يدخل الكاتب والباحث اللبناني أمين ألبرت الريحاني، الثمانين وفي حلقه «بقايا العلقم وطعم الكاراميل» معاً، لكنه يعرف «كيف يخفف من طعم العلقم ويزيد من طعم الحلوى»، أقله في ذاكرته التي «تسعده أحياناً وكثيراً ما تتعبه».
الثمانون ذريعة للتوقف عند سنوات «صفعته» صفعتين قاتلتين: «الأولى يوم خرجت أمي من جراحة في الرأس وهي مُقعَدة ونصف مشلولة. وظلت بيننا ترمينا بابتسامتها الملائكية، ومعها كل القول البليغ وكل بلسمة الجراح وكل التفاؤل الصعب، الذي يكاد يكون مستحيلاً. والصفعة الثانية يوم خطف البحر حوريتي الجميلة وهي في مطلع العشرين وفي سنتها الجامعية الثانية، حيث كانت تدرس الفن المسرحي إلى جانب كتاباتها الشعرية بالإنجليزية ورسم لوحاتها بكل اللغات والأبعاد والرؤى المتجذرة في أعماق الأرض. رحلت سيرين وتركت بين يدي كتابها (أوراق صامتة) وكتابي عنها (طقوس الماء)».
وماذا عن حلاوة السنوات؟ ماذا تبقى منها؟ يجيب: «يبقى قلمي الذي تعلم كيف يطوي الجراح مهما (تكسرَتِ النصالُ على النِصالِ). تعلمتُ كيف أستنجد بالقلم من مآسي الحياة القاسية التي، وإن لا ترحم، فهي تساعدك على حفظ مدوناتك التي تأنس لها وترتاح إليها، وتحيا بها على الدوام متخطياً جراحاتك، تواقاً إلى ما يشبه المستحيل في مقاومة القدر».
وبعيداً عن حلاوة السنوات ومرها، نسأل الأستاذ الجامعي المتخصص بالأدب المقارن، عن إمكان تحقيق نهضة اجتماعية في مجتمعات متهالكة لا منقذ لها؟ أيستطيع الشعر أو الأدب أو البحث أو الفلسفة القيام بـ«معجزات»، أم أن المسألة لا تعدو كونها نظريات لا تنتشل غريقاً؟ يقول: «إن لم تكن النهضة ممكنة فتلك كارثة فوق جميع الكوارث. على الناس أن تعي أنه لا بد من النهضة المرتقبة كي يتحقق الخلاص. إذ لا خلاص بلا نهضة، ولا نهضة اجتماعية بلا نهضة فردية أو شخصية. ولا نهضة شخصية بلا نهضة العقل. ونهضة العقل تستوجب هجرة من جُزرنا السياسية الصغيرة الضيقة وإبحاراً نحو الانتماء، بحيث ينتمي الفرد إلى الوطن قبل انتمائه إلى الفئات الاجتماعية المتشرذمة وسواها من الانقسامات. وحين يتقدم هذا الانتماء الوطني يصبح للشعر معناه، وللأدب أبعاده، وللبحث مفاعيله، وللفلسفة التأسيس لعماراتها الفكرية».
يرى الريحاني أن الصراعات الصغيرة تُضعف العطاء الفكري الإنساني وتلهي الناس بالقشور، فيقول: «غيرنا من الشعوب، شرقاً وغرباً، أدرك خطورة التلهي بالقشور وانصرف إلى تعزيز عطاءاته الفكرية التاريخية، وإلى مزيد من تعزيز نتاجه الشعري والأدبي والبحثي والفلسفي». وبالنسبة إليه، «الأوطان ليست بسلاحها، بل بقواها الإنتاجية. والحديث عن الإنتاج في أمة من الأمم، لا يستقيم أمره إذا لم نتوقف عند إنتاجها الاقتصادي، ونحن أهملناه تماماً. والإنتاج الاقتصادي لا يستقيم أمره إن لم يتعزز بالإنتاج الفكري، أدباً وشعراً وبحثاً وفلسفةً».
