قد يكون جون روبرتس، رئيس المحكمة الأميركية العليا، حاول التحرك بشكل مختلف عندما حاول «تقسيم» الفارق بين دعم «قانون مسيسيبي»، الذي يحظر الإجهاض بعد 15 أسبوعاً من الحمل، وتأجيل البت في إلغاء القانون الفيدرالي الذي أُقر قبل نحو 50 سنة والمعروف بـ«رو ضد وايد». إذ إن الغبار الذي أثاره إلغاء قانون «رو ضد ويد»، حجب حقيقة التصويت الذي أدلى به أعضاء المحكمة التسعة. وهؤلاء صوّتوا في الواقع على قرارين: الأول، يتعلق بتأييد قانون ولاية مسيسيبي، والثاني يلغي قانون «رو ضد وايد»، الذي يعطي المرأة حماية قانونية من الإجهاض في كل الولايات الأميركية، لكنه يحيل في الوقت نفسه سلطة سن تشريعات حظر هذا الإجهاض إلى المجالس التشريعية في الولايات نفسها.
خلال التصويت التاريخي للمحكمة الأميركية العليا، صوّت إزاء القرار الأول 6 قضاة محافظين، بينهم رئيسها جون روبرتس، لمصلحة «قانون مسيسيبي»، في حين صوّت روبرتس نفسه مع 3 قضاة ليبراليين، ضد إلغاء قانون «رو ضد وايد». وكتب في مطالعته القانونية لأعضاء المحكمة قائلاً: «سأتبع مساراً مدروساً بدرجة أكبر». وحث، عبثاً على بعض «ضبط النفس القضائي»، قائلاً: «إذا لم يكن من الضروري اتخاذ قرار إضافي للبت في قضية ما، فمن الضروري تجنب اتخاذ هذا القرار».
مع ذلك، وجد روبرتس -الذي لطالما دفع بقوة من أجل إقرار قوانين محافظة في قضايا العرق والدين- نفسه وحيداً، عندما حاول تجنب التداعيات التي كان يعتقد أنه كان بإمكان المحكمة تجنبّها بالامتناع عن إلغاء قانون «رو ضد وايد». وواضح أنه كان يدرك تماماً كيف ينظر الأميركيون إلى المحكمة العليا اليوم، مع التراجع المطّرد لاحترام تجردها لدى الجمهور. إذ لا يبدو أنها تستطيع الابتعاد عن وصف قراراتها بأنها «مدفوعة بالسياسة وليس بالمبادئ والقوانين».
- هزيمة شخصية لروبرتس
من ناحية أخرى، بقدر ما يمثل انعكاس قرار إلغاء القانون لحظة فريدة ومذهلة للولايات المتحدة، فهو يمثل أيضاً هزيمة كبيرة لروبرتس، الذي سقط في امتحان قيادته للمحكمة.
لقد كان اعتراضه على إلغاء حق الإجهاض الفيدرالي واضحاً، لكنه شكّك بقدراته القيادة، في ظل قلة انسجامه مع غالبية قضاة محكمته في قرارات عدة اتخذ فيها مواقف خاسرة. فعلى سبيل المثال، قلة قليلة شجبت افتقار روبرتس لـ«القيادة» عندما انضم إلى المحافظين في المحكمة على الجانب الخاسر، حين صوّت مع 3 قضاة مقابل 5 ضد الحكم الذي أقرّ زواج المثليين حقاً دستورياً فيدرالياً عام 2015.
بيد أنه من المؤكد أن تعيين القاضية المحافظة إيمي باريت خلفاً للقاضية الليبرالية الراحلة روث بايدر غينسبرغ قلّل من القوة التفاوضية لروبرتس. وأدى التعيين إبان رئاسة دونالد ترمب إلى تحويل المحكمة من ليبرالية محافظة مع وجود 5 قضاة محافظين مقابل 4 ليبراليين، إلى محكمة محافظة بالكامل من 6 محافظين مقابل 3 ليبراليين. وهذا الوضع حرم روبرتس من استخدام صوته الحاسم لدى الجناحين. بل إنه أظهر أيضاً أن المحافظين لا يحتاجون بعد اليوم إلى «رئيس».
محافظ... نهائياً
في أي حال، لم يخرج جون روبرتس من عباءته الآيديولوجية، وهو المعيّن عام 2005 من الرئيس الجمهوري جورج بوش الابن. وهو لا يزال محسوباً بشكل عام في الجانب المحافظ آيديولوجياً في المحكمة. والدليل أنه قبل يوم واحد فقط من التصويت على إلغاء حق الإجهاض، صوّت مع الغالبية المحافظة المهيمنة على المحكمة، لإلغاء قانون يقيّد حمل المسدسات في نيويورك، موسّعاً بشكل كبير حقوق التعديل الدستوري الثاني. وقبلها بأسبوع صوّت، أيضاً مع المحافظين، على قرار يدعم تمويل الولايات للمدارس الخاصة لتشمل التعليم الديني، الأمر الذي يخالف مبدأ الفصل بين الدين والدولة.
الكثير من أساتذة القانون يصفون المحكمة العليا اليوم، بأنها «محكمة يتقاتل بعضها مع بعض بشكل مرير ومتزايد وأشد عدائية، ما يعكس عجز رئيسها عن السيطرة على أي من الكتلتين الآيديولوجيتين فيها». والمفارقة أن قرار إلغاء الحق بالإجهاض بات يمثل أهم قرار اتخذته المحكمة في فترة توليه منصبه كرئيس لها، فإن روبرتس -شخصياً– كان ضده. بل حاول جاهداً إقناع المحكمة بألا تؤيده ولم يتصور أنها ستذهب إلى هذا الحد. لقد افترض أنه وضع كل أوراقه على الطاولة، في أهم قرار في فترة ولايته، لكنّ تحركه جاء متأخراً.
- ترمب... و«أدلجة» المحكمة
إن انعدام التوازن الآيديولوجي الذي تعانيه المحكمة العليا اليوم، يخالف عموماً تاريخها منذ تأسيسها. وغالباً ما كان الحزبان الديمقراطي والجمهوري يحاولان الحفاظ على «توازنها»، آخذين في الاعتبار مزاج الأميركيين، وحريصين على «حيادية» رئيسها قدر الإمكان. لكن الوضع الآن يقدم صورة واضحة عن «الانزياح» الذي شهدته السياسات الأميركية الداخلية منذ أكثر من عقد ونيف. وهو أيضاً يعبّر عن حالة فقدان التوازن التي يعانيها الحزبان، وعجزهما عن تقديم أجوبة على المعضلات الداخلية، بل لعل الأخطر... يعبّر عن أزمة الديمقراطية الأميركية والغربية عموماً.
وفي حين يتهم البعض الرئيس السابق دونالد ترمب، بأنه أسهم في تسريع «أدلجة» المحكمة، عبر تعيينه 3 قضاة من عتاة المحافظين اليمينيين، فإن مجيئه إلى السلطة في الأصل، بما يحمله من قناعات، يعكس حالة انعدام التوازن هذه في مرحلة تحاول فيها «الإنتليجنسيا» المثقفة الأميركية تقديم أجوبة عن تلك الأزمات.
ورغم الخشية من إقدام قضاة المحكمة العليا المحافظين تباعاً -في ظل ضعف رئيسها– على إبطال الكثير من القوانين السائدة كزواج المثليين، وحظر وسائل منع الحمل، وقانون الرعاية الصحية (المعروف بـ«أوباما كير»)، ورفع الحماية عن المهاجرين غير الشرعيين وغيرها من القوانين، فإن تغيير القوانين كان دائماً «اختباراً للديمقراطية» الأميركية، وليس سقوطاً للديمقراطية نفسها.
