحجم. قد يكون النموذج أصغر حجماً ولكنه أذكى بكثير بالنسبة لمكانه.

بالنسبة لشركة أميركية تدخل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أو سوق جنوب آسيا، هذا يعني أن استراتيجيتك «العالمية» للذكاء الاصطناعي ليست عالمية ما لم تحترم اللغات والمصطلحات واللوائح والسياق المحلي.

تكاليف الرموز والتحيز اللغوي

من منظور الأعمال، تُعدّ التفاصيل التقنية للترميز أمراً بالغ الأهمية. تشير مقالة حديثة إلى أن تكاليف الاستدلال في اللغة الصينية قد تكون ضعف تكلفة اللغة الإنجليزية، بينما بالنسبة للغات مثل الشان أو البورمية، يمكن أن يصل تضخم عدد الرموز إلى 15 ضعفاً.

هذا يعني أنه إذا استخدم نموذجك ترميزاً قائماً على اللغة الإنجليزية ونشرتَه في أسواق غير إنجليزية، فإن تكلفة الاستخدام سترتفع بشكل كبير، أو تنخفض الجودة بسبب تقليل الرموز. ولأن مجموعة التدريب الخاصة بك كانت تركز بشكل كبير على اللغة الإنجليزية، فقد يفتقر «نموذجك الأساسي» إلى العمق الدلالي في لغات أخرى.

أضف إلى هذا المزيج اختلافات الثقافة والمعايير: النبرة، والمراجع، وممارسات العمل، والافتراضات الثقافية، وما إلى ذلك، وستصل إلى مجموعة تنافسية مختلفة تماماً: ليس «هل كنا دقيقين» بل «هل كنا ملائمين».

التوسع في الخارج

لماذا يهم هذا الأمر المديرين التنفيذيين الذين يتوسعون في الخارج؟

إذا كنت تقود شركة أميركية أو توسّع نطاق شركة ناشئة في الأسواق الدولية، فإليك ثلاثة آثار:

-اختيار النموذج ليس حلاً واحداً يناسب الجميع: قد تحتاج إلى نموذج إقليمي أو طبقة ضبط دقيقة متخصصة، وليس فقط أكبر نموذج إنجليزي يمكنك ترخيصه.

-يختلف هيكل التكلفة باختلاف اللغة والمنطقة: فتضخم الرموز وعدم كفاءة الترميز يعنيان أن تكلفة الوحدة في الأسواق غير الإنجليزية ستكون أعلى على الأرجح، ما لم تخطط لذلك.

-مخاطر العلامة التجارية وتجربة المستخدم ثقافية: فبرنامج الدردشة الآلي الذي يسيء فهم السياق المحلي الأساسي (مثل التقويم الديني، والمصطلحات المحلية، والمعايير التنظيمية) سيُضعف الثقة بشكل أسرع من الاستجابة البطيئة.

بناء استراتيجية ذكاء اصطناعي متعددة اللغات واعية ثقافياً

للمديرين التنفيذيين الجاهزين للبيع والخدمة والعمل في الأسواق العالمية، إليكم خطوات عملية:

• حدّد اللغات والأسواق كميزات من الدرجة الأولى. قبل اختيار نموذجك الأكبر، اذكر أسواقك ولغاتك ومعاييرك المحلية وأولويات عملك. إذا كانت اللغات العربية أو الهندية أو الملايوية أو التايلاندية مهمة، فلا تتعامل معها كـ«ترجمات» بل كحالات استخدام من الدرجة الأولى.

• فكّر في النماذج الإقليمية أو النشر المشترك. قد يتعامل نموذج مثل «Mistral Saba» مع المحتوى العربي بتكلفة أقل ودقة أكبر وبأسلوب أصلي أكثر من نموذج إنجليزي عام مُعدّل بدقة.

• خطط لتضخم تكلفة الرموز. استخدم أدوات مقارنة الأسعار. قد تبلغ تكلفة النموذج في الولايات المتحدة «س» دولاراً أميركياً لكل مليون رمز، ولكن إذا كان النشر تركياً أو تايلاندياً، فقد تكون التكلفة الفعلية ضعف ذلك أو أكثر.

