«داعش»... العالم السفلي و«التكلفة السلطانية»

عناصر من قوى الأمن اللبناني يعرضون شعاراً لـ«داعش» وأسلحة كانت معدة لاستخدامها في العمليات الانتحارية (أ.ف.ب)
عناصر من قوى الأمن اللبناني يعرضون شعاراً لـ«داعش» وأسلحة كانت معدة لاستخدامها في العمليات الانتحارية (أ.ف.ب)
TT

«داعش»... العالم السفلي و«التكلفة السلطانية»

عناصر من قوى الأمن اللبناني يعرضون شعاراً لـ«داعش» وأسلحة كانت معدة لاستخدامها في العمليات الانتحارية (أ.ف.ب)
عناصر من قوى الأمن اللبناني يعرضون شعاراً لـ«داعش» وأسلحة كانت معدة لاستخدامها في العمليات الانتحارية (أ.ف.ب)

بعد أكثر من 3 سنوات من إعلان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب بزهو هزيمة خلافة «داعش» بنسبة «100%»، تواصل الجماعة الإرهابية استغلال حالة عدم الاستقرار في المنطقة والفقر المستشري بها لتجنيد مقاتلين جدد وتمويل عملياتهم.
وتبعاً لما أفاد به صحافيون مقيمون في المناطق الخاضعة لسيطرة «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) التي يقودها الأكراد في شمال شرق سوريا، فإن «داعش» تستخدم الآن تكتيكات شبيهة بالمافيا لتمويل عملياتها. ومن دون امتلاك أي أرض مادية، تدير خلايا الجماعة خططاً مربحة لكسب المال مثل التهريب والابتزاز، مدعومة بالتهديد الحقيقي المتمثل في العنف الجسدي والموت.
ورغم ذلك، لا تزال الجماعة بعيدة كل البعد عن أيام مجد «داعش» كأفضل المنظمات الإرهابية تمويلاً في العالم. عام 2014 عندما كانت «الخلافة» في أوجها، كان تنظيم «داعش» يربح 3 ملايين دولار يومياً، جاء معظمها من بيع النفط في السوق السوداء لدول مثل تركيا وسوريا. وشملت مصادر التمويل الإضافية عمليات خطف ونهب وتبرعات أجنبية. إلا أنه مع سقوط الخلافة جفت مصادر التمويل. وبعد تمشيط المناطق التي تحت سيطرتها، صادرت قوات سوريا الديمقراطية وقوات التحالف الدولي كميات ضخمة من الذهب والأموال كانت بحوزة «داعش».
بعد هزيمته الأخيرة على الأرض في الباغوز في مارس (آذار) 2019، لم يختفِ تنظيم «داعش» والمتعاطفون معه تماماً. وبدلاً عن ذلك، ذهب أفراد الجماعة تحت الأرض وأعادوا تنظيم أنفسهم في خلايا نائمة جاهزة للظهور من جديد وإحداث الفوضى. وللبقاء على قيد الحياة بهذه الطريقة السرية، تعمل «داعش» الآن مثل واحدة من جماعات الجريمة المنظمة. وغيّرت «داعش» طريقة عملها في الشمال الشرقي إلى تمرد منخفض المستوى، وحافظت على إيقاع منتظم لهجمات الكر والفر ضد قوات سوريا الديمقراطية مع استخدام التخويف والإكراه لفرض الامتثال والإتاوات المالية من السكان العرب الذين يختبئون فيما بينهم.
أصبح التهريب الآن الطريقة الرئيسية لـ«داعش» لكسب المال. وتعتمد الجماعة بشكل مباشر على جمع الإتاوات من الأفراد المهربين الذين يديرون المعابر النهرية غير الرسمية والخطيرة في كثير من الأحيان على نهر الفرات والتي تفصل المناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية على الضفة الشرقية عن الأراضي التي يسيطر عليها نظام الأسد والميليشيات التي يقودها الحرس الثوري الإيراني على الضفة الغربية.
