السودان: مخاوف من التشظي في حروب قبلية مدارة سياسياً

يتساكن في النيل الأزرق السكان الأصليون والوافدون من ولايات و«هوسا» ذات الامتداد النيجيري

محتجون من قبيلة «الهوسا» في مدينة الأُبَيض حاضرة إقليم كردفان أمس (أ.ف.ب)
محتجون من قبيلة «الهوسا» في مدينة الأُبَيض حاضرة إقليم كردفان أمس (أ.ف.ب)
TT

السودان: مخاوف من التشظي في حروب قبلية مدارة سياسياً

محتجون من قبيلة «الهوسا» في مدينة الأُبَيض حاضرة إقليم كردفان أمس (أ.ف.ب)
محتجون من قبيلة «الهوسا» في مدينة الأُبَيض حاضرة إقليم كردفان أمس (أ.ف.ب)

قبل أن يفيق السودانيون من صدمة القتال الأهلي الجاري في ولاية غرب دارفور، فإذا هم يفاجأون بالعنف الذي يحمل «البصمة» ذاتها، يتفجر في ولاية النيل الأزرق، ويؤدي لمقتل العشرات وإصابة المئات بجراح، ونزوح الآلاف إلى خارج مناطقهم، هرباً من الاشتباكات المسلحة التي شبت بين مجموعتي «هوسا» و«همج» وقبائل «أنقسنا» المتساكنين في الإقليم منذ مئات السنين، قبل أن يتمدد إلى عدد من ولايات السودان الأخرى، بما فيها العاصمة الخرطوم.
بدأ الصراع أول الأمر بحملات تحريض موسعة بين المجموعتين، إثر منح مجموعة «هوسا» «النظارة»، وهي أعلى الإدارة الأهلية في المنطقة المحددة، ويخضع لها عدد من «العموديات»، وعادة ما يكون لـ«النظارة» أرض تخصها يطلق عليها محلياً «حاكورة». وقفت ضد هذا التوجه، المكونات التي تزعم أنها من «السكان الأصليين»، وهم ضد «الهوسا» الذين يعدونهم من الوافدين، ثم تطور إلى نزاع دامٍ بين المجموعتين، قتل فيه حتى اللحظة العشرات. وتداعت قبيلة «هوسا» في كل أنحاء السودان لنصرة منسوبيها، وخرجت مظاهرات منددة بما حدث لمجموعتهم في النيل الأزرق.
وتتساكن في النيل الأزرق مجموعة «السكان الأصليين»، وهم قبائل «الأنقسنا»، و«الهمج»، و«الوطاويط»، إلى جانب مجموعة من الوافدين من الولايات الأخرى، إضافة إلى قبيلة «هوسا» ذات الامتداد النيجيري، والتي وفدت إلى السودان قبل مئات السنين، وأصبحت جزءاً من نسيجه الاجتماعي، وتشكل ثقلاً ديموغرافياً كبيراً في الولاية.
وظلت هذه المجموعات متعايشة بسلام منذ الدولة السنارية التي تأسست عام 1504؛ لكن بعد نشوب التمرد الجنوبي اختارت مجموعة من القبائل الانحياز لجنوب السودان في الحرب الأهلية، بينما ظلت القبائل الأخرى على انتمائها للمركز في الخرطوم، ومن هنا دخلت السياسة أسوار القبلية، وتطور الصراع من صراع على الموارد إلى صراع «سياسة» ونفوذ.
وعندما استولى «نظام الإخوان» على السلطة بانقلاب الرئيس المعزول عمر البشير على الحكم في السودان 1989، اشتغلوا على سياسة إعادة التخطيط الاجتماعي والديموغرافي في السودان، فأعادوا للإدارة الأهلية سطوتها التي فقدتها في عهد حكم الرئيس الأسبق جعفر النميري، وسعت لتوظيفها سياسياً، فقربت بعض المجموعات القبلية على حساب مجموعات أخرى.
واشتغل الإنقاذيون على المجموعة العربية ضد المجموعات الأفريقية المعروفة بـ«الزرقة»، ونتج عن ذلك حرب دارفور، ثم انتقلت بهذه السياسة (فرق تسد) إلى شرق البلاد وجنوبها؛ بل ووسطها، قبل أن تؤدي تلك السياسة لفصل جنوب السودان في عام 2011، وتكوين دولته المستقلة.
