تحديد المطلق في تنظيم الكون وعالم الإنسان

تحديد المطلق في تنظيم الكون وعالم الإنسان
TT

تحديد المطلق في تنظيم الكون وعالم الإنسان

تحديد المطلق في تنظيم الكون وعالم الإنسان

أتذكر من سنوات الطفولة، في زمن الحرب الباردة، صوراً لأينشتاين العجوز مزينة لأغلفة المجلات العالمية. نظراته فيها متعبة، وبجانبه «عش الغراب النووي» الصاعد بمعادلته الشهيرة، المقرة بإمكانية تحويل كتلة المادة إلى طاقة.
الصور عكست العلاقة العميقة الرابطة بين تطور تصوراتنا النظرية للعالم الطبيعي والتطبيقات التكنولوجية النابعة منه. لكن هذا المعنى لم يصل إلى الكل، لأنه يتطلب فهماً دقيقاً لكيفية عمل المنظومة العلمية. في مصر مثلاً تم إضافة بعض التفاصيل المثيرة لأسطورة أينشتاين والقنبلة؛ قيل مثلاً إن الدكتور مصطفى مشرفة، عمل مساعداً له في «معمله النووي». حتى أني عندما بدأت القراءة عن أينشتاين بجدية أصبت بالإحباط، حين اكتشفت أنه، بعد بدء الاعتراف به كعالم مرموق، لم يترق لرئاسة فريق كبير من لابسي المعاطف البيضاء في معمل مجهز بتقنيات عالية، حيث تتوالى سريعاً المبتكرات التكنولوجية المثيرة، إنما إلى «كرسي» الأستاذية في الفيزياء النظرية.
خلفيتي الفكرية لم تسمح بإدراك أن تلك الكراسي النظرية في أساس حيوية الحركة التكنولوجية التي أبهرتني: بأنه لا يمكن ابتكار المصباح الكهربائي من خلال الأبحاث التطبيقية على الشمعة، أو الطاقة الذرية دون التحولات التصورية النظرية العميقة التي تفرضها النسبية (وميكانيكا الكم). ولم يطرق بالي كذلك أن في الأساس المنهج العلمي شيء من الأساطير القديمة التي كنت ملهماً بالقراءة فيها. فهذه كانت كذلك تعرض أسباباً لظواهر مثل سقوط قطرات المطر نحو الأرض وسطوع الشمس، تماماً كما يفعل العلم.
أما سر النجاح العملي للعلم الحديث، فهو أنه، على عكس الأسطورة التقليدية، لا يفرض تحيزاته النظرية على الواقع الملموس، بل يستمدها منه. هكذا يمكن أن يطور منظومته النظرية بتوسيع قاموس مفرداته ومفاهيمه، وإيجاد علاقات أكثر شمولاً بينها تحوي سيل المعلومات المتدفقة من خلال التجربة. هكذا تنتج تصورات أعمق وأوسع للعالم الطبيعي، تتماشى مع معطيات واقعه وتحاكيها بنجاح.
هكذا يمكن بدء فهم الارتباط الوثيق بين تطور تصوراتنا العلمية للعالم، واستخدام ما فهمناه لقلب حياتنا اليومية رأساً على عقب. معادلة أينشتاين الشهيرة، المزينة للصور المخيفة، مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بتصور مستجد للعالم الطبيعي يتضمن إعادة تعريف للعلاقات بين الفضاء والزمن، والجمع بينهما في حيز واحد. ولأن العلاقات الجديدة يتماشى منطقها مع منطق عمل آليات العالم الطبيعي، المستنتجة من التجربة، فيمكن استخدامها للتنبؤ بما سيحدث في هذا العالم تحت ظروف معينة، منها مثلاً التي تؤدي إلى إنتاج القنابل الذرية. من ثم يمكن تحضير مثل هذه الظروف تكنولوجياً، وتسخير الطبيعة لخدمة أغراضنا.
هكذا يتضح أيضاً قصور الصورة النمطية المقابلة لتصور «أينشتاين في معمله»، والممثلة في أينشتاين كفيلسوف تعمق في معنى الفضاء والزمن. فالحقيقة أن ما قاله أينشتاين عن الفضاء والزمن ليست له أهمية كبيرة، لأن المنطق الجامع بين مفردات النظرية (من زمن ومكان وطاقة وكتلة... إلخ) الذي جسدته معادلاته يتحدث عن نفسه. وانحيازات أينشتاين الفلسفية لا تهم كثيراً، لأن مطلب النجاح العملي معناه أن حتى أينشتاين لا يستطيع فرض الانحيازات المسبقة على العالم الطبيعي، كما يحدث في حالة منهج الأسطورة. بل إن بعض انحيازات أينشتاين الفلسفية، التي عبر عنها حتى في ورقته العلمية الكبرى، الشارحة للنسبية العامة (عام 1916)، لم تحققها نظريته في النهاية.