وحسب دارين خليفة، المحللة البارزة لدى مجموعة الأزمات الدولية (إنترناشونال كرايسس غروب)، فإن «عناصر (داعش) استغلوا حدود المنطقة المليئة بالثغرات وطرق التهريب مع العراق والمعابر الداخلية التي يسيطر عليها المتمردون المدعومون من تركيا في الشمال، والنظام على ضفتي نهر الفرات الجنوبية والغربية، بغرض تحويل الأموال والمقاتلين وحتى المواشي».
وشرحت خليفة أن «(داعش) يعمل مثل المافيا التي تستغل المؤسسات والشركات الحاكمة من خلال الابتزاز. في بعض الحالات، تولت الجماعة تعيين موظفي المجالس المحلية ليكونوا نقطة محورية في تحصيل المدفوعات (في شكل إما ضريبة وإما إتاوة) من أعضاء المجلس الآخرين».
وفي الوقت الذي تعمل خلايا «داعش» في شمال سوريا، بما في ذلك محافظة إدلب وريف مدينة الرقة وبلدة منبج، فإن معقلها يتمثل في دير الزور والقرى المحيطة بها. وتولت قوات سوريا الديمقراطية، بمعاونة قوات التحالف، إجراء عمليات عسكرية وأمنية بشكل منتظم تستهدف الخلايا النائمة لـ«داعش» في المنطقة. إلا أن المهمة أصبحت أكثر صعوبة بسبب التوترات المستمرة بين القبائل العربية المحلية وقوات سوريا الديمقراطية. واستغلت «داعش» هذه الانقسامات لكسب مخبرين من أبناء السكان المحليين، ما جعل مهمة قوات سوريا الديمقراطية في محاربة «داعش» شبه مستحيلة. جدير بالذكر هنا أن تجارة النفط والوقود توفر مصدراً مهماً آخر للإيرادات، وترتبط ارتباطاً مباشراً بعمليات التهريب التي يتلقى «داعش» من ورائها عائدات مالية. وحسب صحافي مقيم في دير الزور، فإن «داعش» يحصل على أموال من أصحاب آبار النفط وخزانات الغاز وناقلات النفط في جميع مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية في شمال شرق سوريا مقابل عدم مهاجمتهم.
ويشمل ذلك شركة «القاطرجي» التي لديها عقود لنقل النفط مباشرة من مناطق الإدارة الذاتية إلى مناطق سيطرة نظام الأسد. ويدير مجموعة «القاطرجي» حسام أحمد قاطرجي المدرج على قائمة العقوبات الأميركية لكونه وسيطاً في تجارة القمح والنفط بين نظام الأسد و«داعش»، ويقال إن الأخير يدير ميليشياته الخاصة التي توفر الأمن للشاحنات التي تعبر الطرق الصحراوية الخطرة في شرق ووسط سوريا، حيث تتزايد معدلات هجمات «داعش».
وحسب طلاس سلامة، قائد جيش أسود الشرقية، فإن الإتاوات التي يفرضها «داعش» على جميع التجار بمن فيهم أصحاب خزانات النفط والمهربين عند المعابر غير النظامية في المنطقة، تندرج جميعها تحت اسم «الكلفة السلطانية» (تكلفة السلطة)، بدلاً عن «الزكاة». وبعد أن فقد «داعش» السيطرة على الأرض، فقد كذلك حقه «القانوني»، وفقاً للمبادئ الإسلامية، في تحصيل الزكاة من السكان المحليين. وبدلاً من ذلك، تضمن الإتاوات المفروضة احتفاظ الجماعة بمصدر مستمر للإيرادات، إلى جانب السيطرة على السكان.