بعد هدوء نسبي للنزاعات القبلية والأهلية في السودان بعد ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018، فإن باستيلاء الجيش على السلطة مجدداً في 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021، عادت السياسات القديمة بحثاً عن تأييد ومرجعية سياسية، ما أدى لتأجيج النزاعات القبلية مجدداً، فاندلعت نزاعات دامية في ولاية غرب دارفور، برغم توقيع اتفاقية سلام جوبا، ومشاركة قادة التمرد الدارفوري في الحكم.
وتشير تقارير صحافية إلى «أصابع» قادة عسكريين، وعلى وجه الخصوص من «قوات الدعم السريع»، ومن الجيش، وهي تتلاعب بالأحداث في دارفور مجدداً، مدعومة بتحالفها مع الحركات المسلحة عدوها السابق، ومحاولاتهم المستميتة لإعادة تعيين الخريطة الديموغرافية في الإقليم وملكية الأراضي، وأدى ذلك لصدامات مسلحة بين المجموعة الأفريقية والعربية تحت ذريعة الصراع التقليدي، ونتج عنها مقتل المئات وجرح ونزوح الآلاف مجدداً.
ونقلت تقارير صحافية محلية أن أحداث النيل الأزرق ما هي إلا تمظهر لـ«الأصابع» التي تلاعبت بالتركيبة القبلية والسكانية في دارفور، بدعم مجموعات سكانية على حساب مجموعات أخرى، وهو ما دفع الحزب الشيوعي السوداني لتوجيه اتهامات مباشرة لـ«الحركة الشعبية لتحرير السودان» جناح مالك عقار، عضو مجلس السيادة الحالي، بمحاولة استمالة مجموعة «هوسا» ذات الكثافة السكانية الكبيرة لجانبه، وفي سبيل ذلك وعدهم بـ«نظارة» على حساب النظارات التقليدية في المنطقة التي تقوم على الأرض.
من جهته، حمّل رئيس الحزب «الاتحادي الموحد» وأحد قادة ثورة ديسمبر البارزين، محمد عصمت، المسؤولية عن اشتعال الحرائق في ولايات النيل الأزرق والبحر الأحمر وغرب دارفور، ومن ثم كسلا، مباشرة على «النظام الانقلابي» وأنصاره من أنصار النظام البائد وحلفائهم، لتحقيق غرض استمرار السلطة الانقلابية القادرة على بسط الأمن.
وتوقع عصمت أن تسارع السلطة الحاكمة خلال الأيام القليلة القادمة إلى فرض حالة الطوارئ مرة أخرى بعد أن رفعتها صورياً، وقال: «ربما نشهد تعيين حكام عسكريين للولايات، بما يمكّن الجيش من بسط سلطته، وتصدير فكرة إلى الشعب السوداني وللمجتمع الدولي تقول إن الأوضاع في البلاد لا تحتمل غير سلطة قادرة على بسط الأمن».
وأسند عصمت فكرته إلى «غياب الأجهزة الأمنية» ومماطلتها في التحسب للأحداث وإخمادها قبل اشتعالها، وأضاف: «هذا يعني أن السلطة قد أغمضت عيونها الأمنية عن هذه الأحداث المتوقعة، ما أدى لنشوب اشتباكات قبلية بشكل شبه يومي؛ بل دخول أطراف قبلية لم تكن جزءاً من الصراعات القبلية المتوارثة».
واتهم القيادي البارز «السلطة المركزية» بتوزيع «هبات إدارية» على قيادات الإدارة الأهلية من «نظار وعمد وشراتي» من الموالين لها، محاولة بذلك تعظيم دورها السياسي، في الوقت الذي تحرم فيه بعض القبائل من «رتب» النظارات والعمد والشراتي، وقال: «وجهت قيادات من المجلس الأعلى للبجا والنظارات المستقلة، اتهامات مباشرة وصريحة لمسؤولين كبار بتقديم (رشاوى) لبعض أفراد وقيادات التنظيم، وذلك أحدث شرخاً واضحاً بين أبناء البجا في الشرق».
ورأى عصمت أن ما يحدث بكل معطياته: «يقودنا إلى أن السلطة الحاكمة تسعى من وراء هذه الأحداث إلى إشعال الحرائق في السودان، حتى تستطيع تهيئة الأجواء لاستمرار الانقلاب»، والأسبوع الماضي اتهمت مجموعة داخل المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة، عرفت بمجموعة «أوبشار»، مسؤولاً كبيراً في الدولة بدفع رشاوى لتفتيت المجلس، وقالت إن مستشاري هذا المسؤول يوزعون الأموال والرشى على شباب في الشرق عبر التطبيقات البنكية، لزيادة الشقة بين أطراف البجا، وانحياز متلقي الرشاوى لطرف دون الآخر.
