«تشريعية» السنغال تُربك حسابات الرئيس سال

عقب اتهامات بسعيه إلى «ولاية ثالثة»

اشتباكات بين متظاهرين وقوات الأمن خلال احتجاج ضد الحكومة دعت إليه جماعات معارضة في العاصمة السنغالية داكار في 17 يونيو الماضي (رويترز)
اشتباكات بين متظاهرين وقوات الأمن خلال احتجاج ضد الحكومة دعت إليه جماعات معارضة في العاصمة السنغالية داكار في 17 يونيو الماضي (رويترز)
TT

«تشريعية» السنغال تُربك حسابات الرئيس سال

اشتباكات بين متظاهرين وقوات الأمن خلال احتجاج ضد الحكومة دعت إليه جماعات معارضة في العاصمة السنغالية داكار في 17 يونيو الماضي (رويترز)
اشتباكات بين متظاهرين وقوات الأمن خلال احتجاج ضد الحكومة دعت إليه جماعات معارضة في العاصمة السنغالية داكار في 17 يونيو الماضي (رويترز)

عندما أوشكت الفترة الثانية والأخيرة للرئيس السنغالي السابق عبد الله واد على نهايتها عام 2012، ادعى حقه في الحصول على ولاية ثالثة، بسبب تعديل دستوري أجراه مع بداية ولايته الأولى، الأمر الذي أغضب قوى المعارضة التي أثارت بدورها موجة احتجاجات قادتها حركة شبابية تُدعى «ضاقوا ذرعاً». ورغم ذلك تمكن واد من الحصول على حُكم من المحكمة الدستورية يسمح له بالتنافس على فترة رئاسة ثالثة. وبالفعل خاض السباق قبل أن يُهزم في الجولة الثانية من التصويت من قبل المعارضة الموحدة بقيادة ماكي سال.
بعد مرور عشرة أعوام، لا تزال محاولات واد، رغم أنها لم يكتب لها النجاح، تُشكل هاجساً لدى السنغاليين، خوفاً من تكرارها على يد غريمه الرئيس الحالي سال (60 عاماً)، الذي تنتهي ولايته الثانية والأخيرة عام 2024.