ومثلما الحال مع الزكاة، تُفرض «الكلفة السلطانية» على كل شخص قادر على الدفع. ويتضمن ذلك كبار ملاك الأراضي وأصحاب الأعمال والمهربين، وأيضاً أي مدني يمكن وصفه تقريباً بأنه من الطبقة الوسطى. كما يشكل موظفو المنظمات الدولية والأطباء والمعلمين أهدافاً مفضلة في هذا الإطار. تبدأ قيمة الضريبة من 2 إلى 4% سنوياً من قيمة الممتلكات المملوكة للفرد أو الثروة الإجمالية للفرد. ويرتفع معدل الضريبة بشكل كبير بالنسبة لتجار النفط ويمكن أن يصل إلى 10000 دولار شهرياً في بعض الحالات. وبلغ ترهيب «داعش» درجة أن المسؤولين في الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا وقادة قوات سوريا الديمقراطية يفضلون الدفع، بدلاً عن المخاطرة بالتعرض للقتل.
ومن أجل تحصيل «الكلفة السلطانية»، يرسل «داعش» برسائل عبر تطبيق «واتساب» باستخدام رقم غير مسجل بأمر من الأمير المسؤول عن المنطقة. وتنص الرسالة على أن الدفع مطلوب في غضون عدة أسابيع. وإذا لم يتم السداد، يجري إرسال تهديد صريح وواضح. وتختلف طبيعة التهديد تبعاً للأمير المسؤول عن المنطقة، حسبما ذكر صحافي مقيم في الرقة، تحدث بشرط عدم الكشف عن هويته. في بعض الأحيان، يجري وضع رسالة مكتوبة مرفقة برصاصة أمام المنزل، أو يتم تسليمها باليد للشخص الذي يرفض الدفع. وفي أوقات أخرى، يجري إرسال صورة لمنزل الشخص أو ممتلكاته إلى جانب إحدى العبوات الناسفة أو مقطع فيديو لانفجار سابق. باختصار، فإن الترهيب يظل البصمة المميزة لـ«داعش».
بعد ذلك، يجري الاتفاق على الموقع، حيث سيجري تسليم المبلغ المطلوب. في المقابل، يجري تقديم فاتورة مختومة بختم المنظمة لمنع أي محاولات إضافية لتحصيل التكلفة الملكية مرة أخرى.
وقد تعرض عدد من الأشخاص للقتل بالفعل لرفضهم الدفع. ففي يوليو (تموز) 2020، قُتل مدني في مدينة البصيرة لهذا السبب. وفي ديسمبر (كانون الأول) من العام نفسه، قطعت عصابات «داعش» رأس رجلين كانا يحاولان تحصيل إتاوات «داعش». وتركت الجماعة ملاحظة تحذّر الآخرين من أنهم سيلقون المصير ذاته. عام 2020 تم الإبلاغ عن حالات تدمير محاصيل زراعية ومنازل ومحلات تجارية بعبوات ناسفة، بما في ذلك عيادة أسنان ومركز صحي صغير في ريف دير الزور الشرقي تعرض للتفجير منذ فترة قصيرة.
وبينما تحدثت قوات سوريا الديمقراطية علانية عن عملياتها لاستهداف الخلايا النائمة لـ«داعش» في المناطق الخاضعة لسيطرتها، لم تصدر تصريحات رسمية أو حتى ضمنية عن قيام «داعش» بتحصيل ضرائب من نوع الزكاة أو تحذير المواطنين بشأن الدفع. من المحتمل أن تكون قيادة قوات سوريا الديمقراطية غير راغبة في الاعتراف بحجم المشكلة، الأمر الذي ربما تقف وراءه عدة أسباب منها أن هذا ينعكس بشكل سيئ على سجلّها وصورتها بمجال مكافحة «داعش». ويتمثل سبب آخر في أن هذا الأمر ينطوي على المخاطرة بإشعال مزيد من الاحتكاكات مع القبائل العربية في شمال شرقي سوريا.
وفي حين أن خلايا «داعش» صغيرة العدد ولا تمثل المجتمع الأوسع، إلا أنها تحافظ على الدعم الكافي من شبكات القرابة الوثيقة للاستمرار في الوجود وممارسة نفوذها على الصعيد المحلي، الأمر الذي سمح بدوره للتنظيم الإرهابي بالاستمرار في مخططاته المالية المختلفة. ربما تكون الخلافة المادية قد ماتت، لكن «داعش» الآن يسكن العالم السفلي. وبالتالي، لم تعد القنابل الموجهة بدقة هي الحل.
* باحثة بريطانية



ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
TT

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)

عندما بدأت عملية «طوفان الأقصى» ونشوب الحرب في غزة، كانت إيران تواجه تداعيات الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة إثر وفاة الشابة مهسا أميني، التي جعلت خريف 2022 الأكثر دموية في الداخل الإيراني.

اندلعت الحرب في قطاع غزة، في لحظة محورية بالنسبة لمؤسسة المرشد الإيراني؛ حيث زادت الضغوط الدولية عليه بسبب قمع الاحتجاجات الداخلية، وإرسال الطائرات المسيّرة إلى روسيا، مع وصول المفاوضات النووية إلى طريق مسدود.

ومنذ الموقف الرسمي الأول، رأت طهران أن هجوم حركة «حماس» هو «رد فعل طبيعي وحركة عفوية على السياسات الحربية والاستفزازية والإشعال المتعمّد للصراعات من قبل رئيس الوزراء المتطرف والمغامر لإسرائيل».

دأب المسؤولون الإيرانيون على نفي أي دور في اتخاذ قرار عملية «طوفان الأقصى»، لكن الحراك الدبلوماسي والسياسي أوحى بأن أركان الدولة، بما في ذلك الجهاز الدبلوماسي، كان على أهبة الاستعداد للتطور الكبير الذي يهز المنطقة.

بعد أقل من أسبوع على هجوم «طوفان الأقصى» بدأ وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان، أول جولاته الخمس على دول المنطقة قبل وفاته في 19 مايو (أيار)؛ بهدف عقد مشاورات مع مسؤولي دول الجوار ولقاءات تنسيقية قادة جماعات «محور المقاومة» وتوجيه رسائل إقليمية، وتوجه إلى العراق وواصل زيارته إلى دمشق، ومنها إلى بيروت، وانتهى المطاف في الدوحة.

وحينها وجهت إيران رسالة لإسرائيل، بأنها قد تواجه عدة جبهات إذا لم تتوقف عملياتها العسكرية في غزة.

ودفعت طهران باتجاه تعزيز صورة الجماعات المسلحة في المنطقة، والعمل على إضفاء الشرعية على دورها في دعم تلك الجماعات، مستغلة الأوضاع السياسية والاضطرابات الإقليمية.

اجتماع ثلاثي بين عبداللهيان وزياد النخالة أمين عام «الجهاد الإسلامي» وصالح العاروري رئيس مكتب حركة «حماس» في بيروت مطلع سبتمبر 2023 (الخارجية الإيرانية)

وشكل هذا الموقف المحطة الأولى لإيران. وترى طهران أنها نقلت جماعات «محور المقاومة» من نطاق محصور إلى نطاق «عالمي»، أو ما يسميه الدبلوماسيون الإيرانيون من «عالم المقاومة» إلى «المقاومة العالمية».

بذلك، انتقلت إيران، التي حاولت الحفاظ على مرحلة التهدئة مع جيرانها الإقليميين، إلى وضع هجومي فيما يتعلق بالجماعات المرتبطة بها، وهو ما يراه البعض انعكاساً لاستراتيجيتها على توسيع نفوذها ودورها في المنطقة.

على المستوى الرسمي، بعثت إيران برسالة للأوساط الدولية بأن تلك الجماعات مستقلة، وتملك قرارها بنفسها، وتصنع أسلحتها، لكن عدة مسؤولين وقادة عسكريين إيرانيين أشاروا في تصريحاتهم إلى دور الجنرال قاسم سليماني وقوات الوحدة الخارجية في «الحرس الثوري» بتسليح تلك الجماعات وتزويدها بتقنيات صناعة الأسلحة.

أما ثاني محطة لإيران بعد «طوفان الأقصى»، فقد بدأت بعد شهر من اندلاع الحرب في غزة؛ حيث دعا المرشد الإيراني علي خامنئي إلى ما وصفه بـ«قطع الشرايين الاقتصادية» لإسرائيل، خصوصاً ممرات النفط والطاقة. ومنها دخلت الجماعات المرتبطة بطهران، وجماعة «الحوثي» تحديداً على خط الأزمة، وشنّت هجمات على سفن تجارية على مدى أشهر، أثرت على حركة الملاحة في البحر الأحمر.

كما باشرت الميليشيات والفصائل العراقية الموالية لإيران، هجمات بالطائرات المسيّرة على إسرائيل والقواعد الأميركية على حد سواء.

وبدأ الجيش الأميركي رده بعدما تعرضت له قاعدة في الحدود السورية بالرد على هجمات طالت قواته، مستهدفاً مواقع للفصائل المسلحة.

