في أقصى شمال شرقي مدينة «الحجر الأسود» التي كانت معقلاً رئيسياً لتنظيم «داعش» في جنوب دمشق، كان الضجيج على أشده على خلفية قيام فريق عمل الفيلم السينمائي الصيني (Home Operation) أو «عملية الديار» بتصوير مشاهد من الفيلم وسط أحياء لا يزال دمار الحرب يخيم عليها.
وتقع «الحجر الأسود»، جنوب العاصمة السورية، وتتبع إدارياً محافظة ريف دمشق، ويحدها شمالاً مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين التابع إدارياً لمحافظة دمشق، وجنوباً بلدة السبينة، وشرقاً بلدتا يلدا وببيلا، وغرباً حي القدم الدمشقي. وتنقسم المدينة إلى حيين؛ شرقي يطلق عليه «حي تشرين» وغربي يسمى «حي الثورة».
كانت المدينة التي تعد إحدى بوابات الريف الجنوبي لدمشق، أكبر تجمع لنازحي الجولان المحتل منذ حرب يونيو (حزيران) 1967، وكانت من أولى المناطق التي شهدت الاحتجاجات ضد النظام في ربيع عام 2011، قبل أن تسيطر عليها فصائل المعارضة عام 2012، ثم تنظيم «داعش» منذ منتصف عام 2015، ولغاية 2018 عندما تمكن الجيش النظامي، بالتعاون مع الحليف الروسي، من استعادة السيطرة عليها، بعد قصف عنيف دمر أكثر من 80 في المائة من مبانيها.
ويُطلق على المنطقة التي اختارها الفريق الصيني لتصوير مشاهد الفيلم المفترض أن وقائعه تجري في دولة وهمية اسمها «بومان»، منطقة الناحية، وتقع في الجهة الشمالية الشرقية لحي تشرين، وتشكل جزءاً من الحدود الإدارية لـ«الحجر الأسود» مع مخيم اليرموك. وإذا كان أغلب المباني في المدينة طالها الدمار، إلا أن نسبة الدمار في منطقة الناحية التي توجد فيها مؤسسات حكومية منها مركز الناحية ومقسم الهاتف، بالإضافة إلى عدد من المدارس، أكبر مما هي عليه في المناطق الأخرى.
ويتم الدخول إلى «الحجر الأسود» إما من شارع الثلاثين أو من شارع اليرموك الرئيسي والاتجاه منه جنوباً، أو من بلدتي يلدا وببيلا، أو من حي القدم أو بلدة السبينة. وبينما كانت مداخل المدينة من يلدا وببيلا وحي القدم والسبينة شبه خالية من النازحين الذاهبين لتفقد منازلهم خلال جولة قامت بها «الشرق الأوسط» في المنطقة، بدا شارع مشحم عامر، وهو أحد مداخل «الحجر الأسود» الشمالية، وتقع في نهايته منطقة الناحية، خالياً أيضاً سوى من الدمار وحارس يمنع القادمين من النازحين لتفقد منازلهم من الدخول بسبب عمليات تصوير الفيلم، الأمر الذي يجبرهم على قطع مسافات كبيرة للوصول إليها، وذلك عبر شارع آخر يتبع مخيم اليرموك، ويصل في نهايته إلى الجهة الجنوبية من «الحجر الأسود».
ويشاهد الزائر من بداية شارع مشحم عامر، البالغ طوله ما بين 250 - 300 متر، بعض أعضاء فريق عمل التصوير وممثلين، ويسمع ضجيجاً ناتجاً عن عمليات التصوير، بينما يسمح الحارس لمجموعات ممن يُطلق عليهم بـ«المعفشين» (الذين يسرقون «العفش» أو أثاث منازل فارغة) بمتابعة عمليات «التعفيش» فيه. ويتضح المشهد أكثر في مكان التصوير، إذ انتشر فيه فريق العمل الصيني وممثلون ثانويون سوريون، ارتدى بعضهم الزي اليمني، وقد لاذ أغلبهم إلى جوار الأبنية المدمرة بشكل جزئي لاتقاء حرارة الشمس الحارقة فيما بدا أنها فترة استراحة. كما شوهدت في المكان دبابات وآليات عسكرية، وقد تم وضعها وسط الأبنية المدمرة.