جاءت نتائج الانتخابات التشريعية التي أجريت نهاية يوليو (تموز) الماضي، لتربك حسابات الرئيس سال الذي يرفض – وفقاً للمعارضة - الالتزام بعدم تجاوز القيود على الفترات الرئاسية، ويبدي نيته في الترشح لرئاسيات 2024.
وأعلنت مفوضية الانتخابات في السنغال، خسارة الائتلاف الرئاسي الحاكم في البلاد أغلبيته البرلمانية، بحصوله على 82 مقعداً من 165 مقعداً، في ضربة موجعة للرئيس سال وأنصاره. وفي المقابل، حصل ائتلاف المعارضة الرئيسي «ييوي أسكاني وي» على 56 مقعداً، في حين حصل حليفه «والو سنغال» على 24 مقعداً.
وتبدي المعارضة السنغالية شكوكاً حول نوايا سال الذي انتخب عام 2012 لولاية مدتها 7 سنوات، ثم أعيد انتخابه في 2019 لخمس سنوات أخرى، وتتهمه بالسعي إلى تجاوز الحد الأقصى للولايات الرئاسية والترشح مجدداً في 2024. ورغم أن سال لم يشر صراحة إلى نواياه في هذا الشأن، لكن تجاهله الرد، يُمكن أن يدعم خططاً من هذا النوع، بحسب قوى المعارضة.
وتؤكد خسارة الائتلاف الحاكم في السنغال الذي يتزعمه سال بالانتخابات البرلمانية، وعدم نجاحه في الحصول على الأغلبية المطلقة، «استمرار نجاح المعارضة السنغالية في الحصول على ثقة الناخبين السنغاليين»، وفقاً للباحثة المتخصصة في الشأن الأفريقي إيمان الشعراوي، خاصة بعد فوزهم في الانتخابات المحلية التي جرت في مارس (آذار) 2021، وفازت المعارضة فيها في المدن الكبرى بما فيها العاصمة دكار، وزيغينكور في الجنوب، وتيس في الغرب.
وأوضحت الشعراوي لـ»الشرق الأوسط» أن هذه النتائج تحمل كثيراً من الدلالات على رأسها نجاح المعارضة في الاختبار الحاسم ومحاولة معالجة نفوذ الحزب الحاكم قبل الانتخابات الرئاسية في عام 2024، خاصة أن هذه الانتخابات مؤشر مهم للمعارضة للاستعداد للانتخابات الرئاسية والتحالف حول مرشح واحد، وذلك لضمان عدم تشتيت الأصوات والفوز في الانتخابات، في ظل القوة الذي يتمتع بها الائتلاف الحاكم وسعيه الاستمرار في السلطة».
أقوى الديمقراطيات
وأشارت الشعراوي، إلى أن الدلالة الأخرى تتعلق بقوة الديمقراطية في السنغال وتحقيق التداول السلمي للسلطة بين الأحزاب المختلفة، ما يؤكد أن السنغال من أقوى الديمقراطيات الصاعدة في القارة الأفريقية.
وأبدت الشعراوي شكوكها في احتمالية عزم سال الترشح للرئاسة مجدداً بعد هذه النتائج المربكة والصادمة، موضحة أن «عدم نجاح الائتلاف الحاكم في الفوز بالأغلبية المطلقة في الانتخابات قوض تلك المخططات، وأن السنغال من الدول الأفريقية التي تتمتع باستقرار سياسي في منطقة غرب أفريقيا التي شهدت انقلابات كثيرة».
وأشارت الباحثة المتخصصة في الشأن الافريقي إلى أن السلطة التشريعية الجديدة في السنغال أمامها الكثير من التحديات في ظل تدهور الوضع الاقتصادي في السنغال بعد الأزمة العالمية والحرب بين روسيا وأوكرانيا، فضلًا عن ارتفاع الأسعار وتفاقم أزمة انعدام الغذاء بسبب التغير المناخي، وبالتالي قد نشهد بعض التشريعات من البرلمان لضمان الحماية الاجتماعية للفئات الأكثر فقرًا في السنغال.
ازدياد التوتر
وقالت: «رغم أن السنغال ترأس الاتحاد الأفريقي حاليًا، وهي من الدول الأفريقية التي تسير بخطى ثابتة نحو تحقيق التحول الديمقراطي، وتتمتع بتداول سلمي للسلطة، إلا أن الأجواء السياسية بعد إعلان النتائج تزداد توتراً وقد سقط عدد من الضحايا والمصابين بسبب العنف الانتخابي»، مشددة على «ضرورة احترام نتائج الانتخابات من كافة الأطراف والاستعداد للانتخابات الرئاسية القادمة».
ويتألف البرلمان السنغالي من مجلس واحد يضم 165 نائبا، ويهيمن عليه حالياً مؤيدو الرئيس سال، لولاية مدتها خمس سنوات.
«كذبة مبتذلة»
وكان «الائتلاف الرئاسي» في السنغال قد زعم – قبل صدور النتائج الرسمية – تحقيقه الفوز في الانتخابات التشريعية، وهو ما وصفته المعارضة بأنها «أغلبية صنِعت بشكل مسبق».
وتحدث بارتيليمي دياس، المسؤول في التحالف الذي يقوده المعارض عثمان سونكو، عن «كذبة مبتذلة» و»أغلبية مسبقة الصنع»، متوجها إلى الخصوم بالقول «لقد خسرتم هذه الانتخابات على المستوى الوطني».
‎وتعد السنغال ذات الأربعة عشر مليون نسمة، أحد أهم أبرز نماذج الدول الأفريقية المستقرة والمتقدمة نسبياً على مستوى تداول السلطة وممارسة الديمقراطية وغياب الإقصاء السياسي أو المجتمعي أو القبلي، رغم تواضع مواردها وإمكانياتها الاقتصادية.
ويشير رامي زهدي، خبير الشؤون الأفريقية في مركز «ايچبشن إنتربرايز» للدراسات الاستراتيجية‎، إلى أنه يبدو أن عدوى التشكيك في النتائج أو تزويرها أو على الأقل توجيها تنتقل بشدة بين دول القارة من الشرق إلى الغرب والجنوب والشمال.
وأشعلت نتائج الانتخابات المحلية، التي جرت في مارس (أذار) الماضي، وفازت المعارضة فيها داخل المدن الكبرى بما فيها العاصمة دكار وزيجينكور في الجنوب وتيس في الغرب، آمال المعارضة في مواصلة الانتصارات وحصد الأغلبية البرلمانية، مستغلة الرغبة الشعبية في التغيير، في ظل مخاوف وشكوك المعارضة بشأن نوايا الرئيس سال للبقاء في الحكم»، كما يعتقد زهدي.