على المستوى السياسي، أصرت طهران على وضع شروط الجماعات الحليفة معها أولاً لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومنها أبدت معارضتها لأي تسويات دولية، خصوصاً إحياء مقترح «حل الدولتين». وفي ديسمبر (كانون الأول)، قال وزير الخارجية الإيراني إن رفض «حل الدولتين» نقطة مشتركة بين إيران وإسرائيل.

المحطة الثالثة: بموازاتها باشرت إسرائيل بشن هجمات هادفة ضد القوات الإيرانية في سوريا، واستهدفت رضي موسوي مسؤول إمدادات «الحرس الثوري» في سوريا في ديسمبر، وبعد شهر، أعلن «الحرس الثوري» مقتل مسؤول استخباراته هناك، حجت الله أميدوار، لكن أقوى الضربات جاءت في مطلع أبريل (نيسان) عندما استهدفت غارة جوية إسرائيلية اجتماعاً لقادة «الحرس» في مقر القنصلية الإيرانية، وقتلت أرفع مسؤول عسكري إيراني في سوريا ولبنان، الجنرال محمد رضا زاهدي.

المرشد الإيراني علي خامنئي يؤم صلاة الجنازة على جثامين زاهدي وجنوده في حسينية مكتبه 4 أبريل 2024 (أ.ف.ب - موقع المرشد)

أما المحطة الإيرانية الرابعة، فقد وصلت إيران فيها إلى حافة الحرب مع إسرائيل، عندما ردت على قصف قنصليتها، بشن أول هجوم مباشر من أراضيها على الأراضي الإسرائيلية بمئات الصواريخ والمسيّرات.

ورغم تأكيد الجانب الإسرائيلي على صد الهجوم الإيراني، فقد وجهت ضربة محدودة لإيران باستهداف منظومة رادار مطار عسكري في مدينة أصفهان، قرب منشأة نووية حساسة.

وزادت المواجهة من احتمال تغيير مسار البرنامج النووي الإيراني، مع تكاثر الحديث في طهران عن ضرورة التوصل لأسلحة رادعة، وأيضاً التهديدات الإسرائيلية بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية.

امرأة غير محجبة تمر أمام لافتة دعائية للصواريخ الإيرانية في ساحة «ولي عصر» وسط طهران 15 أبريل الماضي (رويترز)

المحطة الإيرانية الخامسة، جاءت بعد مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، في حادث تحطم مروحية قرب الحدود الأذربيجانية. وسارعت السلطات الإيرانية لنفي نظرية المؤامرة، مستبعدة بذلك أي احتمالات لتعرض أرفع مسؤول تنفيذي في البلاد لضربة إسرائيلية. وأصدرت هيئة الأركان بعد نحو 3 أشهر على مقتل رئيسي، تأكيداً بأن مروحيته سقطت نتيجة ظروف مناخية، رغم أنها لم تُجِب عن كل الأسئلة.

عبداللهيان خلال اللقاء الذي جمعه بنصر الله في ضاحية بيروت الجنوبية فبراير الماضي (إعلام «حزب الله»)

وفي هذه المرحلة، توسعت الحملة الإيرانية، مع دخول الموقف السياسي الإيراني مرحلة السبات فيما يخص تطورات الحرب في غزة، نظراً لانشغال السلطات بالانتخابات الرئاسية، والسعي لتشكيل حكومة جديدة.

وخلال حملة الانتخابات الرئاسية، تجنب المرشحون للانتخابات إثارة القضايا المتعلقة بحرب غزة والدعم الإيراني. على الرغم من الانتقادات الداخلية لتأجيل القضايا الإيرانية الملحة مثل رفع العقوبات وتعطل المسار الدبلوماسي لإحياء الاتفاق النووي.

وكان لافتاً أن تصريحات المرشحين بمختلف توجهاتهم لم تذهب أبعد من الإشادة بالبرنامج الصاروخي، وتوجيه الضربة لإسرائيل، والتعهد بتعزيز معادلات الردع.

المحطة السادسة: بمراسم تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في 30 يوليو (تموز)؛ إذ شهدت طهران أكبر تحول في حرب غزة، ألا وهو اغتيال رئيس حركة «حماس» إسماعيل هنية، في مقر تابع لـ«فيلق القدس» في شمال طهران.

