الشرارة انطلقت من تقرير نشرته أول من أمس الاثنين صحيفة «لوموند» الفرنسية المستقلة مع عنوان صادم يشير إلى «صفقة سرية» بين الرئيس إيمانويل ماكرون وشركة «أوبر» الأميركية العملاقة المتخصصة بنقل الأشخاص. ويستند التقرير إلى مراجعة آلاف المستندات الداخلية للمجموعة الأميركية اطلعت عليها الصحيفة الفرنسية مع أربعين وسيلة إعلامية أخرى مندرجة في إطار الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين.
في التقرير المطول فيض من التفاصيل حول اللقاءات والاتصالات التي أجراها كبار مسؤولي «أوبر» مع إيمانويل ماكرون شخصياً عندما كان وزيراً للاقتصاد في حكومة الرئيس الاشتراكي السابق فرنسوا هولند بين عامي 2014 و2016 ومع فريق عمله الوزاري.
لكن تجدر الإشارة إلى أن التقرير المذكور لا يبين «المقابل» الذي حصل عليه ماكرون الذي يتهمه التقرير بأنه تجاوز الخط الرسمي للحكومة في هذا المجال.
ونقلت الصحيفة المذكورة عن الوثائق الداخلية للشركة الأميركية أن العديد من الاجتماعات عقدت في مكتب ماكرون في المجمع الحكومي الاقتصادي المسمى «بيرسي» الواقع شرق باريس، وأن التواصل بين الطرفين استمر عبر الكثير من الوسائل. والحجة الرئيسية للتقرير أن ماكرون قدم المساعدة لـ«أوبر» لتعزيز موقفها في السوق الفرنسية، علماً بأن كثيرين يرون أن «أوبر» التي جاء كبار مسؤوليها إلى باريس كانت تسعى للعثور على الوسائل من أجل الالتفاف على القوانين الفرنسية التي كانت تراها متشددة.
وكان وصول «أوبر» إلى سوق النقل في فرنسا في عام 2011 قد أثار موجة من الاحتجاجات لدى سائقي سيارات الأجرة الذين وجدوا فيها منافساً غير شرعي. وتسببت الحركة الاجتماعية باختناقات للسير في المدن الكبرى وباحتجاجات ومظاهرات سيارة متنقلة.
والمأخذ الرئيسي على «أوبر» أن القانون لا يفرض القيود نفسها التي يفرضها على سائقي سيارات الأجرة بل كان يفسح المجال، بداية، لأي شخص كان أن يتحول إلى «سائق سيارة سياحية» من غير الحصول على إذن رسمي من وزارة النقل ومن غير تأهيل.
وكان وزير الدولة للتجارة الخارجية والترويج السياحي توماس تيفنو في الحكومة عينها قدم مشروع قرار وافق عليه البرلمان عام 2014 يضع إطاراً قانونياً متشدداً بعض الشيء للعاملين في شركة «أوبر». والحال أن تدخل الوزير ماكرون جاء بعد أن أصبح القانون نافذاً ما يفهم أنه التفاف عليه. وقال تيفنو أمس إن ماكرون «بقي المحاور المفضل» لـ«أوبر» وإنه «سعى دوماً لفرش السجاد الأحمر تحت أقدام» الشركة الأميركية. ويذهب الوزير السابق أبعد من ذلك عندما يتساءل عن الدور الذي لعبته رئيسة الحكومة الحالية إليزابيث بورن عندما كانت وزيرة المواصلات ولاحقاً وزيرة العمل في الحكومة نفسها. ويؤخذ عليها تساهلها مع «أوبر» إذ إنها لم تفرض عليها أن توفر لسائقي «أوبر» حقوقهم الاجتماعية بحيث لا يبقون «رهائن» للشركة الأميركية العملاقة. وخلاصة الاتهامات أن ماكرون كان اللولب الأقوى في «اللوبي» الداعم لـ«أوبر» الأمر الذي مكنها من التجذر في السوق الفرنسية، لا بل إنه ساعدها رغم أنها كانت ملاحقة مالياً (لعدم دفع الضرائب) وقضائياً (لمخالفتها القوانين الفرنسية).
- منتدى «خيار فرنسا»
وتأتي إثارة هذا الملف في وقت بالغ السوء بالنسبة للرئيس ماكرون الذي شارك أول من أمس في قصر فرساي التاريخي في النسخة الخامسة لمنتدى «خيار فرنسا» الذي أطلقه في عام 2018 وهدفه جذب الاستثمارات الأجنبية.
واللافت في هذه النسخة الخامسة الحضور القوي للصناديق السيادية العربية، إذ شاركت فيه الصناديق العائدة للمملكة السعودية والإمارات والكويت وقطر.
وبالنظر للأهمية التي تعلقها السلطات الفرنسية على هذا الحدث، فإن ما لا يقل عن عشرين وزيراً كانوا حاضرين للرد على كافة التساؤلات التي طرحها المستثمرون القدامى والجدد.