لكنها حققت مبدأ فكرياً مهماً، يقر بألا تعتمد قوانين الطبيعة على مكان أو حركة من يرصدها؛ وكما أن اللغات التي نشرح بها الطبيعة قابلة للترجمة، دون أي فقدان للمعنى، حتى إن بدت مختلفة. هكذا يتضح أن أينشتاين لم يكن يبحث عن النسبي، إنما عن المطلق؛ عن الثابت. وخلال مشوار بحثه هذا وجد أن مرور الزمن يعد نسبياً، لأنه يتغير من متابع لآخر، ولا يمكن الاتفاق عليه دون ترجمة، وكذلك بالنسبة للمسافات. أما الثابت، في ظل وجود الجاذبية، فممثل في مسافات في فضاء - زمن منحنٍ. وبعد تأكيد إدينغتون التجريبي لهذه الظاهرة الصادمة، بقياسه لانحناء الضوء الآتي من النجوم عند مروره قرب الشمس عام 1919، بات التصور الأسطوري علماً، وصار أينشتاين نفسه نجماً، يسطع لمعانه كلما تأكدت تكهناته (مثلاً، في انحناء الضوء المرصود في صورة جيمس ويب الأولى).
الفيزياء النظرية، بصفة عامة، تبحث عن المطلق من خلال التوحيد؛ توحيد المفاهيم التي تشرح من خلالها العالم الطبيعي المرصود. تبحث عن توحيد الفضاء والزمن؛ وعن توحيد القوى التي تشرح حركة الكواكب مع التي تسقط التفاح من الشجر؛ تبحث عن توحيد القوى الكهربية، التي تسرد ترابط جزيئات أجسامنا ببعضها، مع المغناطيسية التي تجذب شعيرات الحديد، في سبيل شرح انبعاث الضوء من الشمس؛ وعن توحيد كل ذلك بالقوى التي تتسبب في الإشعاع والانفجار النووي.
لكن الدقة التي يطلبها النجاح العملي تعني أن هناك أسئلة عن معانٍ لا يمكن أن يجيب عليها هذا البرنامج «التوحيدي» الطموح (أسئلة تبدأ عادة بـ«لماذا» بدلاً من «كيف»). العلم (علم الفيزياء بالتحديد) يبحث عن المطلق فقط في الحدود الدقيقة التي تشترط أن يتماشى التصور النظري مع معطيات يمكن قياسها في العالم الملموس. لكن ماذا عن فطرة الإنسان التي تشير لوجود أشياء لها معنى لا يمكن إمساكه بهذه الدقة، لأن نطاقه أوسع بكثير؟ هناك منظومات أخرى تقدم ردوداً على مثل هذه الأسئلة، كالعقيدة الروحانية.
إذا كانت المعرفة العلمية تنبع عن محاكاة دقيقة لمنطق العلاقات بين معطيات الكون الطبيعي، فدور العقيدة يكمن في تأمل وتيقن المعنى الوجودي والأخلاقي لكون الإنسان.
هذا هو السبب الأساسي لاختلاف مجال المنهجين، وليس أن العلم نسبي، والدين مطلق كما يردد أحياناً. فقد رأينا أن العلم يبحث عن المطلق في الإطار الذي يسمح به منهجه. وفي المقابل، فالعقيدة تكون مطلقة فعلاً فقط إذا نبعت عن تفسير وحيد لنصوص دينية معينة دون غيرها. فيما عدا ذلك، فالمعاني الروحانية قابلة للتأويل الذي قد يختلف عليه أصحاب الدين الواحد، ناهيك عن معتنقي العقائد المختلفة.
مع ذلك، يتفق أصحاب العقائد والمذاهب المغايرة عامة على بعض المطلقات في عالم الإنسان (كتحريم القتل أو السرقة)، كما يفعل العلم الطبيعي في نطاقه. هنا يطرأ السؤال عما إذا كان ممكناً تطبيق منطق المنهج العلمي في سبيل توسيع دائرة المتفق عليه بين أصحاب المعتقدات العقائدية المختلفة؛ مما يتطلب تحديد المسلمات والمبادئ التي يجب أن يتوافق عليها، حتى يتحول المطلق إلى ما يمكن أن يتفق عليه الكل، وليس ما يعتنقه البعض.
ولتحديد طبيعة المبادئ المتفق عليها يجب أولاً استبدال شرط تماشي النظرية مع معطيات العالم الطبيعي، المتبع في حالة العلم الطبيعي، بشرط مشابه مناسب لعالم الإنسان. ويبدو أن أبسط شرط هو أن تكون دائرة التوافق فسيحة ومحصنة بشكل يضمن بناء وبقاء مجتمعات ناجحة؛ مجتمعات لا تنهار تحت وطأة العراك المدمر، الذي يفرضه تلويح البعض بامتلاك المطلق، ومحاولة فرضه بالقوة، بدلاً من التأقلم مع واقع أن حتى المؤمنين بالعقيدة نفسها لا يتفقون على أنه مطلق. هذا هو ما يرادف شرط التماشي عملياً مع معطيات الواقع، ومن ثم النجاح العملي، في حالة العلم.
وكما في حالة العلم، هناك ضرورة لإمكانية ترجمة ما يبدو مختلفاً. في عالم الإنسان هذا معناه ضرورة إدراك أن المفاهيم نفسها المتفق عليها قد تأخذ صوراً مغايرة مع تغير المعتقدات، ولذلك فنجاح المجتمعات يتطلب قدراً من التواصل والتسامح الذي يأخذ ذلك في الاعتبار. وكما في حالة العلم، يجب أن تكون دائرة المبادئ المتفق عليها متجددة وقابلة لاستيعاب مستجدات الواقع، بما في ذلك الطفرات الفكرية والعملية المتوالية التي تفرضها التطورات العلمية.
الشروط المسرودة في الفقرتين السابقتين تلخص الكثير مما تحاول تحقيقه بالفعل المجتمعات التعددية المعاصرة.
* كاتب مصري


