غموض حول تقليل إيران من أهمية اغتيال إسرائيل لمسؤوليها

محللون: طهران شعرت بالحرج البالغ لعمليات الاغتيال وفشل استخباراتها

موكب تشييع العقيد في «الحرس الثوري» صياد خدايي في 24 مايو الماضي (أ.ف.ب)
موكب تشييع العقيد في «الحرس الثوري» صياد خدايي في 24 مايو الماضي (أ.ف.ب)
TT

غموض حول تقليل إيران من أهمية اغتيال إسرائيل لمسؤوليها

موكب تشييع العقيد في «الحرس الثوري» صياد خدايي في 24 مايو الماضي (أ.ف.ب)
موكب تشييع العقيد في «الحرس الثوري» صياد خدايي في 24 مايو الماضي (أ.ف.ب)

كان العقيد حسن صياد خُدايي، المسؤول الكبير في الحرس الثوري الإيراني، جالساً في سيارته بطهران عندما أطلقت عليه النار وقتلته فرقة مسلحة بالدراجات النارية، في 22 مايو (أيار). وفي إيران، نعاه آلاف الأشخاص الذين حضروا جنازته وأشادوا به كبطل لقمعه تنظيم «داعش»، إلا أنه كان محل سخرية شديدة في الصحافة الإسرائيلية لأنه الرجل الذي خطط لسلسلة من الهجمات الإرهابية ضد دبلوماسيين إسرائيليين في الهند وتايلاند، والمكلف باختطاف رعايا إسرائيليين وأجانب في الخارج. ولم تتوان إيران عن توجيه اللوم لإسرائيل على اغتياله، وتعهدت بالانتقام لمقتله.
كان خُدايي واحداً من سبعة مسؤولين وعلماء إيرانيين يبدو أنهم قُتلوا منذ أواخر مايو، لكن وفاته كانت الوحيدة التي تثبتها إيران رسمياً على إسرائيل، رغم عدم وجود شك يُذكر بين المحللين الأميركيين والإيرانيين والإسرائيليين والمسؤولين الأمنيين السابقين بأن الاغتيال جزءٌ من حرب ظل سرية بين البلدين. ويبدو أن جميع الإيرانيين تقريباً الذين لقوا حتفهم - وهم جيولوجي، ومهندسان، وعضوان من وحدة الفضاء التابعة للحرس الثوري - مرتبطون إما بالمنشآت النووية الإيرانية، أو بالبنية التحتية العسكرية التي تُعين بها طهران وكلاءها.
- تل أبيب لا تعترف بعملياتها
وقال دينيس روس، مفاوض الشرق الأوسط الذي عمل مع عدة رؤساء أميركيين، لمجلة «فورين بوليسي»، «لا تعترف إسرائيل أبداً بإقدامها على اغتيال الإيرانيين، لكن من المفترض عادة أن الإسرائيليين مسؤولون عن عدد من عمليات الاغتيال والهجمات. هذه هي الحالة بكل تأكيد فيما يتصل باغتيال مسؤولين على صلة بالحرس الثوري أو علماء يقودون البرنامج النووي الإيراني».
ومع ذلك، في حين عززت إسرائيل، وفقاً للمحللين، من حدة حرب الظل مع إيران عبر تصاعدها في الاغتيالات المزعومة، يبدو أن المسؤولين الإيرانيين لا يعيرون عمليات الاغتيال هذه أي أهمية. على سبيل المثال، بعد أسبوع من وفاة خُدايي، ألم المرض بأيوب انتظاري، مهندس الفضاء الذي عمل في مشاريع متعلقة بالصواريخ في مركز للبحوث والتطوير يديره الحرس الثوري في مدينة يزد الإيرانية، وتُوفي بعد عودته من حفل عشاء، حسبما ذكرت صحيفة «نيويورك تايمز»، ثم اختفى مُضيف حفل العشاء منذ ذلك الحين.