إلى جانب ما أفاد به عصمت، فإن لجان المقاومة في مدينة الدمازين، حاضرة «النيل الأزرق»، اتهمت الأجهزة الأمنية بـ«التقصير» والتقاعس عن دورها في الحماية الاستباقية للمواطنين وحفظ أمنهم وسلامتهم، وإيقاف فتيل الفتنة والفرقة، واعتبرتها «شريكاً أساسياً في إزهاق أرواح المواطنين العزل»، واعتبرت تصرفها استمراراً لسياسات سابقة وسيرهم في خطى ونهج «نظام الكيزان الساقط، بافتعاله الدائم للفتن والصراعات القبلية لتمرير أو خلق توازنات سياسية جديدة».
لم تتحرك القوات الأمنية لدرء الفتنة إلا بعد مرور أيام من القتل والاحتراب، وهو ما وصفته لجان المقاومة بـ«السكوت المتعمد من قبل سلطات حاكم الإقليم»، واعتبرت القرارات المتأخرة الصادرة من سلطة الأمر الواقع «هروباً للأمام، ومحاولة لتعليق المسؤولية في شماعة غيرها»، وهذا ما أكده ظهور رئيس أركان الجيش وإعلانه «التزام القوات المسلحة بواجباتها الدستورية ومهامها الوطنية بحماية البلاد، وعدم التفريط في أمنها واستقرارها»، «بعد أن بلغ الدم الركب».
ويتهم كثيرون قوات الجيش والشرطة، بأنها لم تتحرك إلا بعد أيام من القتال في النيل الأزرق، ولم تتحرك إلا بعد أسابيع من القتال في غرب دارفور، وأسابيع من القتال في جنوب كردفان؛ بل وفقاً للمعارضة فإنها تواطأت مع أحداث الشرق، ليكتمل هلال التوتر على طول غرب وجنوب وشرق السودان؛ بل وامتد حتى إلى بعض الوسط والشمال، ولوحظت بوادر نزاع في «البطانة» ضد موالين لحركة مسلحة، واضطراب بين مجموعات سكانية في شمال السودان ومجموعات وافدة.
وقال المحلل السياسي أحمد خليل، إن «السلطة في الخرطوم وظفت التوتر القبلي لإشعال حروب أهلية بين من أطلق عليهم مجموعات أحفاد سلاطين (الأنقسنا) وقبيلة (هوسا)». وأضاف: «(الهوسا) بحكم طبيعتهم مسالمون ونشطون، ويعملون في النشاط الاقتصادي والخدمي، ما جعلهم يسيطرون على الاقتصاد والتجارة في الإقليم، وهو الأمر الذي يثير على الدوام حفيظة بقية المكونات».
وتعد مجموعة «هوسا» من أهم قبائل أفريقيا، ويبلغ عديدها في كل القارة أكثر من عشرة ملايين، وتعيش في حزام يمتد في نيجيريا والسنغال والسودان، وقد قدموا إلى السودان منذ مئات السنين، بعضهم على شكل هجرات جماعية وبعضهم عن طريق الحج الذي يعبر من غرب أفريقيا إلى الأراضي المقدسة، ويبلغ عددهم في السودان نحو 3 ملايين، يدينون بالإسلام على الطريقة «التجانية»، وتمتد أماكنهم من دارفور إلى النيل الأزرق والقضارف وكسلا وسنار، وأسهموا بشكل كبير في رفع الوعي الديني بتشييد «الخلاوي» لتحفيظ القرآن الكريم، والتي تطورت في وقت لاحق للتعليم النظامي.
ويجمع المراقبون والمحللون والمعارضون على أن أحداث الدمازين ليست معزولة؛ بل هي جزء من سياسة «شد الأطراف» المدروسة والمخططة، ويقولون إنها تمتد في حزام قاعدته في دارفور، يمر بجنوب كردفان والنيل الأزرق وكسلا والقضارف، ليبلغ بورتسودان في أقصى الشرق، حين يندلع القتال في أحد أطرافه سرعان ما تتمدد نيرانه في الهشيم العشائري محدثاً حرائق هائلة، وقبل أن تنطفئ النار القديمة، يقدح زناده من يمسك «الريموت» في الخرطوم ليشعل حرباً جديدة.