هنية ونائب الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني ورئيس حركة «الجهاد الإسلامي» والمتحدث باسم الحوثيين في مراسم القسم الدستوري للرئيس الإيراني بطهران 30 يوليو الماضي (رويترز)

وتعهد المرشد الإيراني علي خامنئي حينها بالرد على «انتهاك السيادة الإيرانية» واغتيال «ضيف إيران»، وتنوعت نبرة ومفردات التهديد بين مسؤولين سياسيين وقادة عسكريين. وشدد المسؤولون الإيرانيون على حتمية الرد مع تقدم الوقت وتراكم الشكوك بشأن رد إيران.

وأثار اغتيال هنية في طهران الكثير من التساؤلات حول طبيعة العملية، خصوصاً مع وجود الاختراقات.

موكب تشييع إسماعيل هنية في طهران يوم 1 أغسطس الماضي (أ.ب)

المحطة السابعة: كان عنوانها تفجيرات أجهزة «البيجر»، بالتزامن مع رسالة تهدئة من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، خصوصاً مع الولايات المتحدة، وشملت إسرائيل.

وقبل أن يتوجه إلى نيويورك، قال بزشكيان في مؤتمر صحافي إن بلاده لا تريد أن تكون عاملاً لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا تريد تصدير الثورة، مبدياً استعداده للانفتاح على واشنطن، إذا أثبتت أنها ليست معادية لطهران، وذهب أبعد من ذلك عندما استخدم وصف «الأخوة الأميركية».

واصل بزشكيان هذه النبرة في لقاءات على هامش حضوره أعمال الجمعية العامة في نيويورك، وقال: «إيران مستعدّة لوضع أسلحتها جانباً إذا وضعت إسرائيل أسلحتها جانباً»، حسب تسجيل صوتي انتشر من اللقاء نفسه. وقال إن تأخير الرد الإيراني على اغتيال هنية هو تلقي بلاده رسائل بأن اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس» سيُبرم خلال أسبوع، مبدياً انزعاجه من عدم التوصل للاتفاق واستمرار الهجمات الإسرائيلية.

خامنئي يلقي خطاباً أمام مجموعة من أنصاره وفي الخلفية صورة نصر الله (موقع المرشد)

وقلل بزشكيان من قدرة «حزب الله» على مواجهة إسرائيل وحده، وهو ما مزق الصورة التي رسمها مسؤولون مقربون من المرشد علي خامنئي.

وزاد موقف بزشكيان وكذلك الفرضيات بوجود اختراق في هجمات «البيجر»، واستهداف قادة «حزب الله»؛ من الشكوك في طهران بوجود اختراقات للجبهة الإيرانية، وعززت أيضاً مخاوف داخلية من وجود اختراقات.

المحطة الثامنة والخطيرة، بدأت باغتيال الأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، ثاني أهم لاعب للاستراتيجية الإقليمية الإيرانية، بعد الجنرال قاسم سليماني، خلال 35 سنة من حكم المرشد علي خامنئي. كما أدت الغارة الجوية الإسرائيلية على مقر نصر الله، إلى تسجيل ثاني خسائر «الحرس الثوري» الكبيرة منذ «طوفان الأقصى»، وهو نائب قائد غرفة العمليات، الجنرال عباس نيلفروشان.

ويحظى نصر الله بأهمية كبيرة لدى حكام إيران وخصوصاً الأوساط المحافظة، لدرجة تداول اسمه في بعض الفترات لتولي منصب المرشد الإيراني بعد خامنئي بوصفه «ولي الفقيه»، ولو أن الترشيح بدا مثالياً لأنه ليس مسؤولاً إيرانياً، فسيكون مرفوضاً من غالبية الأطراف السياسية.

نظام القبة الحديدية الإسرائيلي يعترض الصواريخ الآتية من إيران (رويترز)

ورداً على اغتيال هنية في عمق الأراضي الإيرانية، ونصر الله، ونيلفروشان، وجهت إيران هجومها الصاروخي الثاني المباشر على إسرائيل، في خطوة هدّدت إسرائيل بالرد عليها مع التلويح ببنك أهداف غير محدودة تشمل مصافي النفط ومحطات الوقود وأيضاً المنشآت النووية والعسكرية، ما يجعل الأزمة بين إسرائيل وإيران مفتوحة على كل الاحتمالات.