وفي 2019، ظهر خُدايي في صورة تجمعه بالرئيس الإيراني آنذاك حسن روحاني، ما يشير إلى أنه ربما كان شخصية مهمة في آلية الدفاع الإيرانية. وفي البداية، وصف أحد المحافظين أيوب انتظاري بالشهيد، في حين وصف أحد أعضاء مجلس المدينة مقتله بأنه حالة من «الإرهاب البيولوجي». غير أن المسؤولين تراجعوا فيما بعد قائلين إن وصف انتظاري بالشهيد كان خطأ. وزعموا أيضاً أنه لم يكن مهندساً فضائياً، وإنما موظفاً عادياً. وعندما سألت مجلة «فورين بوليسي» مُحللاً إيرانياً، يُعتقد أنه مقرب من الحكومة، حول عمليات الاغتيال الأخيرة، تظاهر المحلل، الذي تم إخفاء هويته لحساسية الموضوع، بالجهل، وأجاب بكلمات مثل «من هؤلاء؟»، مع إشارات لأن العقيد المقتول ليس من رتبة عالية.
- حرية إسرائيل داخل إيران
يعتقد محللون أميركيون وإسرائيليون أن طهران استجابت بهذه الطريقة لاستشعارها الحرج البالغ، ورأت في عمليات الاغتيال فشلاً استخباراتياً كبيراً في خضم التصعيد الإسرائيلي للحرب السرية. وصرح فارزين نديمي، الزميل المشارك في معهد واشنطن، لمجلة «فورين بوليسي»، قائلاً إن أعمال الاغتيال الأخيرة، إلى جانب الهجمات على البنية التحتية العسكرية الإيرانية والهجمات السيبرانية على المرافق المملوكة للدولة «أضرت إلى حد كبير بالردع المتصور لإيران، وأظهرت تصميم إسرائيل وحرية حركتها في الداخل الإيراني». وقال نديمي إن هذه الهجمات جعلت الحكومة الإيرانية «متشككة للغاية» في مصداقية إجراءاتها الأمنية. «ونتيجة لذلك، يتعين عليهم تحويل الكثير من الوقت والمال بعيداً عن مشاريعهم وصوب تقوية منشآتهم وإعادة تقييم ولاء قواتهم العاملة». وأضاف أن أغلب الهجمات يُعتقد بأنها «عمليات داخلية».
وقال محللون ومسؤولون أمنيون، إن الموجة الأخيرة من الهجمات تنبع من مخاوف إسرائيل أن تكون إيران هي الأقرب لأي وقت مضى لبناء سلاح نووي، بينما تواصل تسليح ميليشياتها في المنطقة، تلك التي تمثل تهديداً مباشراً للدولة الإسرائيلية.
- تخصيب اليورانيوم
استمرت إيران في تخصيب اليورانيوم المستخدم في الأسلحة بنسبة نقاء تبلغ 60 في المائة منذ الانسحاب أحادي الجانب لإدارة ترمب السابقة من الاتفاق النووي لعام 2015 قبل أربع سنوات. إنها أقل بقليل من نسبة 90 في المائة اللازمة لصناعة القنبلة النووية، لكنها أعلى بكثير من الحد الأقصى الذي حدده الاتفاق النووي بنسبة 3.67 في المائة. في الوقت نفسه، تواصل طهران تصنيع ترسانتها من الطائرات المسيرة، والصواريخ لوكلائها الإقليميين. وتشير التقديرات إلى أن «حزب الله» المسلح في لبنان يملك وحده مخزوناً من الصواريخ يصل إلى 150 ألف صاروخ موجه ضد إسرائيل، وفقاً لوسائل الإعلام الإسرائيلية.