مقالات ذات صلة

«أمانة» السعودية تجلي 1765 شخصاً لـ32 دولة من السودان

شمال افريقيا «أمانة» السعودية تجلي 1765 شخصاً لـ32 دولة من السودان

«أمانة» السعودية تجلي 1765 شخصاً لـ32 دولة من السودان

نقلت سفينة «أمانة» السعودية، اليوم (الخميس)، نحو 1765 شخصاً ينتمون لـ32 دولة، إلى جدة، ضمن عمليات الإجلاء التي تقوم بها المملكة لمواطنيها ورعايا الدول الشقيقة والصديقة من السودان، إنفاذاً لتوجيهات القيادة. ووصل على متن السفينة، مساء اليوم، مواطن سعودي و1765 شخصاً من رعايا «مصر، والعراق، وتونس، وسوريا، والأردن، واليمن، وإريتريا، والصومال، وأفغانستان، وباكستان، وأفغانستان، وجزر القمر، ونيجيريا، وبنغلاديش، وسيريلانكا، والفلبين، وأذربيجان، وماليزيا، وكينيا، وتنزانيا، والولايات المتحدة، وتشيك، والبرازيل، والمملكة المتحدة، وفرنسا، وهولندا، والسويد، وكندا، والكاميرون، وسويسرا، والدنمارك، وألمانيا». و

«الشرق الأوسط» (جدة)
شمال افريقيا مصريون يسهمون في إغاثة النازحين عند المعابر الحدودية

مصريون يسهمون في إغاثة النازحين عند المعابر الحدودية

بعد 3 أيام عصيبة قضتها المسنة السودانية زينب عمر، بمعبر «أشكيت» من دون مياه نظيفة أو وجبات مُشبعة، فوجئت لدى وصولها إلى معبر «قسطل» المصري بوجود متطوعين مصريين يقدمون مياهاً وعصائر ووجبات جافة مكونة من «علب فول وتونة وحلاوة وجبن بجانب أكياس الشيبسي»، قبل الدخول إلى المكاتب المصرية وإنهاء إجراءات الدخول المكونة من عدة مراحل؛ من بينها «التفتيش، والجمارك، والجوازات، والحجر الصحي، والكشف الطبي»، والتي تستغرق عادة نحو 3 ساعات. ويسعى المتطوعون المصريون لتخفيف مُعاناة النازحين من السودان، وخصوصاً أبناء الخرطوم الفارين من الحرب والسيدات والأطفال والمسنات، بالتعاون مع جمعيات ومؤسسات أهلية مصرية، على غر

