هل يجوز أن يختلف الناس في تعريف القيَم الإنسانيّة الأساسيّة؟

يختبر الزوار النقل الآني في غرفة النقل الفضائي في منطقة المستقبل داخل متحف التكنولوجيا في كوريا الجنوبية الذي يوفر إحساساً واقعياً بالمستقبل من خلال Meta - verse وHigh Media Technology وغيرها من التقنيات المختلفة (إ.ب.أ)
يختبر الزوار النقل الآني في غرفة النقل الفضائي في منطقة المستقبل داخل متحف التكنولوجيا في كوريا الجنوبية الذي يوفر إحساساً واقعياً بالمستقبل من خلال Meta - verse وHigh Media Technology وغيرها من التقنيات المختلفة (إ.ب.أ)
TT

هل يجوز أن يختلف الناس في تعريف القيَم الإنسانيّة الأساسيّة؟

يختبر الزوار النقل الآني في غرفة النقل الفضائي في منطقة المستقبل داخل متحف التكنولوجيا في كوريا الجنوبية الذي يوفر إحساساً واقعياً بالمستقبل من خلال Meta - verse وHigh Media Technology وغيرها من التقنيات المختلفة (إ.ب.أ)
يختبر الزوار النقل الآني في غرفة النقل الفضائي في منطقة المستقبل داخل متحف التكنولوجيا في كوريا الجنوبية الذي يوفر إحساساً واقعياً بالمستقبل من خلال Meta - verse وHigh Media Technology وغيرها من التقنيات المختلفة (إ.ب.أ)