وقال المحللون إن الارتفاع الأخير في عمليات اغتيال المسؤولين الإيرانيين، واعتقال العملاء الإيرانيين الذين يُزعم أنهم كانوا يخططون لاختطاف إسرائيليين في تركيا، الأسبوع الماضي، تشير إلى أن الحرب السرية بين إيران وإسرائيل قد اشتدت، كما أنها لا تبشر بالخير بالنسبة للأمن الإقليمي، وتهدد ببلوغ ذروتها في صراع كامل.
ولمح إران ليرمان، نائب مدير السياسة الخارجية والشؤون الدولية السابق في مجلس الأمن القومي الإسرائيلي، إلى مزيد من التصعيد تماشياً مع سياسة إسرائيل للقيام بما تراه ضرورياً لمواجهة التهديدات الأمنية من إيران.
- استهداف الرتب الأدنى
ورغم أن بعض المحللين يتساءلون عن سبب استهداف إسرائيل لمسؤولين من ذوي الرتب الأدنى، إلا أن ليرمان صرح لمجلة «فورين بوليسي»، عبر اتصالات مشفرة، بأنه في حين لا يستطيع تأكيد أو نفي دور إسرائيل في عمليات الاغتيال الأخيرة، فإن «كل عضو رئيسي في الجهاز النووي والعسكري الإيراني ليس بالضرورة جنرالاً». وأضاف: «تدرك إسرائيل دور كل شخصية ومركزها، وتحاول البعث برسالة إلى إيران لوقف أنشطتها المزعزعة للاستقرار وإلا فسوف تزداد الأمور سوءاً».
وقال دينيس روس، إنه طالما استمرت طهران في نقل الأسلحة إلى الميليشيات وواصلت تعزيز نفوذها على دول في المنطقة، «فلن يتغير شيء، وسيكون خطر نشوب صراع أوسع حقيقياً. وشعوري من المناقشات مع المسؤولين الأمنيين الإسرائيليين أنهم على استعداد لبذل المزيد من الجهد إذا لم تتراجع إيران خطوة إلى الوراء». الواقع، أن رئيس الوزراء الإسرائيلي المنتهية ولايته نفتالي بينت، اعترف في 7 يونيو (حزيران) بتحول استراتيجي لمواجهة إيران، وصرح بأن إسرائيل قد تحركت إلى «مستوى أعلى» لاحتواء التهديد الإيراني. وقال في اجتماع للجنة الشؤون الخارجية والدفاع في البرلمان، «نحن نتحرك في كل الأوقات والأماكن، وسنواصل القيام بذلك».
- رئيس الاستخبارات الجديد
إذا كان هناك المزيد من التصعيد، فإن إيران، التي عينت لتوها قائداً جديداً وهو العميد محمد كاظمي لرئاسة جهاز الاستخبارات القوي في «الحرس الثوري»، من دون الإعلان عن سبب رسمي لتغيير القيادة، قد تلجأ إلى أعمال لا ترقى لمستوى الحرب المباشرة، لكنها تضر بالأمن الإسرائيلي والإقليمي والعالمي. فهي، على سبيل المثال، يمكنها تهديد حرية الملاحة في مضيق هرمز الاستراتيجي، الذي يمر عبره حوالي خُمس تجارة النفط العالمية. ما من شأنه أن يسفر عن ارتفاع أسعار النفط إلى مستويات هائلة بالفعل، فضلاً عن تعطيل سلاسل الإمداد.
في الأثناء ذاتها، ترى إسرائيل أن أي أسلوب يفتقر إلى الحرب المباشرة يؤخر من خطط إيران، ويزيد من تكاليف تنفيذ سياساتها، ويكشف مواطن ضعف حكومتها أمام الشعب الإيراني، وربما يثبط عزيمة جنود الدولة وما إذا كانت تستحق الجهود المبذولة والمخاطر المتكبدة. يبدو أن التوسع في التكتيكات الحربية السرية وعمليات التجسس بين إسرائيل وإيران قد بدأ ليستمر.