ويقول الخبير السياسي لـ»الشرق الأوسط»، إن «هذه الانتخابات (البرلمانية) جاءت عقب انتخابات محلية، أعطت ثقة كبيرة للمعارضة بأنها قادرة على الفوز في أي انتخابات لاحقة تشريعية أو رئاسية، باعتبارهم الأقوى والأقرب للشعب، بالتوازي مع تقارير احتمالية التمديد للرئيس السنغالي».
ويحذر زهدي من تزايد المخاوف من أثر الاختلاف على استقرار الدول الهامة في غرب القارة، والتي يترأس رئيسها الاتحاد الأفريقي في دورته الحالية، كما تعتبر دولة محورية في المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا CEDEAO، وتلعب أدوارا متقدمة في السلم بالقارة السمراء.
وجرت الانتخابات، لنحو سبعة ملايين سنغالي مسجلين على لوائح الاقتراع، بإشراف 22 ألف مراقب، وزعتهم اللجنة الوطنية المستقلة لانتخابات في جميع أنحاء البلاد، فضلاً عن حضور مراقبين من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس).
وكان للظروف التي تعيشها البلاد تأثير كبير على الأجواء العامة للانتخابات التي تمت في ظل ارتفاع أسعار السلع والخدمات، بسبب تداعيات الحرب الروسية في أوكرانيا، وهو سلاح استخدمته المعارضة ضد السلطة، التي تركز من جهتها على دعم المنتجات النفطية والمواد الغذائية وكذلك برنامجها لبناء بنى تحتية.
وتريد المعارضة إجبار سال على التخلي عن أي طموحات للترشح في 2024، ولذلك ركزت في حملتها على ضرورة التصويت ضد الائتلاف الحاكم لمنع سال من محاولة تأمين فترة ولاية ثالثة.
تنافس في هذه الانتخابات ثمانية تحالفات، بينها أكبر ائتلاف للمعارضة «حرروا الشعب»، الذي يتزعمه عثمان سونكو، والذي تحالف مع ائتلاف «أنقذوا السنغال» بقيادة الرئيس السابق عبد الله واد، للحصول على أغلبية برلمانية. وقال سونكو لـ»وكالة الصحافة الفرنسية»: «إذا خسر سال (في الانتخابات التشريعية)، فلن يتحدث بعد الآن عن ولاية ثالثة».
ومُنعت شخصيات عدة في المعارضة، بينها سونكو، من الترشح للانتخابات. لكنها لم تفوت فرصة دعوة مؤيديها إلى الاحتجاج على ما اعتبرته «حيلة» للرئيس ماكي سال من أجل استبعاد خصومه تحت غطاء وسائل قانونية.
وباستثناء التظاهرة الأولى، منعت السلطات كل التجمعات. وبعدما كانت تهدد بمنع تنظيم الانتخابات، وافقت المعارضة في 29 يونيو (حزيران) الماضي على المشاركة فيها، ما أدى إلى تهدئة التوتر. ووعد ماكي سال بتعيين رئيس للوزراء، المنصب الذي ألغاه ثم أعاده في ديسمبر (كانون الأول) 2021، ينتمي إلى التشكيل الذي يفوز في الاقتراع.
وشهد السنغال العام الماضي احتجاجات اجتماعية، كما تشكل الأزمة الغذائية الناتجة عن تقلص صادرات الحبوب بسبب حرب أوكرانيا، مصدراً للقلق في السنغال. وتطرق الرئيس سال مؤخراً إلى «السيناريو الكارثي لحصول نقص وارتفاع الأسعار». وأكد أن الأزمة الحالية تأتي بعد أزمة كوفيد-19 التي فاقمت أساساً المجاعة في أفريقيا. وقال «الأسوأ لم يأت بعد ربما».
وذكر بأن الكثير من الدول الأفريقية بينها السنغال تعتمد بشكل كبير على واردات الحبوب من المنطقة. وعبر عن قلقه من تداعيات العقوبات الأوروبية التي تستثني مصارف روسية من نظام سويفت الدولي، الذي يتيح عمليات كبرى مثل أوامر نقل أموال.
أصعب أيام سال
وتفيد دراسة نشرها مؤخراً الدكتور محمد السبيطلي، الباحث بوحدة الدراسات الأفريقية في مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، بأن ماكي سال، الماركسي اللينيني في شبابه والليبرالي المتحالف مع الاشتراكيين حالياً، أعطى انطباعاً، منذ بداية الولاية الثانية له، لدى المتابعين والمعارضة السنغالية وبعض من اتباعه، بأنه يسير على خطى من كان قبله من الرؤساء في بلاده وفي كثير من الأقطار الأفريقية، مشرين إلى تجاهله لملفات الفساد التي أثيرت حول الشخصيات البارزة في السلطة، في المقابل تم التعاطي سريعا مع ملفات الشخصيات المعارضة خاصة البارزة منها، مما أخرجهم من دائرة المنافسة الانتخابية، وظهر ذلك في اقصاء المنافسين الجديين له في انتخابات 2019، ثم السعي لتركيز السلطة بيده من جهة ثانية، واتهامات بالفساد طالت الدائرة المقربة منه من جهة ثالثة. واعتبر السبيطلي أن سال قد يعيش أصعب أيامه السياسية، حيث يواجه جيلاً جديد من المعارضين السياسيين الذي لم يتم له سابق التعامل معه.
بدوره، يرى السفير الدكتور محمد سالم الصوفي، المدير العام للمعهد الثقافي العربي الأفريقي، التابع لجامعة الدول العربية، أن المعارضة السنغالية استبقت نتائج الانتخابات، بل والعملية برمتها، عبر اتهامات للسلطة بتعمد ترهل النظام الانتخابي، من خلال عمليات تلاعب مستمرة في الدستور واللائحة الانتخابية، محذراً من صدامات سياسية غير محسوبة العواقب قد ينتج عنها انقلاب عسكري كما في الدول الجوار الأفريقي. وبحسب مراقبين، فإن صمت الرئيس سال وغموضه، تجاه اتهامات المعارضة، يعد مؤشراً على تفكيره في الأمر، محذرين من مخاطر متنامية تهدد السلم المدني في السنغال، الأمر الذي يستدعي «توحيد صفوف المعارضة لمواجهة هذا الانجراف السياسي المتوقع».


