مكابدات القارئ مع الوفرة الرقمية

القراءة صارت صراعاً لا ينتهي مع البيانات الكبيرة

«أمازون» أكبر متجر لبيع الكتب
«أمازون» أكبر متجر لبيع الكتب
TT

مكابدات القارئ مع الوفرة الرقمية

«أمازون» أكبر متجر لبيع الكتب
«أمازون» أكبر متجر لبيع الكتب

جرّبت الروائية الإيطالية إيلينا فيرانتي Elena Ferrante، مؤلفة الرباعية النابولية، كتابة مادة صحافية أقرب لعمود أسبوعي في صحيفة «الغارديان» البريطانية ذائعة الصيت. وفّرت لها الصحيفة كل أسباب الدعم والانتشار، ومن ذلك مثلاً نشر مادتها الأسبوعية كل يوم سبت، وهو يوم عطلة أسبوعية يغري معظم الناس بالقراءة. لم تتحمل فيرانتي الكتابة أكثر من عام واحد (هو عام 2019)، وأنهت ذلك الالتزام الأسبوعي بكتابة مقالة أخيرة أبدت فيها السبب الذي دفعها للتوقف عن الكتابة للصحيفة، وذلك أنها اعتادت مكابدة القلق والترقب والانتظار عقب نشر كل رواية جديدة لها، وهو ما يحصل كل بضع سنوات تكون خلالها منصرفة للكتابة من غير ضغوط معيقة؛ أما الكتابة الأسبوعية في صحيفة عالمية فكانت أشبه بكابوس لم تعُد تطيق تبعاته؛ إذ ما إن يُنشَر لها عمود جديد حتى تقع فريسة عبأين اثنين: ملاحقة ردّات أفعال القرّاء على مقالتها، والتفكير بمقالتها الجديدة في الأسبوع اللاحق. ليس ثمة من فسحة للاستجمام الذهني والاسترخاء النفسي أبداً مع أي شكل من أشكال الفعاليات الثقافية الأسبوعية المكتوبة للصحافة.
جالت بخاطري المعاناة التي أسهبت فيرانتي في وصفها وأنا أقرأ المادة اليومية التي دأب على كتابتها الأستاذ سمير عطا الله في «الشرق الأوسط» منذ خمس وثلاثين سنة! أكاد أقول –بيقين- إن كتابة المقالة اليومية للكاتب عطا الله هي بعضُ أسباب سعادته في هذه الحياة؛ ولعلها السبب الأكبر لها. الكتابة كنز سعادة لا ينضب لمن عرف مسرّاتها وقدراتها الحقيقية والميتافيزيقية، وهي بهذا الوصف تصبح عند بعض البشر قرينة الوجود الإنساني النبيل والمكتمل. تساءلت: ما الذي يمكن أن يقوله كاتبٌ بعد عمر كامل قضاه في الكتابة؟ والأمر الأكثر أهمية: ما الذي يمكن أن يقوله كاتب على نحو يومي منتظم لعقود طويلة؟ تبدو لي الكتابة الحقيقية -والمعرفة بعامة- مثل نبع ماء أزليّ كلّما شربنا منه ازددنا ظمأً ورغبة في استكشاف المجهول. لا الظمأ يخف ولا المعرفة تتضاءل ولا الشغف يخفت، ورقعة المجهول تزداد اتساعاً وتكون مبعث رهبة في عقل الكاتب والقارئ معاً.
يُختص الكاتب عطا الله بميزة قدرته على تمرير رسائل ثقافية واستراتيجية شديدة الأهمية في سياق مقالة يومية مكتوبة برشاقة تضمر دسامة وثقلاً معرفياً لا يخفى على القارئ. لنلاحظ مثلاً هذه العبارة التي وردت في متن مقالته الموسومة «في الطريق إلى جدة: حفظ الآداب»: «... فالرئيس الأميركي في الطريق إلى جدة سوف يكتشف أنّ العملاق الآسيوي قد تجاوز جميع المخيلات. ثلاثية عجيبة من أكبر دولتين في العالم، الصين والهند، وبينهما سنغافورة، أصغر دول العالم. سوف تصرف أميركا خلال 8 سنوات 1.2 تريليون دولار على البنية التحتية. فكم هو الرقم في الصين خلال عام واحد؟ 2.3 تريليون دولار. مثلٌ آخر: قبل 20 عاماً لم يكن لدى الصين شبكة قطارات سريعة، الآن تملك شبكةً توازي في حجمها ثلثي شبكات العالم أجمع...».
إنّ قراءة مثل هذه المعلومة تستوجب عند القارئ الشغوف مراجعة الأدبيات المنشورة بشأن سباق القوى الموصوفة بـ«القوى العظمى» في ميادين شتى منها: البنى التحتية والذكاء الصناعي وسباق الفضاء والروبوتات، إلخ؛ ولك أن تتصور كيف سيكون الحال إذا ما استوجبت قراءة مائة مقالة من مقالات عطا الله مراجعة مائة عنوان لكتاب أو مادة بحثية علمية أو تاريخية أو اقتصادية؟