مقالات ذات صلة

اليوم الثاني لرئيسي في دمشق... فلسطيني

المشرق العربي اليوم الثاني لرئيسي في دمشق... فلسطيني

اليوم الثاني لرئيسي في دمشق... فلسطيني

في اليوم الثاني لزيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى سوريا، التقى وفداً من الفصائل الفلسطينية الموجودة في دمشق، بحضور وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان. وأكد رئيسي، خلال اللقاء الذي عقد في القصر الرئاسي السوري أمس (الخميس)، أن بلاده «تعتبر دائماً القضية الفلسطينية أولوية في سياستها الخارجية». وأكد أن «المقاومة هي السبيل الوحيد لتقدم العالم الإسلامي ومواجهة الاحتلال الإسرائيلي»، وأن «المبادرة، اليوم، في أيدي المجاهدين والمقاتلين الفلسطينيين في ساحة المواجهة».

«الشرق الأوسط» (دمشق)
شؤون إقليمية باريس تدين احتجاز إيران ناقلة نفط في مياه الخليج

باريس تدين احتجاز إيران ناقلة نفط في مياه الخليج

نددت فرنسا باحتجاز البحرية التابعة لـ«الحرس الثوري» الإيراني ناقلة النفط «نيوفي» التي ترفع علم بنما في مضيق هرمز الاستراتيجي، وذلك صبيحة الثالث من مايو (أيار)، وفق المعلومات التي أذاعها الأسطول الخامس التابع للبحرية الأميركية وأكدها الادعاء الإيراني. وأعربت آن كلير لوجندر، الناطقة باسم الخارجية الفرنسية، في مؤتمرها الصحافي، أمس، أن فرنسا «تعرب عن قلقها العميق لقيام إيران باحتجاز ناقلة نفطية» في مياه الخليج، داعية طهران إلى «الإفراج عن الناقلات المحتجزة لديها في أسرع وقت».

ميشال أبونجم (باريس)
شؤون إقليمية منظمات تندد بـ«إصرار» فرنسا «على رغبتها بترحيل» إيرانيين

منظمات تندد بـ«إصرار» فرنسا «على رغبتها بترحيل» إيرانيين

قالت منظمات غير حكومية إن فرنسا احتجزت العديد من الإيرانيين في مراكز اعتقال في الأسابيع الأخيرة، معتبرة ذلك إشارة إلى أنّ الحكومة «تصر على رغبتها في ترحيلهم إلى إيران» رغم نفي وزير الداخلية جيرالد دارمانان. وكتبت منظمات العفو الدولية، و«لا سيماد»، و«إيرانيان جاستس كوليكتيف» في بيان الأربعاء: «تواصل الحكومة إبلاغ قرارات الترحيل إلى إيران مهددة حياة هؤلاء الأشخاص وكذلك حياة عائلاتهم». واعتبرت المنظمات أن «فرنسا تصرّ على رغبتها في الترحيل إلى إيران»، حيث تشن السلطات قمعاً دامياً يستهدف حركة الاحتجاج التي اندلعت إثر وفاة الشابة الإيرانية الكردية مهسا أميني في سبتمبر (أيلول)، أثناء احتجازها لدى شرط

«الشرق الأوسط» (باريس)
شؤون إقليمية قاآني: انتقمنا جزئياً لسليماني بطرد القوات الأميركية من المنطقة

قاآني: انتقمنا جزئياً لسليماني بطرد القوات الأميركية من المنطقة

قال مسؤول العمليات الخارجية في «الحرس الثوري»، إسماعيل قاآني، إن قواته انتقمت جزئيا من القوات الأميركية بطردها من المنطقة، مضيفا في الوقت نفسه «القدس ليست الهدف النهائي وإنما هدف وسط»، مشددا على ضرورة أن تجد إيران موقعها في انتقال القوة من الغرب إلى الشرق. ونقلت وكالة «فارس» التابعة لـ«الحرس الثوري» عن قاآني قوله خلال اجتماع الجمعية العامة لطلاب الحوزات العلمية في قم إن «أميركا وإسرائيل وحتى الناتو و... تقوم بالتعبئة لتخريب إيران». وقال قاآني «مثلما قال المرشد فإن إيران من المؤكد لن تبقى بعد 25 عاماً، وهم (الإسرائيليون) يستعجلون ذلك».