وبينما كان أغلب النازحين ممن يتم منعهم من دخول شارع مشحم عامر لتفقد منازلهم يعودون أدراجهم من حيث أتوا، آثر قلة منهم قطع المسافة الطويلة عبر حي التقدم ودخل لتفقد منزله. قال أحدهم بحسرة لـ«الشرق الأوسط» أثناء وصوله إلى منزله، «فقط في سوريا الدخول (إلى المدينة) محرم على أهلها ومسموح للأجانب! لم نسمع أن هذا حصل في أي بلد آخر». وأضاف: «أليس أفضل لهم (الحكومة) من السماح للأجانب بتصوير الدمار، أن يعيدوا بناء المنطقة ويسمحوا للأهالي بالعودة، ومن ثم يتم تصوير فيلم عن العودة».
ويلفت الانتباه في داخل المدينة انتشار عدد كبير من مجموعات تضم الواحدة ما بين 5 - 7 أشخاص أغلبهم من الأطفال والنساء وتقوم بـ«تعفيش» ما تبقى في المحال التجارية والمنازل من خردة الحديد وبقايا الأثاث المنزلي وتجميعها في الطرق، بينما يعمل آخرون على تحميلها في شاحنات كبيرة تتجه إلى دمشق.
والفيلم الصيني مستوحى في الواقع من عملية إجلاء جماعي نظمتها الصين في عام 2015 لمئات المواطنين الصينيين والأجانب من اليمن، فأخرجتهم على متن سفن للبحرية الصينية من البلد الغارق في حرب مدمرة تسببت فيها الميليشيات الحوثية منذ عام 2014.
ووجد المشرفون على الفيلم الذي تساهم شركة إماراتية أيضاً في إنتاجه، أن اليمن مكان غير آمن للتصوير، فارتأوا تصوير بعض مشاهده في سوريا.
ولا تعد هذه المرة الأولى التي يتم فيها استثمار مشاهد الدمار المؤسفة في سوريا، في تصوير أعمال سينمائية وتلفزيونية، فقد كان المخرج السوري نجدت أنزور، السباق إلى تصوير أعماله التي تروج لروايات النظام عن الحرب السورية في عدة مناطق مدمرة، أبرزها داريا والغوطة الشرقية. كما صور عدد من المخرجين السوريين، مثل جود سعيد وباسل الخطيب وغيرهما، أعمالاً في مناطق بحمص وحلب قبل أن تحط الحرب أوزارها.
وإن كان نجم الألعاب القتالية جاكي تشان المنتج الرئيسي للفيلم الصيني، إلا أنه لن يحضر إلى سوريا للمشاركة في تصوير الفيلم الذي يقدم على أنه يسلط الضوء على دور السلطات الصينية في عملية الإجلاء الكبيرة من اليمن. وهذا ما أكده المخرج ينشي سونغ، خلال عمليات التصوير، إذ قال للصحافيين إن الفيلم «ينطلق من وجهة نظر الدبلوماسيين من الحزب الشيوعي الذين تحدوا وابل الرصاص في بلد تمزقه الحرب، واستطاعوا نقل جميع المواطنين الصينيين سالمين على متن سفينة حربية».
وقال المخرج المنفذ في سوريا رواد شاهين لوكالة الصحافة الفرنسية، «تحولت مناطق الحرب في سوريا إلى استوديو سينمائي يجذب المنتجين لتصوير أفلامهم». وأضاف: «بناء أماكن مشابهة مكلف جداً، هنا يوجد استوديو جاهز ومناسب لأي شخص يرغب بتصوير أي مشهد مرتبط بالحرب».
ولن يقتصر تصوير الفيلم الصيني على الحجر الأسود، بل سيشمل مناطق أخرى شهدت معارك مدمرة بينها مدينتا داريا ودوما بريف دمشق، ومدينة حمص في وسط البلاد. ومن المفترض أن يستمر التصوير في سوريا لمدة 45 يوماً، وفق المنتج المنفذ للفيلم زياد علي، على أن ينتقل إلى مواقع أخرى خارج سوريا.