أفضى تطوّرُ الأوضاع الثقافيّة في كلّ مجتمع من المجتمعات الإنسانيّة إلى بناء أنظومة متناسقة متماسكة من القيَم الإنسانيّة الهادية. تأثّر هذا البناءُ بالاختبارات الوجدانيّة واللغويّة السائدة في بيئة كلِّ قوم على حدة. فصاغ الناسُ قيَمهم بالاستناد إلى قدرات التعبير المتوافرة في مخزونهم الثقافي الذاتيّ، وباستخدام المقولات الناشطة في مناقشاتهم ومطارحاتهم ومداولاتهم. فإذا بهم يستحسنون هذه القيمة أو تلك، ويؤثِرونها على غيرها من القيَم. لذلك؛ لا بدّ من التأمّل الهادئ في طبيعة هذه القيَم التي يستلهمها الناسُ في مجتمعاتهم من أجل تدبّر وجودهم، وتنشيط معيّتهم، وتفعيل مشاركتهم في بناء الحضارة الإنسانيّة الكونيّة المتضامنة المتكافلة المتكاملة.
من أخطر الأسئلة التي يطرحها العقلُ الاستفسارُ عن الاختلاف في تصوّر القيَم الإنسانيّة الهادية هذه. فهل يجوز لنا أن نفترض التباين الحادّ في القيَم المستخرجة أصلاً من المبادئ الثلاثة الأساسيّة العظمى التي يستند إليها الوجود الإنسانيّ، عنيتُ بها صون الحياة، ورعاية كرامة الإنسان، والائتمار بالعقل؟ ذكرتُ إذاً الحياة والكرامة والعقل. ولكن يمكننا أيضاً أن نذكر قيَماً أخرى أساسيّة أثبتتها شرعة حقوق الإنسان العالميّة، كالحرّيّة والمساواة والأخوّة والعدالة. من المغني أن نضيف أيضاً القيَم التراثيّة التي تعتصم بها بعضُ المجتمعات الإنسانيّة منذ أقدم العصور، كالمروءة والعزّة والشرف والأمانة والصدق والصبر والجود، أو القيَم الدِّينيّة التي رافقت صحوة الوعي الروحيّ، كالتغافر والتناصح والتضامن والتسالم والاستضافة والمجّانيّة والتضحية والإخلاء الذاتي والرجاء.
أعلم أنّ بضعاً من هذه القيَم ينتسب في الوقت عينه إلى مرتبة الفضائل أو يتعلّق في جوهره بانفعالات النفس. غير أنّ الناس يَعدّون الصبرَ قيمة، والجودَ قيمة، والرجاء قيمة. في جميع الأحوال، تنبسط أمامنا ضمّة من المعاني الإنسانيّة السامية التي ينادي بها الناسُ في جميع المجتمعات، ولكنّهم يحمّلونها من المضامين التعريفيّة والمحتويات التفصيليّة والمنطويات التطبيقيّة ما يجعلها تتحوّل إلى قضايا إشكاليّة خلافيّة. يعنيني في هذا المقام أن أستجلي ثلاثة ضروب من الإشكال الحضاريّ.
يرتبط الإشكال الحضاري الأوّل بمسألة ترتيب مقام الصدارة بين القيَم. شهيرة العبارة اللاتينيّة التي كانت منتشرة في القرون الوسطى تَعدِل بين قيَم الواحد والحقّ والصلاح (unum verum et bonum convertuntur). ذلك بأنّ فلاسفة القرون الوسطى كانوا يَعدّون الحقّ واحداً، والصلاح واحداً، والواحدَ حقّاً وصلاحاً. لا شكّ في أنّ التصوّر المِتافيزيائي هذا يصون وحدة العمارة الفكريّة ويرعى سلامة المنطق الفكريّ. غير أنّه يختزل الأمور اختزالاً خطيراً، ويُبطل تنوّع التجلّيات التي تستثيرها هذه القيَم في تضاعيف التاريخ. ومع أنّ الفلاسفة الإغريق الأقدمين كانوا يُصرّون على الوحدة العضويّة الناشطة بين قيَم الحقّ والخير والجمال، وينسبون إلى الصلاح الإلهي المطلق (agathon) الصدارة العظمى والقدرة التأصيليّة المبدئيّة، إلّا أنّ اختبارات الشعوب الثقافيّة ما برحت تناقض التصوّر التناغمي هذا. فهل يكون الصلاح قيمة القيَم؟ أم الحقّ؟ أم الجمال؟ أم الواحد الذي منه تنبثق الكثرة التاريخيّة؟ إذا أجمع قومٌ من الأقوام على منح الجمال مقامَ الصدارة، فهل نقبل بإخضاع الحقّ والصلاح لمقتضيات قيمة الجمال؟ والجمال، ما هو؟ أفيكون في الشكل أم في المضمون؟ هل يتجلّى في الحسّيّات والماديات والجسديّات؟ أم في الذهنيّات والنفسيّات والمعنويّات والروحيّات؟
يقودنا هذا الاستفسار إلى الإشكال الحضاري الثاني الذي ينشأ من التعارض بين القيَم الإنسانيّة في المجتمع الواحد والثقافة الواحدة. ذلك بأنّ كلّ فرد من أفراد المجتمع الواحد يتنازعه ضربان من الأمانة: الأمانة على قيَم المجتمع السائدة، والأمانة على قيَمه الذاتيّة أو الخلاصات الاقتناعيّة التي استصفاها من قيَم مجتمعه. فالمعلّم يستهدي بقيمة الإنارة المعرفيّة وقيمة الإنصاف بين تلاميذه. والممرّضة تستنير بقيمة الصحّة الجسديّة والنفسيّة وقيمة الانتعاش الكياني في حياة المريض. أمّا مدير المؤسّسة الإنتاجيّة، فيسترشد بقيَم الفعّاليّة والإتقانيّة والتنافسيّة، في حين أنّ المسؤول السياسي يعتصم بقيَم الحنكة والدهاء والحكمة التدبيريّة التي تصون مصلحة الدولة العليا وتؤازره في استدامة ولايته السياسيّة. قد ينشأ أيضاً تعارض حادٌّ بين قيَم الحرّيّة الفرديّة، وقيَم الواجب الوطني والانضباط المسلكي في الفضاء العموميّ. غالباً ما تتفاقم خطورة التعارض بين القيَم في حقل أخلاقيّات الحياة؛ إذ يرتبك الناس في الاختيار بين حلولٍ طبية لا تستطيع أن تشفي كلّ أسقام المريض الجسديّة والعقليّة والنفسيّة والروحيّة. من الواضح أنّ قيَم الاقتناع الذاتي غيرُ قيَم المسؤوليّة العامّة، وأنّ تنوّع المقامات الوجوديّة يستتلي تعارضاً بين القيَم المطلوبة.