شمال افريقيا الأمم المتحدة تطلب 445 مليون دولار لمساعدة الفارين من السودان

الأمم المتحدة تطلب 445 مليون دولار لمساعدة الفارين من السودان

أعلنت الأمم المتحدة، الخميس، أنها تحتاج إلى 445 مليون دولار لمساعدة 860 ألف شخص توقعت أن يفروا بحلول أكتوبر (تشرين الأول) المقبل من القتال الدامي في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع. وأطلقت مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين هذا النداء لجمع الأموال من الدول المانحة، مضيفة أن مصر وجنوب السودان سيسجّلان أكبر عدد من الوافدين. وستتطلب الاستجابة للأزمة السودانية 445 مليون دولار حتى أكتوبر؛ لمواجهة ارتفاع عدد الفارين من السودان، بحسب المفوضية. وحتى قبل هذه الأزمة، كانت معظم العمليات الإنسانية في البلدان المجاورة للسودان، التي تستضيف حالياً الأشخاص الفارين من البلاد، تعاني نقصاً في التمو

«الشرق الأوسط» (جنيف)
شمال افريقيا الصراع في الخرطوم يوجّه ضربة جديدة للاقتصاد

الصراع في الخرطوم يوجّه ضربة جديدة للاقتصاد

وجّه الصراع المحتدم الذي يعصف بالسودان ضربة قاصمة للمركز الرئيسي لاقتصاد البلاد في العاصمة الخرطوم. كما عطّل طرق التجارة الداخلية، مما يهدد الواردات ويتسبب في أزمة سيولة. وفي أنحاء مساحات مترامية من العاصمة، تعرضت مصانع كبرى ومصارف ومتاجر وأسواق للنهب أو التخريب أو لحقت بها أضرار بالغة وتعطلت إمدادات الكهرباء والمياه، وتحدث سكان عن ارتفاع حاد في الأسعار ونقص في السلع الأساسية. حتى قبل اندلاع القتال بين طرفي الصراع في 15 أبريل، عانى الاقتصاد السوداني من ركود عميق بسبب أزمة تعود للسنوات الأخيرة من حكم الرئيس السابق عمر البشير واضطرابات تلت الإطاحة به في عام 2019.

«الشرق الأوسط» (الخرطوم)
شمال افريقيا فيصل بن فرحان وغوتيريش يبحثان وقف التصعيد في السودان

فيصل بن فرحان وغوتيريش يبحثان وقف التصعيد في السودان

بحث الأمير فيصل بن فرحان بن عبد الله وزير الخارجية السعودي والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، اليوم (الخميس)، الجهود المبذولة لوقف التصعيد العسكري بين الأطراف في السودان، وتوفير الحماية اللازمة للمدنيين السودانيين والمقيمين على أرضه. وأكد الأمير فيصل بن فرحان، خلال اتصال هاتفي أجراه بغوتيريش، على استمرار السعودية في مساعيها الحميدة بالعمل على إجلاء رعايا الدول التي تقدمت بطلب مساعدة بشأن ذلك. واستعرض الجانبان أوجه التعاون بين السعودية والأمم المتحدة، كما ناقشا آخر المستجدات والتطورات الدولية، والجهود الحثيثة لتعزيز الأمن والسلم الدوليين.

«الشرق الأوسط» (الرياض)

«البتكوين» في مصر... تداول غير رسمي وملاحقات «أمنية ودينية»

التمثيلات المادية للعملة المشفّرة البتكوين (رويترز)
التمثيلات المادية للعملة المشفّرة البتكوين (رويترز)
TT

«البتكوين» في مصر... تداول غير رسمي وملاحقات «أمنية ودينية»

التمثيلات المادية للعملة المشفّرة البتكوين (رويترز)
التمثيلات المادية للعملة المشفّرة البتكوين (رويترز)

تطفو تحذيرات في مصر بين فترة وأخرى من تداول العملات الرقمية المشفرة «البتكوين»، المجرّمة قانوناً، آخرها لمسؤول بدار الإفتاء المصرية حذر من التعامل بها باعتبارها «تفتقر الشرعية والحماية القانونية التي توفرها البنوك المركزية للعملات الرسمية».

