ملامح من تاريخ الأرمن في العالم الإسلامي

مئوية ما يطلق عليها بـ«الإبادة» وعلاقتها بالأتراك

أطفال أرمن في أحد مخيمات اللاجئين عام 1915 (غيتي)
أطفال أرمن في أحد مخيمات اللاجئين عام 1915 (غيتي)
TT

ملامح من تاريخ الأرمن في العالم الإسلامي

أطفال أرمن في أحد مخيمات اللاجئين عام 1915 (غيتي)
أطفال أرمن في أحد مخيمات اللاجئين عام 1915 (غيتي)

لقد عُنيت وأنا أسجل بعُجالة واختصار، مع شيء من العسر، بعرض تعريف هاد ربما يزيح بعض اللغط والكابوس، ويلطف ما يعتري النفوس، فقد ذهب أمس بما فيه وجاء يوم بما يقتضيه، ولقد حاولت منه جمع مضامين تاريخية غنية تنطلق بمعطيات علاقة الأرمن بالعالم الإسلامي بعيدة عن بلاء التكرار والنمطية، قريبة ما أمكن من التشويق بقدر ما يسمح فيه المجال، وقديمًا قالت العرب «المكان من المكين».
في نهاية سبتمبر (أيلول) 331 قبل الميلاد قضى الإسكندر المقدوني على الإمبراطورية الأخمينية الفارسية بعد إلحاقه الهزيمة بجيش داريوس (داريوش أو دارا) الثالث وضمه أراضيها إلى إمبراطوريته الممتدة من بلاد الإغريق إلى شبه القارة الهندية، وما بينهما، وبالتالي غدت أرمينيا جزءًا منها.
وعمومًا، تأخذ الأمصار أسماءها من تسميات شعوبها أو سكانها، في حالات أخرى تسميات حكامها ملوكًا كانوا أم زعماء، وثمة أسماء ترتبط بمواقع ومعالم جغرافية. وتبعًا لذلك يذكر المؤرخ الأرمني القديم موسى الخوريني أن تسمية أرمينيا جاء نسبة إلى الملك أرمو، وترجع إلى نهاية الإمبراطورية الآشورية، كما أنه يصرّ ومواطنه المؤرخ توما الأردزوني، وغيرهما من مؤرخي الأرمن القدماء، بأن الشعب الأرمني يتحدّر من نسل النبي نوح، ويعزون ذلك إلى قرب ديارهم أرمينيا من جبل آرارات الذي استقرّ عليه فلك نوح - أو سفينة نوح - بعد الطوفان الكبير، كما تذكر الديانات السماوية التوحيدية، ونحن هنا نعرض روايةً من وجهة نظر المؤرخين الأرمن ولا نجزم - طبعًا - بصحتها.
أما عن اتصال الأرمن بالعرب، فإنه بدأ منذ بداية الفتوحات الإسلامية وسقوط الإمبراطورية الساسانية الفارسية عام 642م. ونتج عنه احتكاكات بين الأرمن الذين كانوا قد اعتنقوا المسيحية عبر المُبشّر (المُنصّر) غريغوري (جرجورة) نحو عام 303م، وكثيرًا ما تدخّلت الكنيسة عبر رئيسها بتهدئة الاحتكاك والصراع بين أمراء الأرمن والخليفة الأموي عبد الملك بن مروان عام 702م. وهو ما أدى إلى استقرار الأمور وازدهار العلاقات، لا سيما، بعد العهود المواثيق التي وقعت بين الخليفة الأموي وملك الأرمن آشوت.
وما أن أخذت الإمبراطورية البيزنطية تبذل محاولات لكي يتبع الأرمن الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية حتى ابتدأ السلاجقة التحرّش عام 1020م، ومن ثم انتهى الأمر باحتلال جزء كبير من بلاد بيزنطة، وفي ما بعد أدى إلى اتحاد الأرمن مع الكُرد ليتولى زعامتهم لاحقًا من أطلق عليه مسمى «شاه الأرمن»، وهو كردي من أبناء عمومة صلاح الدين الأيوبي، وذلك حتى الاحتلال المغولي عام 1240م، وحينذاك هاجر من أرمينيا أعداد كبيرة إلى أوروبا (بولندا وبلاد البلقان) وبقية أراضي بيزنطة.
تخبرنا الوثائق التاريخية بوجود أدلة يُستشفّ منها من الإقليم الذي تقع فيه أرمينيا كانت تسكنه أقوام لا تنتمي إلى العنصر الآري قبل الميلاد بألف وخمسمائة سنة من العنصر الذي يُطلَق عليه في علم الأعراق الحديث اسم «آرمينويد»، ويعتبر الحثيون هم من يمثّل هذا العنصر. وأما سكان تلك البقعة فيطلقون على أنفسهم اسم «كالديني» نسبة إلى ربّ كانوا يعبدونه. ولكن نحو 700 قبل الميلاد غزت أقوام هندو أوروبية (آرية) مرتفعات أرمينيا وفرضت على السكان الأصليين لغتها. وعند بروز الميديين والفرس امتزجوا بهم ليصبحوا ما بات يعرف بالأرمن لاحقًا. إن سكان سلسلة جبال طوروس (في جنوب هضبة الأناضول) ومعظمهم من الفلاحين، وفق علماء الأعراق، كانوا من أصحاب البُنيات القوية الطويلة القامة والأشكال الوسيمة الجميلة، وكانوا يتميزون بالشجاعة أيضًا. أما سكان الوديان فكانوا من أصحاب البنيات المليئة (جسيمون) النشطة والشعر الأسود السابل والأنوف المعقوفة وكانوا زرّاعًا مهرة ورعاة ماشية، وأما أهل المدن منهم فكانوا حرفيين بارعين وتجار ناجحين وذوي ذكاء حاد، مما جعلهم يتعاملون مع أصقاع بعيدة مثل الهند والصين، كما كانت أفراد الطبقة الراقية منهم متعلمين متفوقين.

الأرمن وتركيا

كان همّ السلطان العثماني محمد الثاني «الفاتح» أن يجعل من مدينة بيزنطة أو القسطنطينية - كما عُرفت لاحقًا تكريمًا للإمبراطور قسطنطين - التي غدت إسطنبول (أو إسلامبول أو الآستانة) بعدما فتحها، عاصمة الدولة العثمانية. ويجعل منها بوابة لتفاعل الإسلام والمسيحية. كذلك كان محمد الثاني، وفق المصادر التاريخية، معجبًا بالثقافة الإغريقية، وبالذات، بشخصية الإسكندر المقدوني الذي كان كُتّاب يونانيون يقرأون له سيرته في مجالسه الخاصة، وكان يفكّر كثيرًا بما يمكن أن يجلبه اليونانيون من غنى ورخاء لعاصمته إسطنبول.
وبالفعل، قرّر مع مشاوريه عام 1455م - بعد سنتين من فتحه عاصمة المسيحية الشرقية سابقًا عام 1453م وجعلها عاصمة الخلافة - زيارة مقر رئيس البطارقة جيناديوس، ولقد طلب منه أن يكتب له شرحًا عن المسيحية تُرجِم من اليونانية إلى التركية لكي يطلع عليه السلطان، وأطلق على الشرح اسم «التفسير القصير لدين المسيح». والحقيقة، إن ذلك العمل لم يكن قصيرًا أو بسيطًا بل إن فحواه كانت صعبة حتى على من اعتنق المسيحية بعدما آمن بها. غير أن هذه الصعوبة لم تضعف عزيمة السلطان العثماني على الاهتمام بالتعاليم المسيحية ومبادئها. وكان من مُجمل مقتنياته «مهد المسيح» الذي قال عنه إنه لن يتخلّى عنه ولن يبيعه بأغلى الأثمان، كذلك احتفظ بجمجمة وعظام يوحنا المعمدان. ومع أن ليس كل مستشاري محمد الثاني كانوا يشاركونه عقليّته المنفتحة، فإنهم لم يستطيعوا تغيير تفكيره واهتمامه باحتواء المسيحيين وحمايتهم حتى وإن حدثت أعمال من شأنها إثارة الفتنة من جانب بعض المسلمين.
وهنا، تجدر الإشارة إلى أن السلطان محمد الثاني «الفاتح» كان أول من شجّع الأرمن المسيحيين على التوطّن في عاصمته إسطنبول، بعدما كانوا جماعات معزولة تسكن منذ القرن السادس قبل الميلاد بين شرق الأناضول وجبال القوقاز، ولقد انقرضت آخر مملكة لها خلال القرن الرابع عشر وكانت لها لغتها وحروفها، وكانت من الناحية الدينية تؤمن بأن المسيح ذو طبيعة واحدة (مونوفيسية) إنسانية مقدسة، بينما كانت الكنيستان الأرثوذكسية والكاثوليكية تؤمنان بأن له طبيعتين (دووفيسية) واحدة إنسانية والثانية قدسية.
أما من الناحية الاجتماعية، ومع أن الأرمن من أبناء بيئة جبلية فإنهم أجادوا المهن والحِرَف التي تحتاج إلى دقة ومهارة كالصياغة والنسج والبناء والنشاط التجاري عمومًا. وبناء عليه، من يتمتع بمهارات كهذه يكون هدفًا مطلوبًا لبناء الإمبراطوريات. وحقًا كتب المؤلف مايكل كرتوفوليوس أن السلطان محمد الثاني اهتم بجلب الأرمن ووضعهم تحت رعايته «لحيازتهم على كفاءات ومهارات استثنائية في شؤون المال والصناعة والمعرفة والبناء والقدرة على التعامل في الأسواق». وقد تكون هذه العبارة هي الصفة الناعمة لما فعله السلطان العثماني، بيد أن ما كتبه التاجر الأرمني نرسيس عام 1480م ليس بالقدر نفسه من الإيجابية؛ إذ كتب لائمًا السلطان «على إثارته زوبعة بين قومه والمسيحيين عندما نقلهم من مكان إلى آخر، وإني أخلط بين الوقت والمرارة حينما تحوّلنا من أماسيا إلى القسطنطينية (أي إسطنبول) بالقوة وليس برضانا، وإني لأخطّ ذلك بدموع وعويل».
بدأ صعود نجم الأرمن في الدولة العثمانية منذ عام 1700 مقابل انخفاض مكانة اليهود، حتى إن بعض كنس اليهود وأماكن عبادتهم في إسطنبول مهددة بالإقفال لتعثّر الحالة المادية للجالية وتعذر صيانتها، في حين ارتفعت أعداد القادمين الأرمن إليها بنتيجة تردي الأوضاع السياسية في أرمينيا وغرب الأناضول بفعل الثورات والحروب. ولقد أمتهن في مطلع عهد استقرارهم في العاصمة العثمانية مهنًا بسيطة مثل بيع الخبز وأواني الفخّار واللحم المجفّف المقدّد (البسطرمة) في شوارع المدينة. ثم انتقلوا إلى أعمال أرفع بفضل مساعدة القصر السلطاني خلال حكمي السلطانين مراد الثاني وإبراهيم نتيجة بروز اسم المعماري الأرمني سركيس باليان الذي أصبح معماري القصر، كما عيّن الأرمني دوزيان مدير دار المسكوكات النقدية عام 1727 بدلاً من مديرها السابق اليهودي ياقو بونفيل. ومن ثم، أصبح جميع العاملين فيها من الأرمن بفضل استمرار تولي مدراء من أسرة دوزيان حتى 1890 لأن سجلات العمل كانت تكتب باللغة والأحرف الأرمنية التي يجهلها الجميع باستثناء الأرمن.
أيضًا غدا أبناء أسرة دوزيان مسؤولين عن جواهر السلاطين الذين كانوا يعتبرونهم أكثر أمانة وصدقًا من موظفيهم من اليهود واليونانيين. ومن ثم صار ممصلافي القصر من الأرمن بين عامي 1770 و1840، وهكذا صار الأرمن العنصر الرئيسي في تمويل الولايات وجباية الضرائب وسن تشريعاتها، فبلغوا من رفعة الشأن والشهرة حد إطلاق عليهم ألقاب كـ«قادة الأمة» و«الأمراء اللامعين» أو «أمراء الشرف الرفيع». وكان قصر أرتين دوزيان، مدير دار المسكوكات من أفخم قصور المدينة المطلة على مضيق البوسفور، وفي هذا دليل على الجاه والسطوة. كذلك كان السلطان محمود الثاني صديقًا حميميًا لمستشاره الأرمني بازديجان هوريتليان وكان يزوره في بيته، وعند وفاته أمر السلطان بنقل جثمانه إلى القصر ليودعه قبل دفنه. وكان مدينًا له بإنقاذه إسطنبول من المجاعة عام 1829.
وبالنسبة لأمور الصناعة العسكرية، لعب الأرمن دورًا لا يستهان به، وبرز في مجال صناعة البارود والمتفجرات أفراد من أسرة داديان الشهيرة التي حصلت على صيت كبير امتد نحو قرن من الزمن منذ عام 1795 بدءًا من عميدها أراكيل الذي كسب لقب «بارود باشي»، ولقبه السلطان محمود الثاني «أسطى أراكيل أمين وعامل مجد دام حفظ الله». وجاء من بعد ابنه أوهانس الذي تولى أعمال أبيه وأضاف إليها مصنعًا للورق وآخر للنسيج وثالثًا للبنادق. وكان أوهانس داديان يجيد عدة لغات أوروبية، وزار فرنسا وبريطانيا مرتين أقام خلالهما لمدة سنتين لدراسة تطور صناعة الأسلحة ومستلزماتها حتى ما عادت الدولة العثمانية بحاجة إلى استيرادها.
من ناحية ثانية، وكدليل على تطوّر مكانة الأرمن، أخذت الكنيسة الكاثوليكية تنشط لاختراق الأرمن. وحقًا بدأت اجتذاب بعضهم للالتحاق بالكنائس الغربية (الكاثوليكية) والاعتراف بسلطة البابا مع إبقاء معتقداتهم القديمة وتخفيف بعضها، مثل خفض مدة صيامهم من 240 يومًا إلى 40 يومًا فقط، وخفض ما كانوا يدفعونه للكنيسة ورجالها الإكليروس: وبالنتيجة نشأت كنيسة أرمنية كاثوليكية وبات الأرمن الكاثوليك يتوقون للانضواء تحت حماية فرنسا. غير أن غالبية الأرمن ظلوا أرثوذكس لم يقبلوا بالتغريب الكاثوليكي، ورفع بطريركهم شكوى إلى الصدر الأعظم (رئيس الوزراء العثماني) عام 1707 ضد بعض القساوسة الأرمن الذين اعتنقوا الكثلكة، مطالبًا بمعاقبتهم بحجة أنهم يشقّون وحدة الطائفة وينقلون ولاءهم من «الدولة العلية» (أي الدولة العثمانية) إلى الإفرنج ليصبحوا عُملاء لهم، تلبية لطلب البطريرك أعدم عدد منهم.
لقد دفعت تحوّلات جيو سياسية، صاحبتها ضغوط اجتماعية واقتصادية كبيرة بعض المجتمعات لأن تستسلم لمعطيات وطنية وقومية، منها الدولة العثمانية وعاصمتها الكوزموبوليتانية إسطنبول. فعوامل كالأعراق والاقتصاد والثقافة وإن كان يمسكها رباط المعيشة بحدوده الحضارية المتوافرة، فإن الانصهار الكامل لا يتحقق بالضرورة. فـ«المدينة» عند البعض غير كافية بل يطمح إلى ما هو أكبر مثل «دولة» خاصة بهم. وبما يخص الأرمن، هذا ما عبر عنه نفر من مثقفيهم مثل كريكور أدويان، الذي درس في العاصمة الفرنسية باريس ولقد كتب بعد رجوعه إلى إسطنبول في كبريات صحفها «إن حب الأمة يبعث أقوى شعور هو في طبيعته كحب الإنسان لوالديه والبر والعاطفة لإخوته بالدم والحب والدفء اللامنتهي إلى أبنائه. كل ذلك بمجموعه لا يعادل حب الإنسان لأمته».
الأمة - أو الملّة - التي قصدها أوديان ما كانت الدولة العثمانية بل «الأمة الأرمنية». فهناك فارق حاسم بين النصين اللغويين الأرمني والعثماني تمثله نصوص دستور عام 1863، التي تقول إن «الأرمن طائفة (ملّت – أي ملّة) مثل اليهود واليونانيين»، ولقد هيئ لهم مجلسان أحدهما للشؤون الدينية والثاني للزمنية. وهذان المجلسان انتخبا بموافقة عامة وحقّقت النقابات والمثقفون في المدينة النصر على الكنيسة والطبقة المتنفذة، ومن ثم رأى الأرمن في ما تحقق «القانون الوطني للأرمن»، أما بالنسبة للعثمانيين الترك فرأوه مجرد تنظيمات للكنيسة الأرمنية.
ولقد كان أمل السلطان عبد الحميد الثاني أن يتخلى رعايا الدولة العثمانية عن هويّاتهم القومية لهويتهم إمبراطوريتهم على غرار مهاجري الولايات المتحدة غير أن ذلك لم يتحقق بين مصالح شللية العوائل والشعور القومي. فأسرة باليان كانت تبني قصور السلطان وأسرة داديان تصنع لجيشه البارود. وكان الأرمن موظفي المحاسبة والأطباء والطبّاعين والمصوّرين وخياطي القصور السلطانية. وباختصار، لم تتمتع أقلية بثقة السلاطين ومنافعهم مثل الأرمن.
السلطان عبد الحميد منح الأرمن المقربين منه شرف وضع الختم الذهبي على طرابيشهم، ومثل أبيه كان يزور بيوتهم عام 1832، وأقام في قصر داديان بين يومين وثمانية أيام في أعوام 1842 و1843 و1845 و1846؛ فأن يبيت السلطان في بيت مواطن يعد شرفًا لا يدانيه شرف، ولا سيما إذا كان هذا المواطن غير مسلم. ومن جهة ثانية، احتفظت كنيسة سان ستيفان الأرمنية بالإبريق والطشت اللذين استخدمهما السلطان لغسل يديه. وصرّح أحد أبناء أسرة داديان بفخر عام 1867 بـ«أن السلاطين يمحضون الأرمن ثقتهم الكاملة»؛ مما أثار سخط كثرة من المسلمين وحسدهم.
ومن ثم أخذت بوادر النزعات القومية تطل برؤوسها وتظهر على السطح بشكل احتجاجات على سوء إدارة ولاة المناطق وفسادهم في استغلال مواطنيها.
وهكذا، ظهر شعور اليونانيين بالتفوق التاريخي في كل المناسبات باعتبارهم أنفسهم «العنصر المنتصر» وأنهم في «أرض الآباء»، حسب تعبيرهم. وبلغت قمة العداء عند البلغار الذين حاولوا غير مرة إحراق العاصمة وظهر هذا العداء بوضوح على لسان أحد قادتهم الثوريين ليوبين كارافيلوف الذي كتب عام 1869 «التركي يبقى تركيًا، ولن تستطيع الآلهة أو الشياطين أن تجعل منه آدميًا».
واستمر كريكور أوديان بمقالاته مخاطبًا البطريرك: «لا تحبط نفسك بالآمال المزيفة يا ابن أرض الآباء الحبيب. إن طائر الفينيق لن ينهض من الرماد. هنا نرى القصور التي شيّدتها أيادي الأساتذة، دع عنك ذلك الرماد وارجع. تعال إلى هنا لكي تنام عيناك على رداء الكهنوت الذهبي». وفي المقابل، رد بعض المسلمين وتعالت أصواتهم مشبعة بنزعة وطنية قومية تركية، منهم الضابط الشاب سليمان باشا، آمر المدرسة العسكرية ومؤلف كتاب «قواعد اللغة التركية» الذي كتب عام 1876: «إن عبارة عثماني هي مجرد اسم لدولتنا فقط، بينما اسم أمتنا هو الترك، ومن المحتم أن لغتنا هي التركية وأدبنا هو الأدب التركي». وبالفعل، انتشرت النزعة القومية التركية أو «الطورانية»، وطالب المنادون بها «بالعودة إلى الجذور» آخذين المبادئ من جنكيز خان لا من الإسكندر وقيصر، كما راجت الأشعار في تمجيد «طوران» بلاد الترك الأسطورية في الشرق.
والتحق بالركب الأكراد، فأصدر السيد عبد القادر جريدة «كردستان» التي ظهرت باللغتين الكردية والتركية، وأسست «جمعية التقدم والتطوّع» المتبادل التي نادت بإنشاء المدارس الكردية، وبرز منهم لطفي فكري المبعوث (النائب) الكردي الذي كان يطالب بالحكم المدني لا الديني للدولة والكتابة بالأحرف اللاتينية.
وبحلول 1908 انضم العرب إلى مسيرة نهوض الشعور القومي، وصارت إسطنبول مركزًا لحركتهم وليست القاهرة أو بيروت. وازدادت الأمور تعقيدًا حين ظهر أن السلطان عبد الحميد أخذ يشجع جواسيس ومرافقين من العرب. ولما هاجمت جريدة «إقدام» التركية، العرب، تعرضت لرد عنيف من العرب المقيمين في إسطنبول أدى إلى تخريب مطابعها. كذلك أسّست في المدينة جمعيتان سرّيتان هما «القحطانية» و«العهد» بين عامي 1909 و1914 التحق بهما معظم الضباط العرب في الجيش العثماني.

«المسألة الأرمنية»

في ثمانينات القرن التاسع عشر، كما توقّع البطريرك كرمنيان، اختار الأرمن طريق الثورة والعنف؛ إذ أسّس نفر منهم بينهم أرمني روسي اسمه آفاديس نازاربكيان عام 1886 في مدينة جنيف بسويسرا حزب «الهنشاق» (أي: الناقوس) فكان أول منظمة ماركسية ثورية في المنطقة متأثرة بالمبادئ الشعبية والثورات العامية أو «العاميّات».
واستطاع «الهنشاق» ضم 700 عضو في إسطنبول معظمهم من الأرمن العاملين في مصالح وشركات أجنبية. وبعد ثلاث سنوات أسست منظمة ثورية أرمنية قومية حملت اسم «تروشاق» (أي: العلم) في مدينة تفليس (تبيليسي) - عاصمة جورجيا الحالية - ثم غير اسمها إلى «طاشناق» (أي: الاتحاد) عندما فقد الأرمن التأييد القيصري الحكومي الروسي، لكنه وفق بالحصول على التأييد الثوري المنظم. ومن ثم شن الحزبان الأرمنيان «الهنشاق» و«الطاشناق» حملة اغتيالات استهدفت الشخصيات الأرمنية العاملة في خدمة السلطان العثماني.
وعلى الأثر، أخذت شكوك الحكومة تحوم حول سلوك الأرمن. وعام 1889 أجريت مقابلة في قصر يلدز بين السلطان عبد الحميد والمؤرخ المجري فامبري المتخصّص بالشأن التركي الذي كان يقوم بعمليات تجسس لصالح بريطانيا، أبدى السلطان غضبه لدرجة أنه رفع غطاء رأسه عدّة مرات، وقال له: «أبلغ أصدقاءك الإنجليز، خصوصًا اللورد سولزبري، الذي أكن له الاعتبار والتقدير، بأنني أستطيع معالجة مصدر الشر في أرمينيا، لكنني (قالها بغضب بالغ) لاحقًا سأفضل أن أترك له أن يقطع هذا الرأس عن جسدي من أن أترك من يريد فصل أرمينيا».
واستمرت محاولات «الهنشاق»، ومعظمهم من أرمن القوقاز، إثارة المشكلات بين الأرمن في إسطنبول ووصلت إلى حد احتلال الكاتدرائية الأرمنية واحتجاز البطريرك وقراءة بيانات تهاجم السلطان، مما أدى إلى اندلاع اشتباكات أسفرت عن سقوط 20 أرمنيًا من المتظاهرين ورجلي شرطة. وكانت تلك أول مواجهات دامية تشهدها المدينة منذ فتحها محمد الثاني عام 1453م وأول مرة يجرؤ فيها مسيحيون على مهاجمة رموز سلطة آل عثمان.
وبعدها تردّت الأوضاع، فاستقال البطريرك وارتفعت الشعارات والهتافات المنادية بحياة الأرمن وأرمينيا علنًا، وهكذا سقطت الحجب وظهر التحدّي بكل أبعاده. وفي العام التالي، عام 1894 جمّد «القانون الوطني للأرمن» وأصيب البطريرك بجروح خلال محاولة اغتياله على يد شاب أرمني متحمس. وفي سبتمبر 1895 سارت تظاهرة ضمت ألفين من الأرمن المسلحين بالمسدّسات والسكاكين أمام «الباب العالي» (مقر رئاسة الوزراء) وهتفت «الحرية أو الموت!» وأنشدت أناشيد قومية أرمنية. وجاء الردّ شديدًا وتحوّل المشهد إلى «حرب شوارع» بين المسلمين والأرمن، واستمر الوضع على هذا المستوى من التوتر حتى أغسطس (آب) من العام التالي حين أقدم أفراد من «الطاشناق» بتفجير قنابل في أنحاء متعددة من إسطنبول، كما هوجم المقر الرئيسي للبنك العثماني في حي غلاطة التجاري بالمدينة.