أمّا الإشكال الحضاري الثالث، فينجم عن التعارض الأخطر بين القيَم التي تستند إليها الشعوبُ في تقرير مصيرها، وهداية وجودها، وتدبير حياتها. صحيحٌ أنّ جميع الأمم تحترم حرّيّة الإنسان. غير أنّ بعض المجتمعات تُخضِع الحرّيّة الفرديّة لقيَم التراث المنعقدة على صون العزّة القوميّة، وتعزيز التضامن الاجتماعيّ، والحفاظ على روح التراث الجماعيّ. صحيحٌ أنّ جميع الأمم تؤيّد قيمة المساواة. بيد أنّ بعض الثقافات ما انفكّت تسوّغ الاختلاف الأونطولوجي الطبيعي الشرعي القانوني الحقوقي بين الرجل والمرأة، بين السلالة الحاكمة والشعب المحكوم، بين الإنسان الأبيض والإنسان الأسود، بين المؤمن وغير المؤمن، بين الإكليرُس الكهنوتي الإفتائي من حاملي شعلة الألوهة المقدّسين وطبقة الناس العَلمانيين العاديين، بين الإنسان السليم الجسد والإنسان المعوّق، بين المعترفين بالاختلاف الجنسي والمقرّين بالمثليّة الجنسيّة.
وعلاوة على الاختلافات الخطيرة هذه بين تصوّرات القيَم في الحضارات الإنسانيّة المتنوّعة، تنشط ضروبٌ أخرى من التباينات تصيب جوهر المعنى الإنساني بحدّ ذاته. ذلك بأنّ الناس لا يُجمعون كلُّهم على تعريفٍ واحدٍ يتناولون به حقيقة الإنسان. من صلب الاختلاف الأنثروبولوجي هذا ينبثق التباينُ في تصوّر القيَم الإنسانيّة الهادية. فهل يكون الإنسانُ كائناً بيولوجيّاً يقتصر بنيانُ وعيه على تفاعل الخلايا العصبيّة في دماغه؟ أم يكون كائناً روحيّاً يتجاوز مجرّد النشاط الذهني ليتصوّر الحياة تصوّراً يجعله ينتسب إلى عالم غيبي خالدٍ يدخل فيه من بعد أن يكدح كدحه ويحجّ حجّه على هذه الفانية؟
خلاصة القول في هذا كلّه، أنّ المجتمعات الإنسانيّة لا يمكنها الاكتفاء بمجرّد الإجماع اللفظي على ضمّة من القيَم الإنسانيّة المنسلخة عن محاضنها الثقافيّة، وحقولها الوجدانيّة، وبيئاتها الاختباريّة، ومكتنفاتها التاريخيّة. يجب علينا أن ندرك اليوم أنّ جميع الثقافات لا ترضى بما سنَّه الشاطبي في كتاب «الموافقات» حين رسم أنّ ملَل الأرض اتفقت على ضروريّات الشريعة الخمس: الدِّين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل. يعلم الجميع أنّ الحضارة الغربيّة لا تضع الدِّين في مقام الضروريّات الوجوديّة المطلقة. وبعضهم يعتقد أنّها كفّت عن أن تضع النسل في مقام الصدارة؛ إذ إنّ حياة الإنسان الغربي لا تتحقّق بنسله، بل بفعل كيانه الذاتي وإنجازه الشخصيّ.
أقول هذا لأبيّن أنّ شرط الشروط في تسالم الحضارات الإقبالُ الرصينُ على البحث في مضامين القيَم التي تُجمع عليها، من غير أن تجرؤ فتنظر في التباينات الإدراكيّة الخطيرة التي تجعل الوفاق عسيراً في معترك التضامن الإنساني الكونيّ. يطيب لي أن أستحضر في هذا المقام ما استخرجه الفيلسوفُ اللبناني رُنِه حبشي (1915 - 2003) من جليل المقارنة بين القيَم التوحيديّة الثلاث؛ إذ نسب إلى اليهوديّة قيمة الاستضافة، وإلى المسيحيّة قيمة المجّانيّة، وإلى الإسلام قيمة التسامح، ودعا الجميع إلى بناء أنظومة أخلاقيّة متوسّطيّة تضمّ تراثات البحر الأبيض المتوسّط في مؤتلفٍ روحي يعزّز التكامليّة الروحيّة بين هذه القيَم.
أعتقد أنّ مثل هذه الاجتهادات تساعدنا في استصفاء الجواهر الأخلاقيّة التي تزخر بها الحضارات الإنسانيّة. غير أنّها لا تُعفينا من مسؤوليّة النظر الحصيف في رسم الحدود الفاصلة بين الغنى التأويلي والإفراغ التعطيليّ. أعني بذلك أنّ قيمة الحرّيّة، على سبيل المثال، تغتني بتأويلات الحضارات الإنسانيّة واختبارات شعوبها. غير أنّها توشك أن تفقد قوامَها التطلّبي ومضمونَها الاستنهاضي إذا ما أصرّت بعضُ المجتمعات على إفراغها من أصالة منطوياتها اللصيقة بجوهرها. ومن ثمّ، ليس لنا أن نخشى الاختلاف في فهم القيَم الإنسانيّة، ولكن يجب علينا أن نصون طاقة الارتقاء في هذه القيَم؛ إذ إنّ كلّ ما يرتقي في مختبر الوجود الإنساني يعود فيلتقي في قمم الكمال المنشود.