و«البتكوين» عملة إلكترونية مشفرة يتم استبدالها بالعملات الرسمية كالدولار واليورو، ويتم التعامل بها عبر شبكة الإنترنت من خلال محفظة مالية تخص المتعامل بها، وتكون له السيطرة الكاملة عليها عن طريق اسم مستخدم ورقم سرى خاص.

ويبلغ سعر عملة «البتكوين» الواحدة (الاثنين) 101 ألف دولار، ويمكن التداول على أجزاء منها، إذ تضم العملة الواحدة نحو 100 مليون «ساتوشي» (الوحدة الأصغر في البتكوين)، وفق مواقع مالية عالمية.

ولا توجد إحصائية بحجم سوق تداول «البتكوين» في مصر، لكن مؤشرات عدة تعكس وجود هذه السوق، واتساعها، من بينها حملات أمنية أوقفت على مدار السنوات الماضية، عشرات المتهمين بالاتجار بها أو تعدينها، وهي عملية تكنولوجية يتم بموجبها توليد هذه العملات، وتحتاج إلى مصادر ضخمة من الطاقة.

وتمكنت الأجهزة الأمنية المصرية خلال عام 2021 فقط من ضبط 6 تشكيلات ترتبط بالعملات الرقمية، بين تداول ووساطة في التداول وتعدين، موجودة في القاهرة وعدة محافظات أخرى، وفق بيانات رسمية صادرة عن وزارة الداخلية.

وفي مارس (آذار) من عام 2023، ضبطت القوات الأمنية شبكة نصبت على عشرات من المصريين، عبر تطبيق يدعى «هوج بول»، بعد الاستيلاء على 19 مليون جنيه (بلغ سعر الدولار الرسمي وقتها نحو 31 جنيهاً) بدعوى استثمار أموالهم في العملات الرقمية.

وعقب إسقاط الشبكة أصدر البنك المركزي المصري تحذيره من التداول فيها، قائلاً في بيان إنه «يهيب بالسادة المواطنين عدم الانصياع لمثل هذه الدعوات الاحتيالية والأنشطة المجرمة قانوناً وفقاً لقانون البنك المركزي والجهاز المصرفي الصادر بالقانون رقم 194 لسنة 2020».

ويؤكد المحلل المالي المصري هشام حمدي أنه «لا يمكن تتبع حجم هذه السوق غير الشرعية، لكنها موجودة بالفعل»، مشيراً في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» إلى أنها «تجتذب أشخاصاً جدداً في ظل قدرة البعض على تحقيق مكاسب كبيرة وسريعة»، كما أنه «يظل سوقاً دون رقابة مباشرة، فلا أحد يسأل من أين لك هذا؟».

«مراد محروس» (اسم مستعار)، واحد ممن يتداولون في هذه السوق بمصر، يقول لـ«الشرق الأوسط» إنه «يتابع هذه العملات منذ ظهرت لأول مرة، وكان يتم التداول بها في أعمال مشبوهة مثل المخدرات والسلاح، وأنه لم يتجرأ على شرائها سوى في عام 2019، حين تحسنت سمعتها».

وبدأت إحدى بورصات شيكاغو الأميركية التداول لأول مرة بعملة «البتكوين» في ديسمبر (كانون الأول) من عام 2017. وفي عام 2019 اعترفت دولة سلفادور بالعملة المشفرة، كعملة قانونية فيها، إلى جوار الدولار.