أحالتني مقالة عطا الله المذكورة أعلاه إلى كتاب عنوانه «القوى العظمى للذكاء الصناعي: الصين، وادي السليكون، والنظام الدولي الجديد»، كتبه كاي – فو لي Kai – Fu Lee أحد مطوري الأعمال الصينيين ورئيس معهد للذكاء الصناعي. راق لي عنوان الكتاب فاعتزمت استزادة المعرفة عنه في موقع «أمازون» العالمي. صارت معاينة الإصدارات الجديدة من الكتب -بالنسبة لي، ولكثيرين أمثالي- عذاباً بمثل ما هي لذّة عظيمة: يذهبُ أحدنا لموقع «أمازون» لقراءة ملخّص تعريفي (Preview) عن كتاب ما ومعاينة محتوياته، فإذا به يَعلق في سلسلة لا نهائية من كتب يرى الموقع أنها تشترك مع الكتاب المطلوب في طبيعة موضوعها، وقد حصل معي كثيراً أن بدأتُ بعنوان محدّد لكتاب، ثمّ انتهيت بكتب لم يخطر ببالي يوماً أنني سأراجعها، وتتعاظمُ آثار هذه الظاهرة عندما يكون المرء مهتماً بحقول معرفية كثيرة، وتتضاعف المعاناة أضعافاً مضاعفة إذا ما كانت للمرء اهتمامات بالترجمة متعددة الجوانب.
ليست بعيدة تلك الأوقات قبل عقود عدّة عندما كنّا نقاتل حقاً، للحصول على كتاب ورقي جديد يعزز معرفتنا وكنوز مكتباتنا. كنّا نبذل الكثير من الوقت والمال عن طيب خاطر لنحصل على كتاب بخاصة إذا ما كان عنوانه يفتح لنا منافذ المعرفة الرفيعة التي لا نرتوي من منابعها، وليست قليلة تلك الكتبُ التي سعينا للحصول على نسخة منها عبر مكاتبة بعض الأصدقاء، وكم كنّا في تلك السنوات نسرع كل بضعة أيام لتفقّد صناديقنا البريدية بلهفة متوقّعين العثور على كتاب سمعنا به وأحببناه.
تغيّرت هذه الحال اليوم بفعل الثورة الرقمية وصارت طيوفاً قابعة في ذاكرة الأمس. ليس هذا غريباً؛ فكل ثورة تقنية تأتي بطائفة مستجدة من الخبرات فيما تجعلُ بعض الخبرات السابقة خارج نطاق التداول البشري. إذا أردتَ اليوم قراءة كتاب ما في أي حقل معرفي فلا تحتاجُ لأكثر من الذهاب إلى موقع «أمازون» الأكثر شهرة في العالم، ثمّ تطلب عنوان كتابك، وإذا أُتيحت لك خدمة الدفع الإلكتروني فسيكون الكتاب في حوزتك بعد ثوانٍ من تسديد قيمته، وهي قيمة عادية في كلّ الأحوال ولا تثقل جيباً أو تخلّ بميزانية شهرية. هذه بعضُ حسنات الثورة التقنية لمن أدمنوا القراءة، لكنّ هذه الحسنة الجميلة لم تأتِ خالية من بعض المنغّصات التي تقترنُ بجميع الثورات التقنية. أساس المنغّصات هنا يكمنُ في الوفرة التي حلّت بعد شُحّة مديدة.
ماذا بوسع المرء أن يفعل إزاء هذه المنغّصات وقد صارت حقيقة واقعة؟ علّمتني خبرتي المتراكمة أنّ أفعالاً بسيطة يمكن أن تفيد في مواجهة تسونامي الكتب الرقمية.
أولاً: عندما تعتزمُ قراءة كتاب تحبه انسَ أمر المواقع الرقمية (بما فيها موقع «أمازون»). الحرصُ على اجتناء أعظم فائدة من كتاب واحد تحبه أفضل من تشتيت الوقت في قراءات تعريفية مبعثرة أو قراءات سريعة مختصرة لكتب كثيرة.
ثانياً: لا تدع الوفرة تقتل الشغف؛ فتكون كمن جاع دهراً ثمّ وجد نفسه أمام مائدة شهية حافلة بأطايب الطعام فما عاد يدري ماذا يأكل وكم يأكل، وصار يخاف أن تقتله التخمة. الموت من وفرة أعقبت جوعاً قديماً هو أسوأ أنواع الميتات لأنها ميتة غير مقبولة ولا مبررة.
ثالثاً: غصة كبيرة يختنق بها المرءُ عندما يدرك أنه سيغادرُ هذه الحياة وهو لم يقرأ الكثير من الكتب التي أصبحت مُتاحة والتي حلم بقراءتها في أزمنة ماضية، تلك حقيقة مؤكدة لدى كل عاشق حقيقي للكتاب؛ لكنك لستَ وحدك في هذا الأمر. معظمُ سكان العالم من القارئين الشغوفين يشاركونك هذا الشعور المؤلم، لكن ليس من المجدي إضاعة جمال اللحظة الحاضرة في توجّع نوستالجي يفسدُ ثراء الحاضر. هذا هو حال التطور التقني الذي يأتي في مواقيت محسوبة لا نستطيع لها تغييراً بفعل التمنيات، ثمّ إنّك في النهاية أفضلُ حالاً من تلك الملايين الكثيرة من نظرائك البشر الذين غادروا الحياة بفعل عدوى بكتيرية يمكنُ اليوم علاجها بتكلفة يسيرة وجهد طبي يتوفر في أفقر مناطق العالم.
في الختام، سيبقى سحرُ الكتاب في المملكة الإلكترونية التي نعيشها؛ لكنّ شكل وعنفوان هذا السحر وطبيعته تغيّر في جوهره بسبب الوفرة. الوفرة بَرَكة بالتأكيد، ولا ينبغي أبداً أن نجعل من هذه الوفرة عبئاً تنوء به عقولنا.