- مفكر لبناني



الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
TT

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)

بخلاف الناس في البلدان الأخرى وحتى تلك التي تشهد حروباً، لا يملك أهالي قطاع غزة بعد عام على الحرب الإسرائيلية المجنونة عليهم، ترف الحزن على أحبائهم وبيوتهم وذكرياتهم. لقد فقدوا البلد، كل البلد بكل ما فيها: البيوت، والحارات، والشوارع، والناس، والمساجد، والكنائس، والمحال، والمستشفيات، والمدارس والجامعات... كل شيء أصبح كأنه مجرد ذكرى من حياة سابقة، وهم نفدت طاقتهم على الحزن.

لا يعرف الغزيون اليوم ماذا ينتظرهم، لكن بخبرة العارفين بالحروب، يدركون جيداً أن بؤس الحرب لا ينتهي مع وقف إطلاق النار. إنه بؤس ممتد، تغلّفه أسئلة كثيرة: مَن يعيد الأحبَّة والبلاد؟ مَن يبني البيوت؟ كم سنعيش في الخيام؟ من أين وإلى متى وكيف سنؤمّن قوت من بقي حيّاً من أبنائنا؟ والحال أن كثيرين لا تشغلهم هذه الأسئلة لأنهم مرهقون بأسئلة أصعب، أين يجدون جثامين أحبائهم؟ ومتى قد يلتقون أحباء مفقودين؟ وكم سيصمدون على قيد الحياة أصلاً؟

إنها أسئلة الحرب المدمّرة التي تدخل عامها الثاني، وهي حرب غيَّرت إلى حد كبير تفكير الغزيين حول كل شيء.

«الشرق الأوسط» جالت على مَن بقي ورصدت ماذا غيَّرت الحرب في فكر سكان القطاع وعقولهم وقلوبهم.

ليس الكثير فيما يتعلق بحب البلد والعداء لإسرائيل، لكن الكثير والكثير فيما يتعلق بمستقبلهم، ومَن يحكمهم، وإذا كانت الهجرة أفضل أم البقاء.

أطفال فلسطينيون هاربون من قصف إسرائيلي استهدف مكان نزوحهم في رفح (أ.ف.ب)

حلم الهجرة والأمان

يلخص تفكير أيسر عقيلان، وهو خريج كلية التجارة من الجامعة الإسلامية في غزة، ونازح من مخيم الشاطئ غرب المدينة إلى خان يونس جنوب القطاع، ما يجول في عقل كثيرين من الشبان مثله.

قال عقيلان (27 عاماً) لـ«الشرق الأوسط» إنه يخطط لمغادرة القطاع في أي لحظة. وحاول عقيلان كثيراً الحصول على مبلغ 6 آلاف دولار، لتأمين سبيل سفر عبر معبر رفح، إلى مصر ثم البحث عن حياة جديدة، لكنه لم ينجح.