مقالات ذات صلة

هل يحد «الحوار الوطني» من «قلق» المصريين بشأن الأوضاع السياسية والاقتصادية؟

شمال افريقيا هل يحد «الحوار الوطني» من «قلق» المصريين بشأن الأوضاع السياسية والاقتصادية؟

هل يحد «الحوار الوطني» من «قلق» المصريين بشأن الأوضاع السياسية والاقتصادية؟

حفلت الجلسة الافتتاحية لـ«الحوار الوطني»، الذي دعا إليه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قبل أكثر من عام، برسائل سياسية حملتها كلمات المتحدثين، ومشاركات أحزاب سياسية وشخصيات معارضة كانت قد توارت عن المشهد السياسي المصري طيلة السنوات الماضية. وأكد مشاركون في «الحوار الوطني» ومراقبون تحدثوا لـ«الشرق الأوسط»، أهمية انطلاق جلسات الحوار، في ظل «قلق مجتمعي حول مستقبل الاقتصاد، وبخاصة مع ارتفاع معدلات التضخم وتسببه في أعباء معيشية متصاعدة»، مؤكدين أن توضيح الحقائق بشفافية كاملة، وتعزيز التواصل بين مؤسسات الدولة والمواطنين «يمثل ضرورة لاحتواء قلق الرأي العام، ودفعه لتقبل الإجراءات الحكومية لمعالجة الأز