نعرف من كتابات الريحاني أنه ممن يقيمون الشعر العربي الراهن تقييماً سلبياً... لماذا؟ يجيب: «لأن العالم العربي يفتقد اليوم لمجلة كمجلة (شعر) تؤسس لحركة الحداثة الشعرية للقرن الحادي والعشرين. ولأن شعراء مجلة (شعر) لم نعد نصادف أمثالهم في لبنان ودنيا العرب ونحن في العقد الثالث من هذا القرن. ولأننا لم نعد نقع على مجموعات شعرية توازي بشعريتها (ماء إلى حصان العائلة/ شوقي أبي شقرا)، (الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع/ أنسي الحاج)، (أغاني مهيار/ أدونيس)، وسواها من مجموعات شكلت الحدث الثقافي البارز في النصف الثاني من القرن الماضي، وأثارت جدلاً لا ينتهي في شق الطريق نحو الحداثة العربية، في الشعر والرسم والنحت والموسيقى والمسرح ومنهجية التفكير العربي آنذاك... نحن اليوم في تراجع مخيف في شعرنا وآدابنا وفلسفتنا وفنوننا».
من هنا، أي رؤية يقترح لضخ الدماء في عروق حركة الشعر الحديث؟ برأيه، هذه المسألة تستوجب الجهد المتواصل لأنها «لا تقتصر على الشعر فقط، بل تتجاوزه إلى سائر العطاءات الإنسانية. ففي نظرة خاطفة إلى الثمانين، لا أتوقف عند مداد القلم، بنثره وشعره فحسب، بل أتذكر أغاني الحنين الآتية إلينا من كل اللغات والحضارات؛ فنسمع، حتى اليوم، ولو في الذاكرة المتعثرة، أوتار الحب تعزف على ميلوديا تشدك إلى مختلف طبقات العاطفة الإنسانية، سواء استقيتها من الشرق أو الغرب. وإذا ما بحثت عن شاعرية الشعر، فلا يقتصر الأمر على القصيدة وحدها، بل تراها في اللوحة المكابرة أو في المنحوتة المائية أو في العزف المتداخل وحقيقة النغم الشجي».
ويواصل بحسرة: «كنا نحفظ القصيدة أو الأغنية بعد سماعنا الأول أو الثاني لها، أما اليوم فيصعب أن تحفظها حتى بعد سماعها للمرة العاشرة. صحيح أن الذاكرة تتراجع مع العمر، لكن الكتابة الشعرية والموسيقية كانت تحفر فيها مكانة لا تُمحى وتتربع على موقع لا يغيب».
ونسأله أخيراً عن نشر كتبه... عن التداخل بين الكتابة والنشر، وما علاقته بالناشرين، فيجيب: «أشير هنا إلى أن المهنتَين كثيراً ما تداخلتا، فتعلم الناشر أن يكون كاتباً، كما تعلم الكاتب أن يكون ناشراً. وقيل إن غابريال غارسيا ماركيز لا يتكل كثيراً على الناشر، فيعمد إلى وضع برنامج لحملته الأدبية قبل ستة أشهر من صدور رواية جديدة من رواياته. وقيل إن مارك توين بدأ حياته الأدبية في البحث عن أقوى الناشرين، فإذا نجح مع أحدهم، فُتِحت أمامه طريق الشهرة واندفع إلى تأليف المزيد من كتبه ورواياته».
علمته الثمانون أن يجمع بين هموم الكاتب في البحث عن مواضيع تنبع من صميم تجربته، وهموم الناشر في البحث عن أفضل السبل لتسويق هذا الكتاب أو ذاك. «لكن من حُسن حظي أن الوالد كان يحتفل عند صدور أي كتاب من الكتب التي ينشرها بتوزيعه على كل الأوساط الصحافية والأدبية، كأن الكتاب الجديد هو من كتبه الشخصية. ومن حُسن حظي أيضاً أن عمي الذي ذاع صيته في الأوساط الأدبية الأميركية وفي أوساط العالم العربي، ككاتب نهضوي ومصلح اجتماعي، عرف كيف يعطي الأولوية للهدف الفكري من كتابه، ويعتبر أن النجاح مرتبط بأهمية ذلك الهدف. لذلك أقول إنني انطلقتُ من البيئة الحاضنة للتأليف والكتابة والنشر، ثم تدرجت على متابعة عملي الأدبي والفكري، بحيث توسعت علاقاتي مع ناشرين بالعربية من العالم العربي، وآخرين بالإنجليزية من أوروبا وسواها، تحديداً من ألمانيا والولايات المتحدة».
أمين ألبرت الريحاني: تعلمتُ كيف أستنجد بالقلم من مآسي الحياة
يتوقف في ثمانينياته عند سنوات صفعته صفعتين قاتلتين
أمين ألبرت الريحاني: تعلمتُ كيف أستنجد بالقلم من مآسي الحياة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة