ماو: مشاكل جيلنا يمكن حلها بالترابط بين الفنون والتقنيات والعلوم

لماذا يراهن المصمم الشهير على نوع جديد من عصر النهضة؟

بروس ماو
بروس ماو
TT

ماو: مشاكل جيلنا يمكن حلها بالترابط بين الفنون والتقنيات والعلوم

بروس ماو
بروس ماو

عام 1418، نظمت مدينة فلورنسا مسابقة لبناء قبة فوق كاتدرائيتها. وقد دخلت قبة فيليبو برونليسكي التاريخ كأول قبة بنيت من دون إطار داعم. وهي تبقى حتى اليوم أكبر قبة مُشيدة بالأسلوب التقليدي في العالم.
لم يتدرب برونليسكي كمهندس معماري أو بنّاء، وإنما كصائغ، كما قرض الشعر، وصمم الإعدادات للعروض المسرحية، وقاد التجارب البصرية والهندسية الرائدة التي أدت إلى تطوير المنظور الخطي. وافتتح عند بلوغه 39 عاماً مدرسته الخاصة، حيث درّس الرياضيات، والهندسة، والفن.
كان عصر النهضة عبارة عن فترة من التقاطع المهني المكثف عمل خلالها فنانون مثل برونليسكي كمهندسين والعكس صحيح. ويُعرف آخرون «برجال عصر النهضة»، مثل ليوناردو دا فينشي، ومايكل أنغيلو، وليون باتيستا ألبيرتي، الذين عملوا في الرسم، والعمارة، والموسيقى، والتشريح، والهندسة، وعلم الفلك، وغير ذلك، ما أدى إلى فيض حيوي من النشاط الفكري، والفني، والأدبي.
كتاب خوليو ماريو أوتينو الجديد يناقش عقلية مماثلة يمكن تعزيزها اليوم، إلا أنها ليست حول رجل عصر النهضة وإنما «فريق عصر نهضة». ويزعم كتاب «الترابط: التفكير المعزز في عالم معقد» أن المشاكل المعقدة التي يعاني منها جيلنا لا يمكن حلها إلا إذا تقاربت الفنون والتقنيات والعلوم، كما حدث في عصر النهضة.
وقد ألف هذا الكتاب خوليو ماريو أوتينو، الباحث العلمي والفنان، رفقة بروس ماو، مصمم الغرافيك الشهير الذي تشمل محفظته الفنية الواسعة إعادة تصميم مدينة «مكة المكرمة»، وتجديد غواتيمالا، وتأسيس شركة «ماسيف تشينج نتوورك - شبكة التغيير الضخم»، الشركة الاستشارية في مجال التصميم في عام 2010 مع زوجته بيسي ويليامز. يحب ماو التفكير بشكل كبير، وفي هذا الكتاب يريدك أن تنسى خرافة العقل الأيمن مقابل الأيسر، وأن تتبنى التفكير الدماغي الشامل.

جلست مؤخراً مع ماو، في مكتبه المتخم بالكتب في شيكاغو، للحديث عن كيفية ولادة فكرة «الترابط»، وكيف يمكن للشركات والمنظمات الحديثة تعزيز التفكير الدماغي الشامل، ومدى أهمية التصميم لهذه العملية.
ملاحظتي الأولى كانت عن عنوان الكتاب، وحقيقة أنه يفتقد لكلمة «تصميم». وتساءلت إن كان ذلك بسبب أن التصميم نفسه يوجد عند تقاطع الفن، والتكنولوجيا، والعلوم، أم لا، فأجاب:
- أجل، بدأ المشروع بالنسبة لي عندما وجدت هذه المجلة الصغيرة الجميلة «التحول - التشكل»، التي حررها رجل يُدعى هاري هولتزمان في الخمسينات. ومفهوم التحول أو التشكل كان يعني أن الفن، والعلم، والتكنولوجيا هي عناصر متفاعلة من مجموع المشروع البشري. أما اليوم فغالباً ما تعد هذه العناصر كما لو كانت معزولة ثقافياً وربما في تناقض مع بعضها.
قلت في نفسي، يا إلهي، هذا بالضبط ما أفكر به، إذ إن التصميم هو في الواقع الممارسة اليومية التي تعيد تلك العوالم معاً مرة أخرى.
هل كلمة تصميم أو ما ترمز إليه موجودة في عصر النهضة؟ أم أنها صيغت بالتحديد، لأننا بحاجة إلى منهجية لجمع المجالات الثلاثة معاً عندما تتباعد؟
في عصر النهضة، كان من المعتاد أن تكون هذه المجالات متعددة الأبعاد، ويرجع هذا جزئياً إلى أنها ذاتها كانت متوسعة بدرجة واضحة. في حين أن احتمال السيطرة على أكثر من حقل واحد غير معقول اليوم. حتى إتقان مجال واحد يشكل تحدياً مذهلاً يزداد باطراد.
في معظم التاريخ، لم نكن نعرف أي كوكب آخر في الكون، والآن نحن نعرف الآلاف من الكواكب.
لكن بسرعة كبيرة، خصوصاً مع الثورة الصناعية، بدأت هذه «المجالات» بالانجراف بعيداً عن ثقافتها الخاصة، وأخذت تكوّن لغة اصطلاحية محددة وحصرية على نحو متزايد، وكان لا بد أن تكون ماهراً باللغة ومطلعاً بشكل جيد على الحقول المعرفية المختلفة. والآن لدينا هذا الوضع الراهن حيث المعرفة في مجال بعينه غالباً لا يمكن الوصول إليها من قبل الآخرين.
المشاكل التي لدينا ليست مشاكل تكنولوجية، وليست مشاكل علمية، بل هي مشاكل من شاكلة تغير المناخ. ومشكلة تغير المناخ لن تُحل بالتكنولوجيا والعلوم. سوف نحتاج إلى الفن، وسوف نحتاج إلى العاطفة لفهم كيفية الوصول إلى الناس وإلهامهم بالتغيير، والتحدث إليهم عن الإمكانات الجديدة، وإظهار العوالم الأخرى لهم.
وهذا هو صميم فكرة الترابط، التي لا يحققها إلا أشخاص قادرون على العمل حقاً على هذا التقاطع - وهذا التقاطع هو التصميم.
صحيح. لقد أمضينا قروناً لحل مشاكل أخرى، ولكن ربما وصلنا إلى الكتلة الحرجة، أي اللحظة التي لم يعد فيها كافياً لهذه الممارسات الفردية العمل جنباً إلى جنب.
أجل، لدينا الآن مجموعة جديدة مما أسميه «مشاكل النجاح». إذا فشلنا بشكل متكرر، فستكون لدينا مشاكل أقل. سيكون هناك مليار شخص فقط على الكوكب. لقد استأصلنا الجدري من على وجه الأرض، وأنقذنا مئات الملايين من الأرواح. لكن كل هؤلاء الناس يعيشون الآن، ويحتاجون للطعام وللمأوى.
لقد حصلنا على فئة جديدة من المشاكل التي هي أعلى درجة من التعقيد ولا تتناسب مع الفئات الكلاسيكية. وعليك أن تجلب فرقاً من الناس للتعامل معها. وطورنا طريقة نسميها فريق عصر النهضة: لا يمكن أن تكون لديك شخصية عصر النهضة بعد الآن، وفكرة أنه يمكنني أن أجد شخصاً يمكنه أن يفعل ذلك حقاً غير قابلة للتصديق. لكن يمكن أن يكون لديك «فريق عصر نهضة».
بالعودة إلى التاريخ، تستطيع أن تعتبر فلورنسا تجسيداً للترابط في ذلك الوقت. ما الذي جعل فلورنسا مكاناً مثالياً لتلتقي فيه كل هذه العقول؟
جزئياً، كانت هناك ثقافة القيادة والتنافس. كانت هناك منافسة شديدة بين المدن. في ذلك الوقت، إذا كنت صانعاً للزجاج للزينة في مورانو، وحاولت المغادرة، فإنهم يقطعون يديك. لم يكونوا يرغبون في نقل كيفية القيام بذلك إلى الآخرين، لذا فـ«المغادرة مع المعرفة» كانت جريمة تنال العقوبة القصوى.
الإشراف والحماية في تلك الأيام كانت مصممة لخلق التفوق والمنافسة والفوز على المدن الأخرى. لذلك كان لزاماً الحصول على أفضل العلماء وأفضل الفنانين وأفضل المهندسين في مدينتك، لهزيمة المدن الأخرى. وفي حالة فلورنسا، كانت هناك عائلة «ميديشي». كان لديهم التزام لا يصدق بالفن، والثقافة، والعلوم - لقد موّلوا كل هذه المجالات.
هكذا تحصل على الثقافة الرائعة. إذا أخذت غاليليو من فلورنسا، فلن تحصل على ثقافة كهذه. هذا ما تنتجه ثقافة الترابط. وإذا تحدثنا في مجال التكنولوجيا، مثلاً، فعليك أن تذهب إلى سان فرانسيسكو ووادي السيليكون، ستجد هناك تقنيين أفضل من أي مكان في العالم. أنت لا تحصل على ذلك في بلدة «بوغكيبسي» الهادئة في ولاية نيويورك.

- خدمة «تريبيون ميديا»


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

«ملتقى طويق للنحت» يحتفي بتجارب الفنانين

الملتقى يتيح فرصة مشاهدة عملية النحت الحي والتمتُّع بتفاصيل الصناعة (واس)
الملتقى يتيح فرصة مشاهدة عملية النحت الحي والتمتُّع بتفاصيل الصناعة (واس)
TT

«ملتقى طويق للنحت» يحتفي بتجارب الفنانين

الملتقى يتيح فرصة مشاهدة عملية النحت الحي والتمتُّع بتفاصيل الصناعة (واس)
الملتقى يتيح فرصة مشاهدة عملية النحت الحي والتمتُّع بتفاصيل الصناعة (واس)

يحتفي «ملتقى طويق الدولي للنحت 2025» بتجارب الفنانين خلال نسخته السادسة التي تستضيفها الرياض في الفترة بين 15 يناير (كانون الثاني) الحالي و8 فبراير (شباط) المقبل، تحت شعار «من حينٍ لآخر... متعة الرحلة في صِعابها»، وذلك بمشاركة 30 فناناً من 23 دولة حول العالم.

ويُقدّم الملتقى فرصة مشاهدة عملية النحت الحي، حيث ينشئ الفنانون أعمالاً فنية عامة، ويُمكِن للزوار التواصل والتفاعل المباشر معهم، وتبادل الثقافات، واكتشاف الأساليب والأدوات المستخدمة في عملهم.

وسيصاحب فترة النحت الحي برنامج الشراكة المجتمعية، الذي يضم 11 جلسة حوارية، و10 ورش عمل مُثرية، و6 برامج تدريبية، إلى جانب الزيارات المدرسية، وجولات إرشادية ستُمكِّن المشاركين والزوار من استكشاف مجالات فن النحت، وتعزيز التبادل الفني والثقافي، واكتساب خبرة إبداعية من مختلف الثقافات من أنحاء العالم.

وتركز الجلسات على الدور المحوري للفن العام في تحسين المساحات الحضرية، بينما ستستعرض ورش العمل الممارسات الفنية المستدامة، مثل الأصباغ الطبيعية. في حين تتناول البرامج التدريبية تقنيات النحت المتقدمة، مثل تصميم المنحوتات المتحركة.

من جانبها، قالت سارة الرويتع، مديرة الملتقى، إن نسخة هذا العام شهدت إقبالاً كبيراً، حيث تلقّت ما يزيد على 750 طلب مشاركة من 80 دولة حول العالم، مبيّنة أن ذلك يعكس مكانة الحدث بوصفه منصة حيوية للإبداع النحتي والتبادل الثقافي.

وأعربت الرويتع عن طموحها لتعزيز تجربة الزوار عبر البرامج التفاعلية التي تشمل ورش العمل والجلسات الحوارية والجولات الفنية، مشيرة إلى أن الزوار سيتمكنون من مشاهدة المنحوتات النهائية في المعرض المصاحب خلال الفترة بين 12 و24 فبراير.

تعود نسخة هذا العام بمشاركة نخبة من أبرز النحاتين السعوديين، وتحت إشراف القيمين سيباستيان بيتانكور مونتويا، والدكتورة منال الحربي، حيث يحتفي الملتقى بتجربة الفنان من خلال تسليط الضوء على تفاصيل رحلته الإبداعية، بدءاً من لحظة ابتكاره للفكرة، ووصولاً إلى مرحلة تجسيدها في منحوتة.

وفي سياق ذلك، قال مونتويا: «نسعى في نسخة هذا العام من المُلتقى إلى دعوة الزوار للمشاركة في هذه الرحلة الإبداعية، والتمتُّع بتفاصيل صناعة المنحوتات الفنية».

ويعدّ الملتقى أحد مشاريع برنامج «الرياض آرت» التي تهدف إلى تحويل مدينة الرياض لمعرض فني مفتوح عبر دمج الفن العام ضمن المشهد الحضري للعاصمة، وإتاحة المجال للتعبير الفني، وتعزيز المشاركات الإبداعية، بما يتماشى مع مستهدفات «رؤية السعودية 2030».