وشهدت سوق العملات المشفرة انتعاشة بفوز الرئيس الأميركي دونالد ترمب بولاية ثانية، إذ كان قد أعلن نيته خلال ترشحه رعاية تعدينها في الولايات المتحدة وإنشاء مخزون استراتيجي منها.

اشترى «محروس» لأول مرة عملة رقمية شقيقة لـ«البتكوين»، تسمى «إيثر يوم» بـ400 دولار، ويحتفظ بعملاته على أمل أن يقفز سعرها ويحقق ثراءً، وهو من أسرة متوسطة، أربعيني، لديه عائلة مكونة من 4 أفراد.

لا يستطيع «محروس»، الذي يضارب في البورصة أيضاً بمبالغ محدودة، ويحقق أحياناً مكاسب، أن يُقدّر حجم سوق العملات الرقمية في مصر، لكنه يؤكد بحكم تعاملاته أنها ليست محدودة، يقول: «أي وقت تريد أن تبيع أو تشتري ستتمكن من ذلك، وبأي مبلغ»، وذلك عبر عدة مواقع موثوقة بالنسبة له.

ولا يخلو استثمار «محروس» في العملات الرقمية من المخاطرة، سواء بخسارة أمواله «فهي سوق مثل أي سوق ترتفع قيمة العملة فيها وتنخفض»، فضلاً عن مخاطر أمنية تتعلق بتجريم عملية الشراء والبيع، لكنه قال: «ما أقوم بالبيع والشراء فيه مبالغ تافهة، أقل من أن تلفت انتباه أحد».

ويقول الخبير الاقتصادي رشاد عبده لـ«الشرق الأوسط» إن «البتكوين وغيرها تمثل مخاطر على الاقتصاد، إذ يتم شراؤها بالعملة الأجنبية، في حين تعاني مصر بالأساس أزمة في توفرها، كما أنها لا توجد رقابة عليها، ومن ثم يسهل توظيفها في عمليات غسيل أموال وتجارات غير مشروعة».

ويرجع عبده جزءاً من عجز الدولة عن السيطرة على هذه السوق، رغم توالي التحذيرات منها، إلى «فقدان الثقة بين الحكومة والشارع».

* محاذير شرعية

يرجع أمين الفتوى في دار الإفتاء المصرية، الدكتور علي فخر، تحذيره من التعامل مع «البتكوين»، إلى أنه «لا يمكن وصف شيء بأنه عملة إلا إذا كان صادراً عن بنك مركزي لدولة تعترف بها، حيث يُعطى لها الشرعية والحماية من قبل البنك المركزي، لكن (البتكوين) لم تحصل على هذه الشرعية حتى الآن، ولا تزال تفتقر إلى الحماية القانونية التي توفرها البنوك المركزية للعملات الرسمية».

وزاد في التنفير منها عند رده على سؤال عن شرعيتها، عبر برنامج على «قناة الناس»، الأحد، بالحديث عن مشاكلها قائلاً «إحدى المشكلات هي أنه لا يمكننا تحديد قيمتها بدقة، ولا نعلم كيف نبيعها أو نشتريها. كما أنه لا توجد جهة مسؤولة عن إصدارها أو تحديد قيمتها، مما يثير العديد من التساؤلات حول مشروعيتها».

وسبق وحرّم مفتي مصر الأسبق الدكتور علي جمعة «البتكوين»، وقال في فتوى له نشرت عام 2018 إنه «لا يجوز شرعاً تداول عملة (البتكوين) والتعامل من خلالها بالبيعِ والشراءِ والإجارةِ وغيرها، بل يُمنع الاشتراكِ فيها؛ لعدمِ اعتبارِها كوسيطٍ مقبولٍ للتبادلِ من الجهاتِ المخُتصَّةِ، ولِمَا تشتمل عليه من الضررِ الناشئ عن الغررِ والجهالةِ والغشِّ في مَصْرِفها ومِعْيارها وقِيمتها، فضلاً عما تؤدي إليه ممارستُها من مخاطرَ عاليةٍ على الأفراد والدول».