دوناتيلو... مهندس الثورة الفنية في عصر النهضة

معرضان عن النحات الإيطالي «الأكثر تناغماً وتوازناً»

جانب من المعرض الاحتفائي
جانب من المعرض الاحتفائي
TT

دوناتيلو... مهندس الثورة الفنية في عصر النهضة

جانب من المعرض الاحتفائي
جانب من المعرض الاحتفائي

في صالات قصر «ستروتسي» التاريخي، وصالات متحف «البارجيلو» في قلب المركز التاريخي لعاصمة عصر النهضة، بمدينة فلورنسا، افتتح وزير الكنوز الثقافية الإيطالي معرضين لفنان عصر النهضة الإيطالي، دوناتو دي نيكولو دي بيتو باردي (1386- 1466) الذي اشتُهر باسم «دوناتيلو» الذي يعتبر مهندساً لثورة فنية انعكست على عباقرة القرن السادس عشر، مثل مايكل أنجلو ورافائيل، من خلال إنجازاته الفنية النابضة بالحياة والجرأة. ويستمر العرض حتى 31 يوليو (تموز) الحالي.
عكست حياة دوناتيلو خطين متناقضين: فمن جهة عذوبة الإنسان الساحر، ذلك الإنسان الذي يشع شباباً وحباً للحياة، ومن جهة أخرى شجاعته في مكافحة أشكال البؤس والوحشية في الحياة.
واقترن ظهور دوناتيلو كمبدع مرموق في القرن الخامس عشر الذي سادت فيه الواقعية، بموازاة النهضة العلمية. وكانت هذه الفترة هي فترة نهضة الصناعة والتجارة والاستكشافات العلمية، وهي تعد أيضاً من أعظم فترات فن الرسم في التاريخ. كانت المهمة الحاسمة التي ظهرت آنذاك هي ليست تقديم تفسير للعقيدة الدينية؛ بل رفع قبضة اللاهوت عن الفن كلية. لقد خطت إيطاليا في هذه الفترة خطوات كبيرة في الفيزياء والرياضيات والفلك. وبلغت ذروة العلم مع رحلة كولومبس عبر الأطلنطي في عام 1492، ونظريات كوبرنيكوس وغاليليو؛ حيث ظهرت الآراء الخاصة بالأرض والسماء التي تتعارض كلية مع لاهوت العصر الوسيط. وفتح الطريق لدراسة الطبيعة في أبعادها الخاصة واكتشاف قوانينها الحقيقية.
ولم يتعلم الفنانون في إيطاليا من العلم فحسب؛ بل شاركوا في تطوره، فقد كانوا في حاجة إلى دراسة التشريح، لكي يعيدوا إبداع الجسم البشري كجهاز عضوي حي. وكانوا في حاجة إلى الرياضيات وعلم البصريات لكي يحلوا مشكلات المنظور والإسقاط، حتى تبدو شخوصهم وكأنها تتحرك بشكل طبيعي في مكان ذي ثلاثة أبعاد.
في هذه الفترة، أبدع دوناتيلو بابتكار أساليب جديدة اتسمت بالعمق، للحد الذي اعتبره عديد من نقاد الفن ثورة في أساليب النحت ونقطة تحول تاريخية.
وبين سن الثامنة عشرة والعشرين، تعاون دوناتيلو مع لورنسو غيبيرتي، لبناء بابين من البرونز للبوابة الشمالية لمعمودية فلورنسا في قلب المدينة، مما يدل على أنه تلقى أيضاً تدريباً كصائغ ذهب. ولم يمنعه تعاونه مع غيبيرتي من الكشف عن مزاجه العاطفي غير المسبوق في منحوتاته الرخامية أو الخشبية. وتعكس تماثيله التي نحتها للأم العذراء حيوية امرأة شابة، في الوقت الذي كان النحاتون يميلون لتجسيدها كامرأة عجوز منكسرة الروح. أما التماثيل الأخرى مثل داود الشاب الذي قتل جوليات، وتمثال جوديت وهي تمسك رأس الطاغية هولوفيرونيس، فهي ترمز لجمهورية فلورنسا المنتصرة على الطغيان. وما زال هذا النصب في الميدان الرئيسي في فلورنسا (ساحة السيادة) منذ عام 1492.
وما أنجزه هذا الفنان الخالد من أعمال نحتية خشبية وجصية وبرونزية، يعكس تمكّنه البارع من الإحاطة الجسورة والجريئة، في تصوير الفقر والبؤس والمعاناة. لقد أدرك دوناتيلو قبل غيره أن عظمة الأفكار تقتضي فراغاً لتبرز فيه، فتتخذ إما شكل اللقطة الكبيرة للإنسان مع تركيز كامل على التعبير المكثف من كل تفصيلة، وإما يعاد رسم أو نحت الأشخاص بإحساس كامل بالحركة التي تمضي حرة في كل اتجاه، عبر خط الرؤية أو بعيداً عنه.
وفي هذه الفترة، كانت الصداقة القوية التي ربطت دوناتيلو مع المعماري فيليبو برونليسكي (1377- 1446) الذي أبدع في تصميم قبة مبنى «الدوما» متأثراً بما شاهده في الجامع الأموي في دمشق، قد غرست شغفاً بأساليب التجديد في عملية بناء الكتلة، معتمداً على التحكم في الوهم المكاني، من خلال الاعتماد على نظام القياسات الرياضية وفق حلول مبتكرة للمنظور. وهذه التقنية شاعت فيما بعد، كما يذكر مؤرخ سير فناني عصر النهضة، الرسام والمعماري جورجيو فاساري (1511- 1571) الذي وصف دوناتيلو بأنه «أكثر تناغماً وتوازناً في القوة التعبيرية».