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

العثور على مبلّغ عن مخالفات «أوبن إيه آي» ميتاً في شقته

شعار شركة «أوبن إيه آي»  (رويترز)
شعار شركة «أوبن إيه آي» (رويترز)
TT

العثور على مبلّغ عن مخالفات «أوبن إيه آي» ميتاً في شقته

شعار شركة «أوبن إيه آي»  (رويترز)
شعار شركة «أوبن إيه آي» (رويترز)

تم العثور على أحد المبلِّغين عن مخالفات شركة «أوبن إيه آي» ميتاً في شقته بسان فرانسيسكو.

ووفقاً لشبكة «سي إن بي سي»، فقد أمضى الباحث سوشير بالاجي (26 عاماً)، 4 سنوات في العمل لدى شركة الذكاء الاصطناعي حتى وقت سابق من هذا العام، عندما أثار علناً مخاوف من أن الشركة انتهكت قانون حقوق النشر الأميركي.

وتم العثور على بالاجي ميتاً في شقته بشارع بوكانان سان فرانسيسكو بعد ظهر يوم 26 نوفمبر (تشرين الثاني).

وقالت الشرطة إنها لم تكتشف «أي دليل على وجود جريمة» في تحقيقاتها الأولية.

ومن جهته، قال ديفيد سيرانو سويل، المدير التنفيذي لمكتب كبير الأطباء الشرعيين في سان فرانسيسكو، لشبكة «سي إن بي سي»: «لقد تم تحديد طريقة الوفاة على أنها انتحار». وأكدت «أوبن إيه آي» وفاة بالاجي.

وقال متحدث باسم الشركة: «لقد صُدِمنا لمعرفة هذه الأخبار الحزينة للغاية اليوم، وقلوبنا مع أحباء بالاجي خلال هذا الوقت العصيب».

وكانت صحيفة «نيويورك تايمز» قد نشرت قصة عن مخاوف بالاجي بشأن «أوبن إيه آي» في أكتوبر (تشرين الأول)؛ حيث قال للصحيفة في ذلك الوقت: «إذا كان أي شخص يؤمن بما أومن به، فسيغادر الشركة بكل تأكيد».

وقال للصحيفة إن «تشات جي بي تي» وروبوتات الدردشة المماثلة الأخرى ستجعل من المستحيل على العديد من الأشخاص والمنظمات البقاء والاستمرار في العمل، إذا تم استخدام محتواها لتدريب أنظمة الذكاء الاصطناعي.

وواجهت «أوبن إيه آي» عدة دعاوى قضائية تتعلَّق باستخدامها محتوى من منشورات وكتب مختلفة لتدريب نماذجها اللغوية الكبيرة، دون إذن صريح أو تعويض مالي مناسب، فيما اعتبره البعض انتهاكاً لقانون حقوق النشر الأميركي.