مقالات ذات صلة

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

حصاد الأسبوع من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

طوال فترة الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة، حرص الرئيس المنتخب دونالد ترمب على تأكيد قدرته على كسر كل الحواجز، وإعادة تشغيل العلاقات مع موسكو عبر تفاهمات

رائد جبر (موسكو)
حصاد الأسبوع صورة مركبة لبوتين وترمب (أ.ف.ب)

لقاءات بوتين وترمب... كثير من الوعود وقليل من التقارب

فور إعلان الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب استعداده لعقد لقاء سريع مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين فور توليه السلطة، برزت ردود فعل سريعة تذكر بلقاءات سابقة

حصاد الأسبوع تشابو يواجه تحديات عدة... من التمرد في منطقة كابو ديلغادو إلى السعي لتحقيق تنمية اقتصادية واستغلال موارد الغاز الطبيعي وإدارة تأثيرات التغير المناخي

دانيال تشابو... رئيس موزمبيق الجديد الطامح إلى استعادة الاستقرار

أدَّى دانيال تشابو، الأربعاء الماضي، اليمين الدستورية رئيساً لموزمبيق، مركِّزاً على اعتبار استعادة الاستقرار السياسي والاجتماعي «أولوية الأولويات».

فتحية الدخاخني (القاهرة)
حصاد الأسبوع لقطة للعاصمة الموزمبيقية مابوتو (رويترز)

موزمبيق و«فريليمو»... لمحة تاريخية وجيو ـــ سياسية

منذ ما يقرب من خمسين سنة يتربع حزب «فريليمو»، أو «جبهة تحرير موزمبيق»، على سدة الحكم في موزمبيق، مرسّخاً نظام الحزب الواحد، مع أن دستور البلاد المعدل عام 1992

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
حصاد الأسبوع الزعيم الكندي جاستن ترودو يعلن أن لا رغبة لبلاده في أن تصبح ولاية أميركية (أ.ب)

ألمانيا تعيش هاجس التعايش مع مطامح ترمب وماسك

لم يدخل الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب البيت الأبيض بعد... ومع ذلك تعيش أوروبا منذ أسابيع على وقع الخوف من الزلزال الآتي. وكلما اقترب موعد الـ20 يناير

راغدة بهنام (برلين)

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
TT

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)

طوال فترة الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة، حرص الرئيس المنتخب دونالد ترمب على تأكيد قدرته على كسر كل الحواجز، وإعادة تشغيل العلاقات مع موسكو عبر تفاهمات سريعة وفعالة لوقف القتال في أوكرانيا، ووضع خريطة طريق لمعالجة الملفات الخلافية المتراكمة مع الكرملين. وقبل أيام قليلة من تسلم صلاحياته رسمياً، برزت اندفاعة جديدة من الرئيس الجمهوري نحو روسيا، عندما أعلن استعداده لتنظيم لقاء عاجل مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين يرسم ملامح العلاقة المستقبلية ويضع خطط إنهاء الحرب وتخفيف التوتر على مسار التنفيذ. لكن اللافت أن هذه التصريحات لم تُقابَل بشكل حماسي في روسيا. بل فضَّل الكرملين التزام لهجة هادئة تؤكد الانفتاح على الحوار، مع التذكير في الوقت ذاته، بعنصرين ضروريين لنجاح أي محاولة لكسر الجليد بين البلدين، أولهما اتضاح الملامح الأولى لرؤية الرئيس الأميركي الجديد لتسوية الملفات الخلافية المتراكمة، والآخر التذكير بشروط الكرملين لإنهاء الحرب في أوكرانيا. وبالتوازي مع ذلك، بدت تعليقات الأوساط المقربة من الكرملين متشائمة للغاية، حيال فرص إحراز تقدم جدّي على أي مسار... لا في الحرب الأوكرانية ولا العلاقات مع «ناتو»، ولا ملفّات الأمن الاستراتيجي في أوروبا.

لا ينظر أحد في روسيا بجدية إلى إمكانية تحقيق قفزات سريعة تؤدّي إلى تحسّن العلاقات مع الولايات المتحدة، وتضع إطاراً واقعياً للحوار حول الملفات الخلافية. وعلى الرغم من أن الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب صرّح مرّات عدة بأن موقف روسيا يمكن فهمه، وأن سبب الصراع كان إلى حد كبير السياسة المناهضة لروسيا التي تنتهجها «الدولة العميقة» الأميركية، فإن الأوساط الروسية تنظر بريبة إلى قدرة ترمب، العائد بقوة إلى البيت الأبيض، في تجاوز الكثير من «المطبّات» التي تعترض طريق إعادة تشغيل العلاقات بين موسكو وواشنطن.

رسائل روسية واضحة

في هذا الصدد، كان لافتاً أن موسكو تعمّدت توجيه رسائل واضحة إلى الإدارة الأميركية الجديدة، عبر إطلالتين إعلاميتين لشخصيتين تعدّان من أبرز المقربين لبوتين، هما وزير الخارجية سيرغي لافروف والمستشار الرئاسي وعضو مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف. وفي الحالتين كان التوقيت وشكل التعامل مع «اندفاعة ترمب» يحظيان بأهمية خاصة.

جوهر كلام المسؤولين ركّز على قناعة بأن العالم قد يكون أمام «فرصة حقيقية للسلام» في عهد ترمب، بيد أن الانفتاح الروسي على الحوار مرتبط باستناد هذا الحوار إلى أسس «مبادرات ملموسة وخطوات ذات معنى بشأن الاتصالات على أعلى مستوى»، والأهم من ذلك، أن تتوافر لدى ادارة ترمب «اقتراحات محددة» بشأن أوكرانيا، وفق تعبير لافروف.

والاقتراحات المحددة المطلوبة روسياً، ينبغي أن تنعكس - كما قال الوزير – بـ«جدية في الاستعداد لحل المشاكل المتراكمة عبر الحوار لا عبر الضغوط والتهديدات» التي لم ينجح سلف ترمب في معالجتها.

وفي إشارة ذات مغزى، قال لافروف إنه «من المفيد أن نرى ما هي الأساليب التي سيستخدمها ترمب لجعل أميركا أعظم». وهذه عبارة أكملها باتروشيف بقوله: «هل سيكون ترمب قادراً على ترجمة نواياه بالكامل؟ وكما أظهرت ولايته الأولى، فإن (الدولة العميقة) السيئة السمعة في الولايات المتحدة... قوية للغاية».