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
شمال افريقيا السيسي يبحث انعكاسات التطورات الإقليمية على الأمن القومي المصري

السيسي يبحث انعكاسات التطورات الإقليمية على الأمن القومي المصري

عقد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، اجتماعاً، أمس (الخميس)، مع كبار قادة القوات المسلحة في مقر القيادة الاستراتيجية بالعاصمة الإدارية الجديدة، لمتابعة دور الجيش في حماية الحدود، وبحث انعكاسات التطورات الإقليمية على الأمن القومي للبلاد. وقال المستشار أحمد فهمي، المتحدث الرسمي باسم الرئاسة المصرية، في إفادة رسمية، إن «الاجتماع تطرق إلى تطورات الأوضاع على الساحتين الإقليمية والدولية، وانعكاساتها على الأمن القومي في ظل الظروف والتحديات الحالية بالمنطقة». وقُبيل الاجتماع تفقد الرئيس المصري الأكاديمية العسكرية المصرية، وعدداً من المنشآت في مقر القيادة الاستراتيجية بالعاصمة الإدارية. وأوضح المتحدث ب

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
شمال افريقيا مصر: ظاهرة «المقاتلين الأجانب» تهدد أمن واستقرار الدول

مصر: ظاهرة «المقاتلين الأجانب» تهدد أمن واستقرار الدول

قالت مصر إن «استمرار ظاهرة (المقاتلين الأجانب) يهدد أمن واستقرار الدول». وأكدت أن «نشاط التنظيمات (الإرهابية) في أفريقيا أدى لتهديد السلم المجتمعي».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
شمال افريقيا حادث تصادم بمصر يجدد الحديث عن مخاطر «السرعة الزائدة»

حادث تصادم بمصر يجدد الحديث عن مخاطر «السرعة الزائدة»

جدد حادث تصادم في مصر الحديث بشأن مخاطر «السرعة الزائدة» التي تتسبب في وقوع حوادث سير، لا سيما على الطرق السريعة في البلاد. وأعلنت وزارة الصحة المصرية، (الخميس)، مصرع 17 شخصاً وإصابة 29 آخرين، جراء حادث سير على طريق الخارجة - أسيوط (جنوب القاهرة).

منى أبو النصر (القاهرة)
شمال افريقيا مصريون يساهمون في إغاثة النازحين من السودان

مصريون يساهمون في إغاثة النازحين من السودان

بعد 3 أيام عصيبة أمضتها المسنة السودانية زينب عمر، في معبر «أشكيت» من دون مياه نظيفة أو وجبات مُشبعة، فوجئت لدى وصولها إلى معبر «قسطل» المصري بوجود متطوعين مصريين يقدمون مياهاً وعصائر ووجبات جافة مكونة من «علب فول وتونة وحلاوة وجبن بجانب أكياس الشيبسي»، قبل الدخول إلى المكاتب المصرية وإنهاء إجراءات الدخول المكونة من عدة مراحل؛ من بينها «التفتيش، والجمارك، والجوازات، والحجر الصحي، والكشف الطبي»، والتي تستغرق عادة نحو 3 ساعات. ويسعى المتطوعون المصريون لتخفيف مُعاناة النازحين من السودان وخصوصاً أبناء الخرطوم الفارين من الحرب والسيدات والأطفال والمسنات، بالتعاون مع جمعيات ومؤسسات أهلية مصرية، على


هل وصلت العلاقات الجزائرية - الفرنسية لنقطة «اللاعودة»؟

الرئيس الجزائري في لقاء سابق مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (أ.ف.ب)
الرئيس الجزائري في لقاء سابق مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (أ.ف.ب)
TT