«الشرق الأوسط» (طهران)
شؤون إقليمية فرنسا تدين احتجاز إيران ناقلة نفط في مياه الخليج

فرنسا تدين احتجاز إيران ناقلة نفط في مياه الخليج

ندّدت فرنسا باحتجاز البحرية التابعة للحرس الثوري الإيراني ناقلة النفط «نيوفي» التي ترفع عَلَم بنما، في مضيق هرمز الاستراتيجي، وذلك صبيحة الثالث من مايو (أيار)، وفق المعلومات التي أذاعها الأسطول الخامس، التابع لـ«البحرية» الأميركية، وأكدها الادعاء الإيراني. وأعربت آن كلير لوجندر، الناطقة باسم «الخارجية» الفرنسية، في مؤتمرها الصحافي، أمس، أن فرنسا «تعرب عن قلقها العميق لقيام إيران باحتجاز ناقلة نفطية» في مياه الخليج، داعية طهران إلى «الإفراج عن الناقلات المحتجَزة لديها في أسرع وقت».

ميشال أبونجم (باريس)

ماكرون يرسم خطوطاً حمراء للتعاون مع دمشق

الرئيس إيمانويل ماكرون متحدثاً في إطار الاجتماع السنوي لسفراء فرنسا عبر العالم في قصر الإليزيه الاثنين (رويترز)
الرئيس إيمانويل ماكرون متحدثاً في إطار الاجتماع السنوي لسفراء فرنسا عبر العالم في قصر الإليزيه الاثنين (رويترز)
TT

ماكرون يرسم خطوطاً حمراء للتعاون مع دمشق

الرئيس إيمانويل ماكرون متحدثاً في إطار الاجتماع السنوي لسفراء فرنسا عبر العالم في قصر الإليزيه الاثنين (رويترز)
الرئيس إيمانويل ماكرون متحدثاً في إطار الاجتماع السنوي لسفراء فرنسا عبر العالم في قصر الإليزيه الاثنين (رويترز)

احتلت ملفات الشرق الأوسط حيزاً واسعاً في الكلمة التي ألقاها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ظهر الاثنين، في قصر الإليزيه، بحضور سفراء فرنسا عبر العالم وكبار المسؤولين المدنيين والعسكريين. وبالنظر للتطورات الجارية في سوريا، فقد حرص ماكرون على إبراز موقف واضح، مشدداً على أن بلاده «لم تصدق أبداً أن الديكتاتور (في إشارة إلى بشار الأسد) يمكن إعادة تأهيله».

إلا أنه في الوقت عينه، دعا إلى التزام الحذر «من خلال النظر إلى تغيير النظام في سوريا من دون سذاجة». وما حرص عليه ماكرون يكمن في رسم ما يمكن تسميته «خريطة طريق» لكيفية التعامل مع السلطات الجديدة في دمشق، وما تتوقعه باريس والعواصم الأوروبية الأخرى، من السلطة الجديدة، مع التذكير بالزيارة التي قام بها وزير الخارجية الفرنسي، جان نويل بارو، ونظيرته الألمانية أنالينا بايربوك مؤخراً إلى دمشق.

الأكراد «الحلفاء الأوفياء»

قوات من «قسد» في تدريب مشترك مع القوات الأميركية شمال شرقي سوريا (أ.ف.ب)

وفيما تتصاعد المعارك في الشمال السوري بين قوات سوريا الديمقراطية «قسد»، والقوات الحليفة لتركيا، حرص ماكرون على التأكيد بقوة على موقف بلاده من الأكراد الذين وصفهم بـ«الحلفاء الأوفياء» في محاربة تنظيم «داعش»، ملمحاً إلى أن بعض الدول كانت مستعدة للتخلي عنهم، في تلميح للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، الذي كان مستعداً في عام 2018 لسحب القوات الأميركية لتسهيل سيطرة تركيا على المنطقة.

وقال ماكرون: «نحن نعي الدين الذي ندين به لمجمل (القوات الديمقراطية السورية) وللمقاتلين من أجل الحرية مثل الأكراد، الذين تحلوا بالشجاعة في محاربة المجموعات الإرهابية». وأضاف أن بلاده «لم تتخل عنهم أبداً، ولن نتخلى عنهم في المسار الجديد، ونحن متيقظون لعملية الانتقال السياسي» الجارية حالياً في سوريا.

وتابع: «ما تريده فرنسا هو قيام سوريا ذات سيادة وحرة وتحترم تعدديتها الإثنية والسياسية والطائفية». وشدد ماكرون على أهمية أن تضم العملية الانتقالية الديمقراطية «كل مكونات المعارضة» للنظام السابق، بالتوازي مع «توفير الأمن للاجئين للعودة إلى بلادهم ومواصلة محاربة الإرهاب بشكل واضح، وتدمير كل البنى المنتجة للسلاح الكيماوي وشبكات إنتاج وتهريب المخدرات».

ويرى ماكرون، في إشارة على الأرجح للبنان، أنه «يتعين على سوريا أن تشارك في ضمان الأمن والاستقرار الإقليميين»، مذكراً بـ«مؤتمر بغداد» في نسخته الثالثة التي ستعقد في الربيع القادم، دون أن يحدد مكان انعقادها، لعرض تنفيذ مشاريع إقليمية «لمصلحة الجميع ولتحقيق السلام والأمن».

وسبق لوزير الخارجية الفرنسي أن شدد، في حديث صحافي، الأحد، على ضرورة ألا تستغل أي قوة أجنبية سقوط حكم نظام الأسد لإضعاف سوريا، مشيراً إلى أن سوريا «تحتاج بطبيعة الحال إلى مساعدة، لكن من الضروري ألا تأتي قوة أجنبية، كما فعلت لفترة طويلة روسيا وإيران، تحت ذريعة دعم السلطات أو دعم سوريا... وتُضعفها بشكل إضافي».

وبحسب جان نويل بارو، فإن «مستقبل سوريا يعود إلى السوريين. وانطلاقاً من وجهة النظر هذه، فإن هدف السيادة الذي أظهرته السلطة الانتقالية وممثلو المجتمع المدني و(أفراد المجتمعات) الذين التقيناها كذلك هو أمر سليم». وكان بارو يلمح للدور المتعاظم الذي لعبته وتلعبه تركيا في العملية الانتقالية الجارية حالياً.

الدور الإيراني

قاآني يستقبل الرئيس مسعود بزشكيان خلال مراسم ذكرى قاسم سليماني في طهران الخميس الماضي (الرئاسة الإيرانية)

بيد أن أشد العبارات استخدمها ماكرون في الحديث عن إيران التي اعتبرها «التحدي الأمني والاستراتيجي الرئيسي» في الشرق الأوسط. وجاء في حرفية كلام ماكرون أن إيران «تشكل التحدي الاستراتيجي والأمني الرئيسي لفرنسا والأوروبيين والمنطقة بكاملها، وأبعد من ذلك بكثير»، محذراً من أن «تسارع برنامجها النووي يقودنا إلى حافة القطيعة».

وما يعنيه الرئيس الفرنسي أن طهران اقتربت كثيراً من الحصول السلاح النووي. واللافت أن ماكرون يعد أحد القادة الغربيين القلائل الذين يحافظون على خط تواصل دائم مع القيادة الإيرانية. لكن يبدو أن قرب عودة ترمب إلى البيت الأبيض يجعل الأوروبيين ومنهم فرنسا يلجأون إلى خطاب أكثر تشدداً إزاء طهران.

وجاء لافتاً أن ماكرون أشار في كلامه، وفي إطار نظرته لما تمثله إيران، إلى «أنها ستكون، بلا شك، واحدة من القضايا الرئيسية في الحوار الذي سنقيمه مع الإدارة الأميركية الجديدة». ومن المرجح أن ينتهج الرئيس ترمب خطاً بالغ التشدد إزاء طهران، بحيث يذهب أبعد من التدابير التي اتخذها بحقها إبان ولايته الأولى. وثمة مراكز بحثية أميركية لا تتردد في الحديث عن اللجوء إلى ضربات عسكرية مشتركة إسرائيلية - أميركية ضد البرنامج النووي الإيراني.

حقيقة الأمر أن ماكرون أقام «مضبطة اتهام» بحق طهران وقادتها. وتشمل هذه المضبطة ما تعتبره باريس دوراً مزعزعاً للاستقرار في الشرق الأوسط وأبعد منه تقوم به طهران؛ في الإشارة إلى الدعم الذي تقدمه «للمجموعات التي تشكل خطراً في جميع مناطق المواجهة في الشرق الأوسط»؛ في إشارة إلى «حزب الله» و«حماس» و«المجموعات الميليشياوية في العراق»، فضلاً عن الحوثيين في اليمن.

غير أن أهم إعلان صدر عن ماكرون تناول إشارته إلى احتمال تفعيل الآلية المسماة «سناب باك» التي يعاد بفضلها الملف النووي إلى مجلس الأمن، ويمكن أن تعقبه إعادة فرض العقوبات الدولية على طهران.

وذهب ماكرون أبعد من ذلك، بإشارته إلى أن أمراً كهذا يمكن أن يحل في الخريف القادم. وقال ماكرون: «خلال الأشهر المقبلة، سيتعين أن نسأل أنفسنا ما إذا كان يتعين علينا استخدام... آلية إعادة فرض العقوبات على إيران»، مشيراً إلى أن أكتوبر (تشرين الأول) 2025، هو الموعد الذي تنتهي فيه اتفاقية 2015 رسمياً.

يأخذ الغربيون على إيران انخراطها في الحرب الروسية على أوكرانيا، كما أنهم يتخوفون من البرنامج الصاروخي - الباليستي الإيراني الذي يمكن أن يشكل تهديداً لأوروبا.

وتخطط باريس لأن يدور حوار واضح بينها وبين واشنطن حول سبل التعاطي مع إيران، التي تزايدت المخاوف الغربية منها بعد أن وصلت صواريخها إلى الأراضي الإسرائيلية. وخلال الاجتماعات الأخيرة لمجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، صدرت قرارات قوية بخصوص إيران. بيد أن الدول الغربية وعلى رأسها الموقعة على الاتفاق النووي لعام 2015، امتنعت عن تفعيل آلية «سناب باك» لأسباب مختلفة ومتغيرة.

لكن يبدو أن الغربيين عازمون، أخيراً، على اجتياز خطوة مهمة فيما إيران أصيبت إقليمياً بالضعف بسبب حرب إسرائيل على «حماس» ولبنان وضرباتها ضد الأراضي الإيرانية نفسها وضد الحوثيين، ومؤخراً تدمير قدرات الجيش السوري العسكرية. لكن هذا التصعيد يترافق مع محاولات دبلوماسية للدول الأوروبية الثلاث - فرنسا وبريطانيا وألمانيا - للبحث عن مخارج دبلوماسية للأزمة مع إيران، ومن ذلك الاجتماع المقرر في 13 الجاري. وآخر ما تشكو منه باريس هو محاولات إيران الانغراس في أفريقيا، التي ترى فيها فرنسا إضراراً بمصالحها.

لبنان

المبعوث الأميركي آموس هوكستين مجتمعاً مع قائد الجيش اللبناني العماد جوزف عون (أ.ف.ب)

لم يأت الرئيس الفرنسي بجديد بالنسبة للبنان «حيث لفرنسا تاريخ طويل والكثير من المواطنين والأصدقاء». وما يسعى إليه ماكرون هو توفير الهدوء على طول «الخط الأزرق»، من خلال مشاركة وحدات فرنسية في قوة «اليونيفيل»، وتسهيل انتشار الجيش اللبناني «بشكل حاسم» جنوب نهر الليطاني وامتداداً حتى الحدود مع إسرائيل.