أوكرانيا «رأس الأولويات»

الموقف الذي أعرب عنه المسؤولان الروسيان ينطلق من «الاستعداد للمناقشة والاتفاق على أي شيء باستثناء شيء واحد - أوكرانيا. (...) لقد عبّرنا عن موقفنا مراراً وتكراراً، وهو موقف لا يمكن تغييره». وفي هذا الإطار، لوّح لافروف بأنه إذا توصّلت روسيا إلى استنتاج مفاده أن واشنطن ستواصل دعم «النظام النازي المعادي في كييف» فإنها (أي موسكو) ستضطر إلى اتخاذ قرارات صعبة. في حين قال باتروشيف إن أوكرانيا «قد تختفي عن الخريطة خلال هذا العام» إذا استمرت السياسات الغربية السابقة.

الرسالة الروسية الثانية لترمب كان فحواها أن أي تسوية أو ضمانات لأوكرانيا، يجب أن تكون مرتبطة باتفاقيات أوسع نطاقاً. وهنا قال لافروف إن «روسيا مستعدة لمناقشة الضمانات الأمنية لأوكرانيا، لكنها يجب أن تكون جزءاً من اتفاقيات أكبر». بينما أوضح باتروشيف أنه بالإضافة إلى التوصل إلى ترتيبات أمنية في القارة الأوروبية «يجب وقف التمييز ضد السكان الروس في عدد من البلدان، وبالطبع، في دول البلطيق ومولدوفا».

أما النقطة الثالثة التي تحدّد شروط الحوار، فتنطلق من ضرورة البدء بمنح روسيا ضمانات كاملة عبر ملفي: وقف مسار ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الاطلسي (ناتو) وتأكيد حيادها لعشرات السنوات، وتقليص القدرات العسكرية لهذا البلد ومنع تسليحه مجدداً.

هكذا، ترى موسكو المدخل الصحيح للحوار، الذي يجب أن يتأسس - كما قال الرئيس الروسي سابقاً - على قاعدة الإقرار بالتغييرات الميدانية التي وقعت خلال سنتين، بما يضمن الاعتراف الغربي بضم شبه جزيرة القرم والمناطق الأربع التي ضمتها روسيا خلال عام 2022.

تشكل هذه القاعدة التي تنطلق منها موسكو سبباً وجيهاً للتوقعات المتشائمة حول فرص إحراز تقدم، تضاف إلى الشكوك المحيطة بقدرة ترمب الفعلية على تجاوز كل العقبات والضغوط الداخلية والانطلاق نحو تقديم تنازلات مهمّة للروس.

يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية،

لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية

التداعيات على أوكرانيا

كيف يتأثر الوضع في أوكرانيا؟

في هذا الإطار، وضع أحد أبرز خبراء السياسة في «المجلس الروسي للسياسة والأمن»، وهو مؤسسة مرموقة ومقربة من الكرملين، التصور التالي لشكل العلاقة مع ترمب في ملفات رئيسة:

بدايةً، في أوكرانيا ستفشل محاولة ترمب للتوصل إلى وقف إطلاق النار على طول خط التماس. وذلك لأن المخططات الأميركية لـ«وقف الحرب» تتجاهل تماماً المصالح الأمنية الروسية، كما تتجاهل الأسباب التي أدت أولاً إلى الأزمة ثم إلى الصراع العسكري واسع النطاق في أوكرانيا.

في المقابل، لن تقبل واشنطن الشروط الروسية لبدء المفاوضات ومعايير السلام التي أعلن عنها الرئيس فلاديمير بوتين في يونيو (حزيران) الماضي؛ لأنها تعني في الواقع استسلام كييف وهزيمة استراتيجية للغرب. وخلافاً لتوقعات التهدئة، فإن ترمب «المهان»، رداً على رفض خطته، سيعلن دعمه لأوكرانيا ويجمع حزمة أخرى من العقوبات على موسكو. لكنه في الوقت نفسه، سيمتنع عن التصعيد الجدي للصراع؛ كي لا يستفز روسيا ويدفعها إلى ضرب أراضي دول «ناتو»، بما في ذلك القواعد الأميركية الموجودة هناك. ومع هذا، ورغم غطاء الخطاب القاسي المعادي لروسيا، فإن المساعدات الأميركية لنظام كييف ستنخفض، وسيتعيّن على الأوروبيين تغطية العجز الناتج من ذلك. ومن حيث المبدأ، فإن الاتحاد الأوروبي مستعدٌ لذلك، وبالتالي لن يكون هناك خفض كبير في الدعم المادي لأوكرانيا من الغرب في العام الجديد على الأقل.