هل وصلت العلاقات الجزائرية - الفرنسية لنقطة «اللاعودة»؟

الرئيس الجزائري في لقاء سابق مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (أ.ف.ب)
الرئيس الجزائري في لقاء سابق مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (أ.ف.ب)

تشهد العلاقات المضطربة على مرّ التاريخ بين فرنسا والجزائر خضّات جديدة، إثر توقيف مؤثرين جزائريين على ذمة التحقيق في فرنسا، بسبب رسائل كراهية نشروها، ومواجهة دبلوماسية جديدة حول توقيف كاتب جزائري - فرنسي في العاصمة الجزائرية، وهو ما يجعل البعض يرى أن العلاقة بين البلدين وصلت فعلاً إلى «نقطة اللاعودة».

سلطات فرنسا شنت حملة توقيف مؤثرين جزائريين على ذمة التحقيق بسبب رسائل كراهية نشروها (أ.ب)

وأوقفت السلطات في باريس مؤخراً ثلاثة مؤثرين جزائريين للاشتباه في تحريضهم على الإرهاب، ووضع منشورات تحث على ارتكاب أعمال عنف في فرنسا ضد معارضين للنظام الجزائري. أحدهم أوقف الجمعة في ضواحي غرونوبل، بعد نشره مقطع فيديو، تم حذفه في وقت لاحق، يحث المتابعين على «الحرق والقتل والاغتصاب على الأراضي الفرنسية»، بحسب لقطة مصورة من شاشة لوزير الداخلية برونو ريتايو.

وزير الداخلية الفرنسية برونو ريتايو (أ.ب)

ونشر هذا الرجل: «أنا معك يا زازو»، مخاطباً مؤثراً جزائرياً آخر، يدعى يوسف أ، المعروف باسم «زازو يوسف»، كان قد أوقف قبل ساعات قليلة بشبهة الدعوة إلى شن هجمات في فرنسا ضد «معارضي النظام الحالي في الجزائر»، بحسب القضاء الفرنسي. ونشر الشخص الثالث، الذي تم اعتقاله على تطبيق «تيك توك»: «اقتلوه، دعوه يتعذب»، في إشارة إلى متظاهر جزائري معارض للنظام. وفتح القضاء أيضاً تحقيقات ضد اثنين آخرين من المؤثرين الفرنسيين الجزائريين، بسبب فيديوهات تنشر الكراهية. وقال المعارض الجزائري، شوقي بن زهرة لـ«وكالة الصحافة الفرنسية» إن «العشرات» من مستخدمي وسائط التواصل الجزائريين، أو مزدوجي الجنسية «نشروا محتوى معادياً على الإنترنت».

محمد تاجديت ضحية تحريض بالقتل من مؤثر جزائري مقيم بفرنسا (حسابه الشخصي بالإعلام الاجتماعي)

كان لدى يوسف أ. أكثر من 400 ألف متابع على تطبيق «تيك توك»، وقد حذفت المنصة حسابه منذ ذلك الحين.

* اتهام الجزائر بالتحريض

اتهم بن زهرة، وهو نفسه لاجئ سياسي في فرنسا، السلطات الجزائرية بالوقوف وراء هذه «الظاهرة»، والدليل بحسبه أن المسجد الكبير في باريس، الذي تموله الجزائر، «يستقبل أيضاً مؤثرين» جزائريين. وردت مؤسسة مسجد باريس على هذه التصريحات «التشهيرية»، التي أدلى بها «مدون مغمور»، واعتبرتها جزءاً من «حملة افتراء غير محتملة»، لكنها أكدت على «دورها البناء في العلاقات بين البلدين». وحسب العديد من المعارضين الجزائريين المقيمين في فرنسا، الذين التقتهم «وكالة الصحافة الفرنسية»، فإن هذه الرسائل العنيفة بشكل خاص ازدادت حدة بعد أن غيرت فرنسا، القوة الاستعمارية السابقة، موقفها من قضية الصحراء، التي كانت مسرحاً لنصف قرن من الصراع بين المغرب وجبهة «البوليساريو»، المدعومة من الجزائر. ففي نهاية يوليو (تموز) الماضي انحاز الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى جانب إسبانيا والولايات المتحدة الأميركية، معتبراً أن مستقبل الصحراء يكمن «في إطار السيادة المغربية»، وساعد ذلك في التقارب مع الرباط، واندلاع أزمة جديدة مع الجزائر، التي لم تعد تقيم علاقات دبلوماسية مع جارتها منذ أغسطس (آب) 2021.