ولم يتوقف ماكرون طويلاً عند العقبات التي يواجهها وقف إطلاق النار والشكاوى الكثيرة التي تقدم بها لبنان ضد الانتهاكات الإسرائيلية، التي لا تحترم الآلية التي توصلت إليها فرنسا بالتشارك مع الولايات المتحدة. كذلك بقي ماكرون عند العموميات فيما يخص موضوع الفراغ المؤسساتي وعملية انتخاب رئيس جديد للجمهورية، مذكراً بالحاجة لإنجاح المسار السياسي، ومشيراً إلى الجهود التي يبذلها ممثله الوزير السابق جان إيف لو دريان في هذا الخصوص.

وبحسب ماكرون، فإن انتخاب رئيس جديد «يمثل الخيار الحاسم الذي من شأنه توفير السيادة اللبنانية، ويفتح الطريق لتشكيل حكومة قادرة على القيام بالإصلاحات الضرورية».

الاعتراف بدولة فلسطين

الدمار والخراب في قطاع غزة بعد أكثر من عام من القصف الإسرائيلي المتواصل (أ.ف.ب)

كالعادة، ذكّر ماكرون بـ«الصداقة التاريخية» بين فرنسا وإسرائيل وتضامنه معها «في مواجهة الهمجية التي ظهرت في هجمات» «حماس» في 7 أكتوبر 2023، وضرورة إطلاق سراح الرهائن. كذلك أعرب ماكرون عن «تفهم بلاده لحاجة إسرائيل بألا تتكرر أمور كهذه وأن تضمن أمنها... ومما شدد عليه اعتباره أن الضربات الإسرائيلية (المستهدفة) في لبنان وسوريا وإسرائيل غيرت الوضع الاستراتيجي في الشرق الأوسط، ما يرتب علينا جميعاً استخلاص النتائج وفتح أفق لسلام صلب ودائم وآمن للجميع في المنطقة».

وبحسب ماكرون «لا يمكن بناء هذا النوع من السلام على الأمن وحده، إذ يجب أن ينطوي على العمل الإنساني والسياسي، وهو شرط أساسي مطلق، أولاً وقبل كل شيء في غزة». وأضاف ماكرون: «لا يوجد أي مبرر عسكري لاستمرار العمليات الإسرائيلية والعرقلة المتعمدة للمساعدات الإنسانية، ولاستمرار العوز الشديد وحالة الجوع التي وصل إليها السكان المدنيون» في القطاع، معتبراً أنه ينبغي على إسرائيل «أن تضع حداً للحرب دون مزيد من التأخير، وأن تعترف بأن لديها شركاء للسلام، وأن تلتزم بتسوية عادلة ودائمة للقضية الفلسطينية، وذلك بالتنسيق مع جميع دول المنطقة بشأن غزة، والحفاظ على الأوضاع السياسية في الضفة الغربية وغزة».

ورغم سوداوية الوضع، يرى ماكرون أن «السلام ممكن، حيث إن المملكة العربية السعودية وشركاءنا العرب من ذوي النوايا الحسنة، (الأردن ومصر وقطر والإمارات العربية المتحدة) على وجه الخصوص، ملتزمون بذلك، وفرنسا قدمت ولا تزال تقدم دعمها الكامل».

وحث ماكرون الأوروبيين على العمل في هذا الاتجاه، وبالتنسيق مع الشركاء العرب، «من أجل حل الدولتين، مع احترام الاحتياجات الأمنية للإسرائيليين والتطلعات المشروعة للفلسطينيين».

ودعا الرئيس الفرنسي إلى «بناء إطار جديد للأمن والتعاون في الشرق الأوسط» مشيراً إلى أن «هذا هو هدف المؤتمر الدولي الذي بادرنا به مع المملكة العربية السعودية، والذي سيعقد في نيويورك في يونيو (حزيران) المقبل. وسيكون علينا أن نجعل من هذا المؤتمر لحظة حاسمة». واختتم كلامه بالإشارة إلى أن فرنسا «يمكنها من هذا المنطلق التحرك نحو الاعتراف بدولة فلسطين».