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

معرض عن ليزا بِين أول عارضة أزياء في العالم

من ألف ليلة (المعرض)
من ألف ليلة (المعرض)
TT

معرض عن ليزا بِين أول عارضة أزياء في العالم

من ألف ليلة (المعرض)
من ألف ليلة (المعرض)

قد لا يبدو اسمها مألوفاً للأجيال الجديدة، لكن ليزا فونساغريفس (1911 ـ 1992) كانت واحدة من أيقونات الموضة في النصف الأول من القرن الماضي، حيث صمّم لها ثيابها كبار خيّاطي باريس، ووقفت تستعرضها أمام كاميرات مشاهير المصوّرين في زمانها: هورست بي هورست، وإرفنغ بين، ولويز دالوولف، وإروين بلومنفيلد.

وفي «البيت الأوروبي للفوتوغراف» في باريس، تُمكِن مشاهدة 150 لقطة للمرأة السويدية المولد التي تُعدّ أول عارضة في تاريخ تصوير الموضة مطلع الثلاثينات، قبل نحو 100 عام من الآن، وهي إلى جانب عملها في الوقوف أمام المصوّرين كانت نحّاتة وراقصة ومُصمّمة أزياء.

وفي المعرض صور جرى التقاطها بين 1935 و1955، تعود للمجموعة الخاصة لولدها توم بين، وقد أهدى مختارات من هذه الصور إلى «البيت الأوروبي للفوتوغراف».

في مقتبل حياتها غادرت ليزا السويد، لترتبط بزوجها الأول المصوّر الفرنسي فرناند فونساغريفس الذي حملت اسمه، وكان ذلك قبل ارتباطها عام 1950 بزوجها الثاني الأميركي إرفنغ بين الذي كان مصوّراً للموضة أيضاً.

إن اللقطات المعروضة تخرج عن إطار منصات العرض؛ لكي تخرج إلى الفضاء الطلق، حيث من النادر أن يجري تصوير العارضة وهي على جناح طائرة، أو على رصيف محطة قطار. ويرى النقاد أن هذه العارضة لم تكن مجرد جسد يرتدي الثياب الجميلة، بل ساهمت بتطوير لقطات الموضة، من خلال موهبتها في التحرك أمام الكاميرا.

وتجمع هذه اللقطات الأشبه باللوحات ما بين القيمة الفنية للصور بعدسات «أسطوات» فن الفوتوغراف، والأناقة الفائقة للعارضة التي تُجيد الوقوف أمام الكاميرا، إنها نوع من التوثيق لزمن آخر كانت فيه النساء تتفرجن على نجمات السينما وتهرعن لخياطة فساتين مستوحاة من فساتينهن.

إن ليزا بين في هذه الصور لا تقل بريقاً عن غريس كيلي وكيم نوفاك وأفا غاردنر، ويكفي القول إن العارضة ظهرت على أكثر من 200 غلاف لكُبريات مجلات الموضة، وكانت في قمة تألّقها حين اختارتها مجلة «تايم» الأميركية لغلافها عام 1949، وكانت تبلغ من العمر 38 عاماً.