واستمرت الاعتداءات على الأرمن وبيوتهم ومحلاتهم التجارية وأدت تلك الحوادث سقوط نحو ستة آلاف قتيل، وشنت الصحف الأوروبية حملة عنيفة على العثمانيين ووجهت احتجاجات حكومية عنيفة طاولت أعلى المراتب بل أطلق الزعيم الفرنسي جورج كليمنصو على السلطان عبد الحميد بعد تلك الأحداث لقب «غول يلدز» (في إشارة إلى قصر السلطان) و«السلطان الأحمر» وينسب هذا اللقب الأخير إلى الصحافي بيار كيار. وفي المقابل، من جملة ما قاله السلطان عبد الحميد في مذكراته عن الأرمن «لقد عاملت الأرمن معاملة رحيمة لكنني منعت تجمعهم على فكر واحد».
غير أن الأمور وصلت إلى منتهاها حين وقعت محاولة اغتيال فاشلة استهدفت السلطان عبد الحميد في باحة جامع يلدز بعد صلاة الجمعة يوم 21 يوليو (تموز) 1905 حين انفجرت عربة ملغمة بقنابل موقوتة أعدها بلجيكي اسمه شارل إدوار جوريس، كان من مناصري «الطاشناق» في باريس، ومع أن السلطان لم يصب بأذى راح ضحية المحاولة نحو 80 بين قتيل وجريح.
بعد هذه المحاولة بأربع سنوات عُزل السلطان عبد الحميد الثاني يوم الثلاثاء 27 أبريل (نيسان) 1909 ومن ثم نُفي إلى مدينة سالونيك (في شمال شرقي اليونان اليوم) وعاش فيها ثلاث سنوات حتى نوفمبر (تشرين الثاني) 1912. ثم نقل إلى بيلرباي المطل على البوسفور في إسطنبول حتى وفاته عام 1918.
بين 1909 و1914 تحسنت الأوضاع بين حكومة جمعية «الاتحاد والترقي» – التي أطاحت بالسلطان عبد الحميد – وبين الأرمن، وساد جو من الهدوء على الساحة السياسية. وعقدت اجتماعات بين مجلس المبعوثان (البرلمان) وأعضاء من حزب «الهنشاق» في إسطنبول. وعلى أثر هذا التحسن في العلاقة عيّن الأرمني جبرائيل نردونجيان وزيرًا للخارجية، ولاحقًا عرضت خطط للتحديث والتطوير في شرق الأناضول.
ولكن، ما أن حلّ عام 1914 ودخول الدولة العثمانية الحرب العالمية الأولى بجانب ألمانيا، في شهر أكتوبر (تشرين الأول)، حتى بدأت الأجواء تكفهر. ومن ثم بادرت جهات أرمنية إلى التعاون مع الروس ضد القوات العثمانية في الأناضول، أعقبتها أعمال عنف في مدينة فان (وان) بشرق الأناضول، كما بدا واضحًا تأييد الأرمن في إسطنبول لروسيا وسرورهم بنجاحات الروس العسكرية على الجبهة الشرقية في أوروبا.
عندها قررت «الاتحاد والترقي» الحاكمة اتخاذ سياسات حازمة والقضاء على تدخلات الأرمن، ووصلت الأمور في النهاية إلى إقصائهم وطردهم نهائيًا من الأناضول، وهنا اندلعت المجازر التي بلغ عدد ضحاياها من الأرمن مئات الألوف. وفي سياق الحملة، صدرت أوامر عليا بنفي وعزل ألفين من الشخصيات الأرمنية البارزة من النواب والساسة وكبار الموظفين والكتّاب، تلتها عمليات تهجير جماعية للأرمن نحو بلاد الرافدين (العراق) باتجاه الموصل ودير الزور في ظروف سيئة للغاية، وهام المهجّرون الأرمن على وجوههم في الجبال والصحارى حفاة عراة، شيوخًا ونساء وأطفالاً، وتوفي الألوف ضحايا الجوع والعطش والمرض.



كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.