وبحسب الإليزيه، فإن 180 رئيس شركة عالمية أجنبية تواجدوا في فرساي بحيث إن عددهم تخطى ما كان عليه في الأعوام السابقة حيث تراوح ما بين 120 و130 مدعواً.
وخلال المنتدى، تم الإعلان عن 14 مشروعاً استثمارياً جديداً بقيمة إجمالية تصل إلى 6.7 مليار يورو. ويقدر أنها ستوفر ما لا يقل عن 14 ألف فرصة عمل جديدة.
ليس سراً أن ماكرون ينتهج خطاً ليبرالياً وأنه من أنصار العولمة. وبمواجهة الهجمة التي قامت بها المعارضة اليسارية عليه، سعى قصر الإليزيه إلى سحب فتيل التصعيد مشيراً إلى أن ما قام به يدخل في صلب مهماته كوزير للاقتصاد وأنه كان على تواصل مع «كثير من الشركات المشاركة في التحول العميق الذي حصل على مدى تلك السنوات المذكورة في قطاع الخدمات و(هو تحول) كان لا بُد من تسهيله عبر التغلب على العوائق الإدارية والتنظيمية». وقال الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا هولند أمس إن الإليزيه «لم يكن على علم بأي صفقة» من غير أن يستبعد وجودها على مستويات أخرى.
- معارضة عنيفة ضد ماكرون
وجدت المعارضة خصوصاً اليسارية منها في «الفضيحة» فرصة لاستهداف ماكرون بعنف بالغ. وجاء الهجوم الأعنف من المجموعة البرلمانية لحزب «فرنسا المتمردة» الذي يقوده المرشح الرئاسي السابق جان لوك ميلونشون، والتي رأت أن ما حصل يعد «فضيحة دولة».
وطالبت رئيسة مجموعته البرلمانية ماتيلد بانو، بتشكيل لجنة تحقيق برلمانية، معتبرة أن ما قام به ماكرون «هو مساهمة في عملية نهب للبلاد».
وقال النائب عن الحزب باستيان لاشو إن ماكرون لعب دور «المسهل لرأس المال وأسهم في خدمة مصالح المحتالين على حساب مصالح الشعب». ودعا زميله ألكسيس كوربيير إلى «إلقاء كامل الضوء» على وضع «بالغ الخطورة».
أما الأمين لعام للحزب الشيوعي فابيان روسيل فاتهمه بمد يد العون لـ«أوبر» ضارباً عرض الحائط «قواعدنا وحقوقنا الاجتماعية وحقوق عمالنا»، وبالترويج لـ«النموذج الأميركي»، كما أنه «اختار دوماً الوقوف إلى جانب عالم الأعمال والشركات متعددة الجنسيات بدل توفير الحماية للفرنسيين ولعالم العمل».
وقال رئيس المجموعة الاشتراكية في مجلس الشيوخ، باتريك كانر، إن ماكرون برز كـ«عميل رئيسي للوبي» المروج لـ«أوبر».
وذهب النائب عن حزب «الخضر» جوليان بايو إلى اتهام ماكرون بأنه «أوصل مجموعات اللوبي إلى قلب السلطة» في فرنسا.
أما رئيس حزب «التجمع الوطني» اليميني المتطرف جوردان بارديلا فرأى أن ما تم الكشف عنه يبين أن مسيرة ماكرون هدفها «خدمة المصالح الخاصة، الأجنبية منها في كثير من الأحيان، قبل المصالح الوطنية». وبالمقابل، فإن حزب «الجمهوريون» اليميني المعتدل بقي صوته خافتاً، فيما دافع وزير الاقتصاد برونو لو مير عن ماكرون معتبراً أنه قام بما كان عليه القيام به لمصلحة الاقتصاد الفرنسي.
- وماكرون يرد
وأمس، جاء الرد على لسان ماكرون نفسه بمناسبة تدشين موقع إنتاج المكونات الإلكترونية «إس تي إم إلكترونيكس» لشركة فرنسية - إيطالية في بلدة «كرول» الواقعة في منطقة «إيزير» الواقعة جنوب شرقي فرنسا، مؤكداً أنه «فخور للغاية» بما تحقق وأنه «مستعد لمعاودة الكرة غداً وبعد غد» شرط أن تفضي إلى إيجاد فرص عمل جديدة.
كذلك رد ماكرون على انتقادات المعارضة بقوله إنه «غير آبه» بما تقوم به، وإنه اعتاد على الانتقادات منذ خمس سنوات ونصف السنة. واعتبر أن ما حصل أنه «قام بعمله كوزير» وأنه «يتبنى» ما قام به تماماً، مشيراً إلى أنه بادر منذ وصوله إلى رئاسة الجمهورية إلى تأطير عمل المنصات والشركات الرقمية الأجنبية على المستوى الفرنسي وعمل داخل الاتحاد الأوروبي للغرض نفسه.