• لا تحسّن اللغة فقط، بل الثقافة ومنطق العمل أيضاً. لا ينبغي أن تقتصر مجموعات البيانات المحلية على اللغة فحسب، بل ينبغي أن تشمل السياق الإقليمي: اللوائح، وعادات الأعمال، والمصطلحات الاصطلاحية، وأطر المخاطر.

صمم بهدف التبديل والتقييم النشطين. لا تفترض أن نموذجك العالمي سيعمل محلياً. انشر اختبارات تجريبية، وقيّم النموذج بناءً على معايير محلية، واختبر قبول المستخدمين، وأدرج الحوكمة المحلية في عملية الطرح.

المنظور الأخلاقي والاستراتيجية الأوسع

عندما تُفضّل نماذج الذكاء الاصطناعي المعايير الإنجليزية والناطقة بالإنجليزية، فإننا نُخاطر بتعزيز الهيمنة الثقافية.

كمسؤولين تنفيذيين، من المغري التفكير «سنترجم لاحقاً». لكن الترجمة وحدها لا تُعالج تضخم القيمة الرمزية، وعدم التوافق الدلالي، وعدم الأهمية الثقافية. يكمن التحدي الحقيقي في جعل الذكاء الاصطناعي مُتجذراً محلياً وقابلاً للتوسع عالمياً.

إذا كنت تُراهن على الذكاء الاصطناعي التوليدي لدعم توسعك في أسواق جديدة، فلا تُعامل اللغة كحاشية هامشية. فاللغة بنية تحتية، والطلاقة الثقافية ميزة تنافسية. أما التكاليف الرمزية وتفاوتات الأداء فليست تقنية فحسب، بل إنها استراتيجية.

في عالم الذكاء الاصطناعي، كانت اللغة الإنجليزية هي الطريق الأقل مقاومة. ولكن ما هي حدود نموك التالية؟ قد يتطلب الأمر لغةً وثقافةً وهياكل تكلفة تُمثل عوامل تمييز أكثر منها عقبات.

اختر نموذجك ولغاتك واستراتيجية طرحك، لا بناءً على عدد المعاملات، بل على مدى فهمه لسوقك. إن لم تفعل، فلن تتخلف في الأداء فحسب، بل ستتخلف أيضاً في المصداقية والأهمية.

* مجلة «فاست كومباني»، خدمات «تريبيون ميديا».


الذكاء الاصطناعي... نجم المؤتمر السنوي لطب الأسنان في نيويورك

آلاف المشاركين وشركات تعرض أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي
آلاف المشاركين وشركات تعرض أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي
TT

الذكاء الاصطناعي... نجم المؤتمر السنوي لطب الأسنان في نيويورك

آلاف المشاركين وشركات تعرض أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي
آلاف المشاركين وشركات تعرض أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي

في مدينةٍ لا تهدأ، وتحديداً في مركز «جاڤِتس» على ضفاف نهر هدسون، اختتمت أمس أعمال اجتماعات نيويورك السنوية لطبّ الأسنان، التي استمرت 5 أيام، أحد أكبر التجمعات العالمية للمهنة، بمشاركة نحو 50 ألف طبيب وخبير من أكثر من 150 دولة.

لم يكن الحدث مجرد مؤتمر، بل منصّة حيّة لمستقبل طبّ الأسنان؛ فبين أروقته تتقدّم التكنولوجيا بخطى ثابتة: من الروبوتات الجراحية إلى أنظمة الذكاء الاصطناعي القادرة على قراءة الأشعة في ثوانٍ، وصولاً إلى تجارب التجديد الحيوي التي قد تغيّر شكل العلاج خلال سنوات قليلة.