إلى جانب ذلك، قد تحاول واشنطن، وفقاً للخبير البارز، بدعم من بريطانيا وحلفاء آخرين، تعزيز الموقف السياسي الداخلي لنظام كييف من خلال المطالبة بإجراء انتخابات في أوكرانيا، وبالتالي استبدال فولوديمير زيلينسكي وفريقه المكروهين بشكل متزايد بمجموعة أخرى بقيادة رئيس الأركان السابق فاليري زالوجني. لكن التأثير السياسي المحلي لمثل هذا الاستبدال سيكون قصير الأجل.

العلاقة مع أوروبا

أيضاً، يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية، لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية. وهذا يعني أنه لن يحقق وعوده حيال علاقة الولايات المتحدة مع «ناتو»، وبدلاً من ذلك، سيرفع السعر الذي يتوجب على الأوروبيين دفعه للانضمام إلى التكتل.

ووفقاً لبعض الخبراء، سيكون لزاماً على الأوروبيين، الذين كانوا يخشون عودة ترمب، أن يقسموا يمين الولاء له. وبالتالي، «لن تكون هناك معارضة ضد ترمب بأي شكل من الأشكال؛ لأن دول الاتحاد الأوروبي تحتاج إلى أميركا زعيمةً: ليس فقط حاميةً عسكريةً، بل وأيضاً زعيمةً سياسيةً ــ لا تقل عن حاجتها إلى روسيا باعتبارها «تهديداً مباشراً على الأبواب».

بهذا المعنى، تتطابق آراء الخبراء في مسألة أن «العداء لروسيا سيظل العامل الحاسم في توحيد أوروبا في عام 2025».

ويضيف بعضهم القناعة بأنه خلافاً للفكرة الرائجة بأن الأوروبيين متردّدون في مواجهة روسيا، بشكل رئيس بسبب الضغوط الأميركية، فإن الحقيقة أن روسيا، باعتبارها عدواً، تشكل عاملاً قوياً في توحيد النخب الأوروبية ودولها. بمعنى أنه كان لا بد من «اختراع التهديد الروسي»، وتقديم الحرب في أوكرانيا باعتبارها المرحلة الأولى من «الاختطاف الروسي لأوروبا».

في السياق ذاته، ينظر إلى الانتخابات المقبلة في ألمانيا، بأنها ستحمل إلى السلطة ائتلافاً جديداً، سيعمل أيضاً على تشديد السياسة تجاه موسكو. ولكن في الوقت نفسه، من غير المرجح إرسال قوات أوروبية إلى أوكرانيا بناءً على دعوة من فرنسا، لأن أوروبا تنظر إلى خطر الصدام العسكري المباشر مع روسيا على أنه مفرط في المخاطرة.

وداخلياً، ينتظر أن تواصل أوروبا الاستعداد بنشاط للحرب مع روسيا - وفقاً لأنماط الحرب الباردة في النصف الثاني من القرن العشرين، لكن على حدود جديدة، تحولت بشكل كبير نحو الشرق. كذلك، سيزداد الإنفاق العسكري للدول، ويتوسع الإنتاج العسكري، وتتحسن البنية التحتية العسكرية، وبخاصة، على الجانب الشرقي لـ«ناتو». وبناءً عليه؛ سيصبح المناخ الاجتماعي والسياسي أكثر صعوبة أيضاً.

وهكذا، بشكل عام، يقول خبراء روس إن عام 2025 عموماً سيكون مليئاً بالصراعات، الممتدة من عهد ولاية الرئيس جو بايدن حول روسيا وفي أوروبا، كما سيكون محفوفاً بالمنعطفات غير المتوقعة والخطيرة.

ومع القناعة بأن الاضطراب الاستراتيجي يتزايد باطراد، فإن نتيجة المعركة من أجل النظام العالمي الجديد ليست مُحددة مسبقاً بأي حال من الأحوال. إذ إن نقطة التوازن الافتراضية في النظام العالمي لا تزال بعيدة كل البعد عن الأفق. وفي هذا الصدد، يرون أن روسيا ستواجه في عهد الإدارة الجديدة تحدّيات جديدة في العديد من المجالات... ولا بد أن تكون مستعدة لها.