الجزائر اعتبرت موقف الرئيس ماكرون من الصحراء المغربية «خيانة» لها (أ.ف.ب)

في صيف 2022، بدأ الرئيس الفرنسي خطوة «للتقارب» مع الجزائر بشأن «قضايا الذاكرة»، ومسألة «الماضي الاستعماري»، المرتبطة بحرب الاستقلال التي خلفت مئات الآلاف من القتلى والجرحى، لكن موقفه من الصحراء اعتبرته الجزائر «خيانة»، كما لاحظ ريكاردو فابياني، المحلل في مجموعة الأزمات الدولية. سبب آخر من أسباب التوتر هو مصير الكاتب الفرنسي - الجزائري، بوعلام صنصال (75 عاماً)، الذي يقبع في السجن في الجزائر منذ منتصف نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي بتهمة المساس بأمن الدولة، وهو في وحدة العناية الصحية منذ منتصف ديسمبر (كانون الأول) الماضي.

* امتعاض جزائري

بحسب صحيفة «لوموند» الفرنسية، فإن السلطات الجزائرية انزعجت من تصريحات أدلى بها الكاتب صنصال لموقع «فرونتيير» الإعلامي الفرنسي، المعروف بمواقفه اليمينية المتطرفة، تبنى فيها موقفاً مغربياً يقول إن أراضي مغربية انتُزعت من المملكة، في ظل الاستعمار الفرنسي لصالح الجزائر. وكان الرئيس الفرنسي اعتبر الاثنين أن «الجزائر التي نحبها كثيراً، والتي نتشارك معها الكثير من الأبناء والكثير من القصص، تسيء إلى سمعتها، من خلال منع رجل مريض بشدة من الحصول على العلاج»، مطالباً بالإفراج عن الكاتب المحتجز «بطريقة تعسفية تماماً».

الروائي المسجون في الجزائر بوعلام صنصال (متداولة)

ومباشرة بعد ذلك، عبرت وزارة الخارجية الجزائرية عن استغرابها من «التصريحات التي أدلى بها الرئيس الفرنسي بشأن الجزائر، والتي تهين، في المقام الأول، من اعتقد أنه من المناسب الإدلاء بها بهذه الطريقة المتهاونة والمستهترة». ووصفتها بـ«التدخل السافر وغير المقبول في شأن جزائري داخلي». في هذا السياق، أشار مدير «مركز الدراسات العربية والمتوسطية» في جنيف، حسني عبيدي، في تصريح لـ«وكالة الصحافة الفرنسية» إلى أن العلاقة بين البلدين وصلت إلى «نقطة اللاعودة». وأعرب عن أسفه لأن «تصريحات ماكرون القاسية وغير المألوفة» من شأنها «تعزيز دعاة القطيعة التامة بين البلدين، وتكشف عن فشل الرئيس (الفرنسي) في سياسته حيال الجزائر». أما كريمة ديراش، الباحثة في «المركز الوطني الفرنسي» للبحث العلمي في باريس، فقد اعتبرت أننا «أمام رئيس دولة فرنسي لا يعرف كيف يتصرف»، و«يترك انفعالاته تتغلب عليه ولا يحترم القواعد»، وأمام سلطة جزائرية «حساسة جداً تجاه كل ما يصدر عن الدولة الفرنسية». وشدّدت على أنه رغم هذه «المناوشات» المتكررة بانتظام، تظل العلاقة الفرنسية - الجزائرية «متينة» من الناحيتين الاقتصادية والأمنية، مضيفة بسخرية أن فرنسا والجزائر «ثنائي يتنازع بانتظام».