الذكاء الاصطناعي نجم المؤتمر بلا منافس

كان الذكاء الاصطناعي العنوان الأبرز لهذا العام، إذ جاء المؤتمر في لحظةٍ تتسارع فيها التحوّلات العلمية بسرعة تفوق قدرة المناهج التقليدية على مواكبتها. وقد برزت تقنيات محورية: أنظمة تحليل الأشعة الفورية، والمساعد السريري الذكي، والتخطيط الرقمي للابتسامة. وعلى امتداد القاعات، كان واضحاً أن هذه التقنيات لم تعد تجارب مختبرية، بل هي حلول جاهزة تغيّر طريقة ممارسة المهنة أمام أعيننا.

الروبوتات تدخل غرفة العمليات

شكّلت الجراحة الروبوتية محوراً لافتاً هذا العام، بعد أن عرضت شركات متخصصة أنظمة دقيقة تعتمد على بيانات الأشعة ثلاثية الأبعاد وتتكيف لحظياً مع حاجة الإجراء. وقد أظهرت العروض قدرة هذه الروبوتات على تنفيذ خطوات معقدة بثباتٍ يفوق اليد البشرية، مع تقليل هامش الخطأ ورفع مستوى الأمان الجراحي.

التجديد الحيوي... من الخيال إلى التجربة

عرضت جامعات نيويورك وكورنيل أبحاثاً حول بروتينات مثل «BMP-2»، وهو بروتين ينشّط نمو العظم، و«FGF-2» عامل يساعد الخلايا على الانقسام والتئام الأنسجة خصوصاً الألياف، إلى جانب تقنيات الخلايا الجذعية لإحياء الهياكل الدقيقة للسن.

في حديث مباشر مع «الشرق الأوسط»

وأثناء جولة «الشرق الأوسط» في معرض اجتماع نيويورك لطبّ الأسنان، التقت الدكتورة لورنا فلامر–كالديرا، الرئيس المنتخب لاجتماع نيويورك الكبرى لطب الأسنان، التي أكدت أنّ طبّ الأسنان يشهد «أكبر تحوّل منذ ثلاثة عقود»، مشيرة إلى أنّ المملكة العربية السعودية أصبحت جزءاً فاعلاً في هذا التحوّل العالمي.

وأضافت الدكتورة لورنا، خلال حديثها مع الصحيفة في أروقة المؤتمر، أنّ اجتماع نيويورك «يتطلّع إلى بناء شراكات متقدمة مع جهات في السعودية، أسوة بالتعاون القائم مع الإمارات ومؤسسة (إندكس) وجهات دولية أخرى»، موضحة أنّ هناك «فرصاً واسعة للتعاون البحثي والتعليمي في مجالات الزراعة الرقمية والذكاء الاصطناعي والعلاجات المتقدمة»، وأن هذا التوجّه ينسجم بطبيعة الحال مع طموحات «رؤية السعودية 2030».

العرب في قلب الحدث

شارك وفود من السعودية والإمارات وقطر والكويت والبحرين ومصر والعراق في جلسات متقدمة حول الذكاء الاصطناعي والزراعة الرقمية، وكان حضور الوفود لافتاً في النقاشات العلمية، ما عكس الدور المتنامي للمنطقة في تشكيل مستقبل طبّ الأسنان عالمياً.

نيويورك... حيث يبدأ الغد

منذ بدايات اجتماع نيويورك قبل أكثر من قرن، بقيت المدينة مرآةً لتحوّلات المهنة ومختبراً مفتوحاً للمستقبل. وعلى امتداد 5 أيام من الجلسات والمحاضرات والورش العلمية، رسّخ اجتماع نيويورك السنوي مكانته كأكبر تجمع عالمي لطبّ الأسنان، وكمنصّة تُختبر فيها التقنيات التي ستعيد رسم ملامح المهنة في السنوات المقبلة. كما يقول ويليام جيمس، مؤسس الفلسفة البراغماتية الأميركية، إنّ أميركا ليست مكاناً، بل تجربة في صناعة المستقبل... وفي نيويورك تحديداً، يبدو مستقبل طبّ الأسنان قد بدأ بالفعل.