وقال الشاب: «في أول فرصة سأغادر. لم أكن قادراً على العمل قبل الحرب، والآن لا أعتقد أن ذلك سيكون ممكناً أبداً. لا توجد أعمال. لا يوجد بلد أصلاً. لقد دمَّروا كل شيء». وحسب الإحصائيات التي تصدر عن جهات حكومية وأهلية مختصة، فإنه حتى قبل الحرب، كان أكثر من 64 في المائة من سكان قطاع غزة يعانون البطالة وانعدام فرص العمل، واليوم يعتقد أن هذه النسبة باتت شبه كاملة. ورغم صعوبة الحياة قبل الحرب لم يفكر عقيلان في الهجرة، لكن «وجهة نظره في الحياة» تغيرت في أثناء الحرب، كما قال.

ومن يتحدث لأهالي غزة لا يفوته أن غالبية الجيل الشاب ترغب في الهجرة، والبحث عن مستقبل جديد، غير آبهين بما سيصبح عليه الحال في القطاع. وقال باسل سالم (31 عاماً)، الذي حالفه الحظ بالخروج من غزة مع زوجته وطفلته الوحيدة: «لم يبقَ أمامي أي خيارات أخرى. كل ما فكرت فيه هو إنقاذ زوجتي وابنتي من جحيم الحرب».

كان سالم قد فقد شقته السكنية التي امتلكها قبل الحرب بقليل وهو سبب آخر دفعه للهجرة، موضحاً لـ«الشرق الأوسط»: «لم يعد هناك بيت يؤويني، تشردنا وتعبنا ومرضنا وشعرت أني وسط كابوس لعين». ونجح الآلاف من الغزيين خصوصاً الغزيين، ممن يحملون جنسيات مزدوجة، في السفر قبيل سيطرة إسرائيل على معبر رفح، ووصلوا إلى بلدان مختلفة، في حين استقر آخرون لا يملكون جنسيات أخرى، داخل مصر، وبعضهم في تركيا. ويعمل سالم في مجال التصميم والغرافيك؛ الأمر الذي سهَّل سفره إلى الخارج من أجل الحصول على فرصة عمل تتيح له الاستمرار بحياة أفضل. ولا يجد سالم كلمات تصف «الأمان» الذي يشعر به مع عائلته: «هذا أهم ما في الحياة».

وفي وقت تغيب الإحصاءات الدقيقة لمن هاجروا إبان الحرب وخلالها، يذهب بعض التقديرات الأهلية إلى أن العدد الإجمالي يزيد على 220 ألفاً.

ومثل سالم لا تخطط إيمان ساقلا (59 عاماً) التي كانت في رحلة علاج خارجية مع بدء الحرب على غزة، للعودة، بل نجحت في التنسيق لإنقاذ أفراد أسرتها وإحضارهم إليها في مصر لكونها تحمل الجنسية المصرية، لكن أيضاً بعد دفع مبالغ طائلة. وقالت ساقلا: «لم يعد لنا في غزة مستقبل. ربما نعود إليها بعد أعوام، لكن الآن لا يوجد سوى الموت والدمار والخراب».

وبينما يرى سالم وساقلا أنهما قد نجوا بنفسيهما وأسرتيهما من جحيم الحرب، يعيش مئات الآلاف من الغزيين، خصوصاً الشبان، في ظروف صعبة ويمنّون النفس بالمغادرة. لكن ليست هذه حال كل الغزيين بالطبع.

سمير النجار (52 عاماً) من سكان بلدة خزاعة، شرقي شرق خان يونس، والذي فقد منزله بعد تجريفه من آليات إسرائيلية، وبات مشرداً ونازحاً في خيمة أقامها غرب المدينة، قال إنه يفضل البقاء في القطاع، وينتظر انتهاء الحرب كي يستصلح أرضاً كان يزرعها.

