بيتر بروك... غيّر المسرح الغربي وفتح فضاءه على التنوع الثقافي

تأثر بشكسبير ورواد المسرح الروسي ودعا لتقليص الفن إلى عناصره الأساسية

بروك في إحدى البروفات المسرحية
بروك في إحدى البروفات المسرحية
TT

بيتر بروك... غيّر المسرح الغربي وفتح فضاءه على التنوع الثقافي

بروك في إحدى البروفات المسرحية
بروك في إحدى البروفات المسرحية

ما أطول الرحلات التي قطعها بروك، الذي رحل أمس في باريس عن 97 عاماً، وفريقه من الممثلين ذوي الجنسيات المختلفة والحساسيات الثقافية المتباينة، وهم يرتجلون ويقدمون عروضهم في قلب أفريقيا في قرى مالي ونيجيريا وفي صحاري الشرق وعلى أطراف أميركا في محميات الهنود الحمر والأحياء الشعبية لبروكلين والمستشفيات ودور إيواء المهاجرين وكل مكان لا يصله المسرح. لأكثر من ثلاث سنوات، في بداية السبعينات، حاول بيتر بروك وفرقته توسيع دائرة التفكير في ماهية «الفضاء المسرحي المشترك» والصلّة مع المتفرج وتجنب القطيعة بين المسرح والواقع المعاش. يقول الناقد المسرحي جون هيلبيرن، الذي وثق هذه الرحلة في كتاب من أكثر الكتب مبيعاً «كانوا يضعون سجادة كل يوم في قرية نائية ويسترجلون عرضاً باستخدام الأحذية أو الصندوق. لم يكن هناك نص أو لغة مشتركة».
ولم تكن هذه سوى محطة من بين المحطات الكثيرة التي ميزت الإنتاج الإبداعي لعملاق المسرح الحديث بيتر بروك. فطيلة مسيرته الفنية حاول بروك تجديد المسرح الغربي من خلال تلقيحه بالأشكال الثقافية المتنوعة الشرقية والأفريقية والأميركية، فكان دائم البحث والترحال، وزار كثير من الدول للبحث عن أصول الفرجة الدرامية وطقوسها الأنثروبولوجية.
البداية كانت من لندن التي وُلد فيها الكاتب والمخرج البريطاني عام 1925، حيث نشأ في أحضان عائلة يهودية من أصول روسية، غيرت اسمها من بريك إلى بروك. ولمن كان يسأله عن هويته اليهودية، كان المخرج البريطاني يجيب بأنه لا علاقة تربطه بجذوره اليهودية، وبالعكس فإن شعوره بالانتماء لعروقه الروسية لا يحتمل أي شّك. زوجته الممثلة ناتاشا باري هي الأخرى من أصول روسية، وأول شيء شدّ انتباهه حين التقاها عام 1950 هو اسمها «ناتاشا» تماماً كبطلة «الحرب والسلم» لتولستوي، كما أن إيرينا ابنة بيتر بروك سُميت كذلك تخليداً لشخصية البنت الصغرى في مسرحية تشيكوف «الأخوات الثلاث». بيتر الشاب أحبّ السينما والتصوير، لكن العمل في المجال السنيمائي في بريطانيا ما بعد الحرب كان يبدو له بعيد المنال فاتجه لدراسة الأدب الروسي في جامعة أوكسفورد. موهبته في الإخراج المسرحي انفجرت مبكراً، حيث قام بإخراج أول عمل له وهو لا يتعدى 22 سنة مع «عذاب الحب الضائع» ثم «روميو وجولييت» لشكسبير وهو الكاتب الذي تأثر به بروك لحدّ كبير وكان من أهم مصادره في أعماله المسرحية طيلة مشواره الإبداعي.

بيتر بروك

وهو ابن الـ23 سنة عُيّن مديراً لدار الأوبرا الملكية «كوفنت غاردن»، لكن سرعان ما تم إبعاده عن هذا المنصب بعد «فضيحة» رسومات سلفادور دالي التي وضعها بروك كديكورات لمسرحية «سالومي» لريتشارد شتروش. لُقّب بـ«الطفل المشاغب» وكان باستطاعته المواصلة في العمل بالمسرح التجاري الإنجليزي بعد أكثر من أربعين عرضاً كُلّلت جميعها بالنجاح والجوائز، وهي الفترة التي أدار فيها أسماء لامعة من المسرح العالمي أمثال أورسون ويلز ولورانس أولفييه، إلا أن تصوّره وعلاقته بالمسرح تغيرت، حيث بدأ يخوض تجارب مسرحية متميزة ساهمت في تجديد وجه المسرح الغربي إلى الأبد. استلهم أفكاره من رُواد الإخراج المسرحي أمثال غروتوفسكي صاحب نظرية «المسرح الفقير» لتدريب ممثلي فرقة شكسبير عندما قدمت عرض «نحن والولايات المتحدة» في الستينات وكان العرض عملاً مسرحياً سياسياً أثار ضجّة إعلامية أنداك، كما تأثر بقسطنطين ستانيسلافسكي والفرنسي أنطونان أرتو صاحب نظرية «مسرح القسوة»، إضافة إلى فيسفولد ماير خولد صاحب التصّور البيوميكانيكي الذي يركز على التجانس الجسدي والتصويري على خشبة المسرح.
في حوار مع صحيفة «لوموند» في نوفمبر (تشرين الثاني) 2010، شرح بروك كيف بدأ الملل يجتاحه بعد سنوات من العمل في المسرح التقليدي، حيث قال «بدأت أسأم من الصورة التي لطالما أحببتها وأصبحت أشعر أن قلب المسرح هو الإنسان وبالتالي الُممثل؛ ولذا فقد بدأت أهتم بتقنيات المرتكزة على حركات الجسد والتنفس لتمكين الممثل من إخراج كل قدراته»، كما أعاد بروك اكتشاف أبو الفنون من خلال تقليصه إلى العناصر الأساسية والأكثر قوة في الدراما وهي نظرية «المساحة الفارغة» التي تدعو إلى التركيز على إلقاء الممثل ونبذ أي ديكور أو زخرفات أخرى، حيث كتب «يمكنني أن آخذ أي مساحة فارغة وأطلق عليها اسم المسرح المجرد... رجل يمشي عبر فضاء فارغ بينما يراقبه شخص آخر، وهذا كل ما هو مطلوب لعمل مسرحي».
كما شجع التنوع وانفتاح المسرح الغربي على الثقافات الأخرى، وكان يقول «إذا كنا نريد التحدث عن الإنسان، فلا يجب تقليصه إلى الرجل الأبيض البرجوازي الذي يمثل مجتمعاتنا». ومعروف عن بروك استعانته بممثلين من مختلف الآفاق الثقافية وهو الذي اكتشف الممثل المالي باكاري سنغاري الذي كان بمثابة ممثله المفضل، وكان أول ممثل أفريقي الأصل ينضم لمؤسسة «لاكوميدي فرانسيز» العريقة.
بين 1955 و1965 أنجز بروك عروضاً مسرحية متميزة أمثال «تيتوس أندريكوس» لفرقة شكسبير الملكية وكان عرضاً فريداً من نوعه لأنه حمل تصوراً جديداً اتسّم بتجريب نظريات إخراجية معاصرة تليق بشخصيات شكسبير الفذة، إضافة إلى أعمال أخرى طبعت الأذهان أمثال «حلم ليلة صيف» «العاصفة» و«أوديب». هذا، وقد حقّق بروك أبحاثاً ودراسات مسرحية عدة، أهمها كتاب «المساحة الفارغة» عام 1968 حول إشكاليات المساحات في المسرح و«نقطة التحول» عام 1987 أو «الباب المفتوح» عام 1993، تبقى فرنسا التي التحق بها بروك في السبعينات واستقر فيها إلى غاية وفاته في الثاني من يوليو (تموز) الحالي أهم المحطات في مشواره الإبداعي، حيث ارتبط فيها اسمه بمسرح «لي بوف دي نور» الذي أعاده إلى الحياة بعد أن كان مهدداً بالغلق وأدار فيه عروضاً متميزة كمسرحية «الناي السحري» المقتبسة من أُوبرا موزارت، و«الملك لير» أو تحفة «ماهابهاراتا» من الملحمة الهندوسية والتي لخّصت اهتمام بروك بالمسرح الثقافي الأنثروبولوجي والذي كان يسعى من خلاله إلى إيجاد لغة مسرحية عالمية مشتركة.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

«هيئة المكتبات» السعودية تنظم معرضاً لمجموعة نادرة من المخطوطات التاريخية

يتضمن المعرض مجموعة فريدة ونادرة من المخطوطات التاريخية التي تُعرض لعموم الجمهور والمهتمين للمرة الأولى (واس)
يتضمن المعرض مجموعة فريدة ونادرة من المخطوطات التاريخية التي تُعرض لعموم الجمهور والمهتمين للمرة الأولى (واس)
TT

«هيئة المكتبات» السعودية تنظم معرضاً لمجموعة نادرة من المخطوطات التاريخية

يتضمن المعرض مجموعة فريدة ونادرة من المخطوطات التاريخية التي تُعرض لعموم الجمهور والمهتمين للمرة الأولى (واس)
يتضمن المعرض مجموعة فريدة ونادرة من المخطوطات التاريخية التي تُعرض لعموم الجمهور والمهتمين للمرة الأولى (واس)

تنظم هيئة المكتبات «معرض المخطوطات السعودي» في العاصمة الرياض خلال الفترة من 28 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي إلى 7 ديسمبر (كانون الأول) المقبل، تحت شعار «حكايات تُروى لإرث يبقى»، الذي يتضمن مجموعة فريدة ونادرة من المخطوطات التاريخية التي تُعرض لعموم الجمهور والمهتمين للمرة الأولى، التي تغطي مجالات معرفية متعددة.

ويضمُّ المعرض باقة متنوعة من الفعاليات المصاحبة، تشمل ورش عمل يقدمها نُخبةٌ من العلماء والباحثين، وتحظى بمشاركة المهتمين بالتراث المخطوط؛ لمعرفة أهمية المخطوطات، وتقنيات حفظها وترميمها، ورقمنتها وأرشفتها، إلى جانب دراستها وتحليلها.

كما يُقدم المعرض تجربةً إثرائية فريدة للزائر عبر أقسامه المختلفة، وعبر التجارب الرقمية وصناعة المحتوى، والاطلاع على جدارية المخطوطات.

ويسعى «معرض المخطوطات السعودي» إلى استضافة كثير من الزوار والمهتمين بالمخطوطات على مستوى محلي وإقليمي ودوليّ، سواءً كانوا من القُرّاء والباحثين، أو مُلّاك المخطوطات من الأفراد والمؤسسات، أو صناع المحتوى الذي يتناسب مع هذا المجال، بالإضافة إلى منسوبي المكتبات السعودية والعالمية، والجهات ذات العلاقة، وذلك لتوسيع دائرة التركيز على هذا المجال الفريد، وإضفاء مزيد من التواصل للإبقاء على رونقه والاهتمام به.

يأتي تنظيم هيئة المكتبات للمعرض بهدف إبراز دور السعودية في الاهتمام بحفظ التراث الثقافي المخطوط محلياً ودولياً، وعكس أهمية حفظ التراث المخطوط، وتيسيره، ونشره محلياً وعربياً، والإسهام في النمو الثقافي والاقتصادي للقطاع في مجال المخطوطات، وتسليط الضوء على الخبرات الوطنية في علم المخطوطات وترميمها، وتعزيز الوعي المعلوماتي حول قيمة المخطوطات وتاريخها الثقافي بوصفها إرثاً ثقافياً مُمتداً.