دراسة لـ«ناسا» تظهر التأثير السلبي للأقمار الاصطناعية على عمل التلسكوبات الفضائية

تلسكوب «هابل» الفضائي (أرشيفية - رويترز)
تلسكوب «هابل» الفضائي (أرشيفية - رويترز)
TT

دراسة لـ«ناسا» تظهر التأثير السلبي للأقمار الاصطناعية على عمل التلسكوبات الفضائية

تلسكوب «هابل» الفضائي (أرشيفية - رويترز)
تلسكوب «هابل» الفضائي (أرشيفية - رويترز)

أدت الزيادة الكبيرة في أعداد الأقمار الاصطناعية المتمركزة في مدار منخفض حول الأرض إلى تطورات في مجال الاتصالات، منها توفير خدمات النطاق العريض في المناطق الريفية والنائية في أنحاء العالم.

لكنها تسببت أيضا في زيادة حادة في التلوث الضوئي في الفضاء، ما يشكل تهديدا لعمل المراصد الفلكية المدارية. وتشير دراسة جديدة أجرتها إدارة الطيران والفضاء الأميركية (ناسا) وتركز على أربعة تلسكوبات فضائية، منها تلسكوبان يعملان حاليا وآخران يجري العمل عليهما، إلى أن نسبة كبيرة من الصور التي سيجري التقاطها بواسطة هذه المراصد على مدى العقد المقبل قد تتأثر بالضوء المنبعث أو المنعكس من الأقمار الاصطناعية التي تشترك معها في المدار المنخفض.

وخلص الباحثون إلى أن نحو 40 بالمئة من الصور التي يلتقطها تلسكوب «هابل» الفضائي ونحو 96 بالمئة من تلك التي يلتقطها مرصد «سفير إكس»، يمكن أن تتأثر بضوء الأقمار الاصطناعية. وقال الباحثون إن «هابل» سيكون أقل تأثرا بسبب مجال رؤيته الضيق.

والتلسكوبات المدارية عنصر أساسي في استكشاف الفضاء، نظرا لما تمتلكه من قدرة على رصد نطاق أوسع من الطيف الكهرومغناطيسي مقارنة بالتلسكوبات الأرضية، كما أن غياب التداخل مع العوامل الجوية يمكنها من التقاط صور أكثر وضوحا للكون، مما يتيح التصوير المباشر للمجرات البعيدة أو الكواكب خارج نظامنا الشمسي.

وقال أليخاندرو بورلاف، وهو عالم فلك من مركز أميس للأبحاث التابع لوكالة ناسا في كاليفورنيا وقائد الدراسة التي نشرت في مجلة نيتشر «في حين أن معظم تلوث الضوء حتى الآن صادر من المدن والمركبات، فإن زيادة مجموعات الأقمار الاصطناعية للاتصالات بدأ يؤثر بوتيرة أسرع على المراصد الفلكية في جميع أنحاء العالم».

وأضاف «في الوقت الذي ترصد فيه التلسكوبات الكون في مسعى لاستكشاف المجرات والكواكب والكويكبات البعيدة، تعترض الأقمار الاصطناعية في كثير من الأحيان مجال الرؤية أمام عدساتها، تاركة آثارا ضوئية ساطعة تمحو الإشارة الخافتة التي نستقبلها من الكون. كانت هذه مشكلة شائعة في التلسكوبات الأرضية. ولكن، كان يعتقد، قبل الآن، أن التلسكوبات الفضائية، الأكثر كلفة والمتمركزة في مواقع مراقبة مميزة في الفضاء، خالية تقريبا من التلوث الضوئي الناتج عن أنشطة الإنسان».

وفي 2019، كان هناك نحو ألفي قمر اصطناعي في مدار أرضي منخفض. ويبلغ العدد الآن نحو 15 ألف قمر. وقال بورلاف إن المقترحات المقدمة من قطاع الفضاء تتوقع تمركز نحو 650 ألف قمر اصطناعي في مدار أرضي منخفض خلال العقد المقبل.