رجل فلسطيني يسقي نباتاته في جباليا (رويترز)

وقال النجار: «أفهم الذين ينوون الرحيل من هنا. لكن أنا أفضّل الموت هنا. لا أعتقد أن لديّ فرصة لتأسيس حياة جديدة خارج القطاع. كل ما أريده من الحياة هو إعادة بناء واستصلاح أرضي... ولا شيء أكثر».

والنجار واحد من مئات الآلاف الذين فقدوا منازلهم في غزة. ووفقاً لتقديرات أممية حتى شهر أغسطس (آب) الماضي، فإن نحو ثلثي المباني في قطاع غزة تضررت أو دُمرت منذ بدء الحرب، وأن القطاع يحتاج إلى أكثر من 15 عاماً حتى يتم إعادة إعماره. ويتطلع النجار لإعادة الإعمار، ويعتقد أن أي جهة قادرة على إعادة الإعمار هي التي يجب أن تحكم غزة.

وأضاف: «بعد كل هذه الحروب. نريد أن نعيش. بصراحة لم أعد أكترث بالحرب ولا السياسة ولا من يحكمني. أنا أريد العيش فقط. العيش بعيداً عن الحروب والقتل والدمار».

وتتفق نجوى الدماغ (47 عاماً) مع النجار ولا تفكر بمغادرة القطاع، لكنها تمنّي النفس بحياة أفضل.

وقالت الدماغ لـ«الشرق الأوسط» إنها تفضّل البقاء في غزة، لكنها تريد السلام والأمن. وأضافت: «تعبنا من الحروب. أعتقد ما ظل فينا نَفَس. صار وقت نعيش بسلام».

ولا تهتم الدماغ بمن يحكمها، «المهم أن نعيش مثل بقية البشر». وهذا شعور انتقل تلقائياً لابنتها إيمان (22 عاماً) التي خرجت من هذه الحرب وهي لا تثق بأي فصيل فلسطيني سياسي.

وقالت إيمان: «كلهم (الفصائل) يبحثون عن مصالحهم الشخصية ولديهم أجندات. لا أحد يفكر أو يهتم للناس». وبخلاف والدتها، تسعى إيمان للهجرة وبناء حياة جديدة في الخارج «بعيداً من تجار الحروب والدم»، كما قالت.

دمار بمقرّ المجلس التشريعي الفلسطيني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

وبينما يعيش مئات آلاف من الغزيين في مخيمات نزوح موزعة في كل قطاع غزة، تعيش الأغلبية الباقية في منازل شبه مدمَّرة أو نازحين عند أقاربهم، ويعانون مجاعة حقيقية وغلاء أسعار فاحشاً، والكثير من الفوضى التي عمقت شكل المأساة في القطاع. وقال كثير من الغزيين الذي سألتهم «الشرق الأوسط» عن مستقبلهم إنهم لا يفضلون الفصائل ويتطلعون إلى «حكومة مسؤولة»، وفق تعبيرهم.

وشرح الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم، ذلك بالقول إن الغزيين لم يعودوا يهتمون بما تتبناه الفصائل وحتى السلطة الفلسطينية من شعارات «ليس لها من الواقع نصيب». وأضاف: «هم يفضّلون جهة تحكمهم قادرة على وقف نزيف الدم وأن تعيد بناء منازلهم وتوفر لهم فرص عمل يستعيدون بها حياتهم». ورأى إبراهيم أن «الأفق السياسي لليوم التالي للحرب ما زال غامضاً ولا يمكن التنبؤ به؛ مما شكّل حالة من اليأس لدى السكان ودفعهم لعدم الاهتمام بمن يحكمهم بقدر اهتمامهم بمصيرهم ومستقبل حياتهم في اللحظة التي تتوقف فيها الحرب».

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

ويرى إبراهيم أن السكان في غزة ملّوا من الصراع مع إسرائيل والحرب التي تتكرر كل بضعة أعوام، واليوم أصبحوا أكثر من أي وقت مضى يفكرون بالهجرة في حال أُتيحت لهم فرصة حقيقية. وأضاف: «الكلام الذي لا يقوله أهل غزة على الملأ هو: لماذا نحن؟ القضية الفلسطينية والقدس والأقصى ليست قضيتنا وحدنا... فلماذا وحدنا نموت؟».