قد يصح القول إنه إذا ما طال أمد «الارتباك» الأميركي داخلياً، فسينعكس حتماً على سياساتها وموقعها ودورها الخارجي. غير أن الحكم «بسقوط أميركا» يعده كثيرون نقاشاً غير جدّي. ولكن، تقتضي الإشارة هنا، إلى أنه مقابل الغياب الملحوظ الذي تعيشه أوروبا «مهد فكرة الديمقراطية»، وغياب طبقتها المثقفة عن إنتاج الأفكار لحل أزماتها، تعيش الولايات المتحدة حراكاً متعدّد الطبقات، بمشاركة مثقفيها وقياداتها السياسية وقوى المجتمع، والذي غالباً ما عكسته قرارات محكمتها العليا في محطاتها المختلفة.
- آخر «المحافظين الدستوريين»
جاء تعيين جون غلوفر روبرتس الابن (67 سنة) رئيساً للمحكمة العليا السابع عشر، بأوراق اعتماد محافظة. وثبّت تعيينه من مجلس الشيوخ في تصويت 78 مقابل 22 عام 2005. ولقد أشاد به الرئيس بوش، بعدما حصل على دعم «المؤسسة الجمهورية» بأكملها، التي عدّته زعيماً شاباً للمستقبل، (كان عمره يومذاك 50 سنة)، ويمثّل جيل «المحافظين الدستوريين» في المحكمة... وقد يكون آخرهم.
روبرتس، محامٍ وقاضٍ، وُصف بأنه يتمتّع بفلسفة قضائية محافظة، ولكنه قبل كل شيء، «دستوري» في مؤسسة الحزب الجمهوري. وبالفعل، أظهر استعداداً للعمل مع الجناح الليبرالي في المحكمة العليا. ولكن منذ تقاعد القاضي «المعتدل» أنتوني كينيدي عام 2018، وتعيين القاضية المحافظة باريت محل القاضية الليبرالية غينسبرغ عام 2020، تدهور صوته الأساسي في المحكمة.
- النشأة والمسيرة
وُلد جون روبرتس عام 1955، في مدينة بفالو بولاية نيويورك ولديه 3 أخوات. والد جون من أصول آيرلندية وويلزية، ووالدته روزماري بودراسكي، من أصول سلوفاكية هاجر أهلها إلى الولايات المتحدة من المجر. وهو متزوج منذ عام 1996 من جين سوليفان، وهي محامية بارزة، ولهما طفلان بالتبني، هما جون «جاك» -تيمناً باسم جده- وجوزفين.
أمضى روبرتس سنوات طفولته المبكرة في هامبورغ بنيويورك، حيث عمل والده مهندساً كهربائياً في شركة «بيت لحم» للصلب في مصنعها الكبير. وعام 1965، حين كان في العاشرة من عمره، انتقل وعائلته إلى لونغ بيتش في ولاية إنديانا، حيث أصبح والده مديراً لمصنع صلب جديد في ميناء بيرنز القريب. وهناك التحق بمدرسة لا لوميير، الداخلية الكاثوليكية الصغيرة للأثرياء، والصارمة أكاديمياً، في لابورت بإنديانا.
ثم درس التاريخ في جامعة هارفارد، وإثر التخرّج بشهادة البكالوريوس التحق بكلية الحقوق في الجامعة نفسها، حيث كان مدير تحرير مجلتها القانونية.
خلال دراسته التاريخ في جامعة هارفارد، فازت إحدى أوراقه الأولى، «الماركسية والبلشفية: النظرية والتطبيق»، بجائزة ويليام سكوت فيرغوسون من الجامعة، لأبرز مقال كتبه طالب في السنة الثانية. وفي سنته الأولى في ورقته «المحافظ الطوباوي: دراسة حول الاستمرارية والتغيير في فكر دانيال ويبستر»، فاز بجائزة بودوين.
في الحقيقة، بعد تخرّج روبرتس عام 1976 بدرجة امتياز مع مرتبة الشرف، كان يخطط في الأصل لمتابعة الدكتوراه في التاريخ، بيد أنه عاد فقرر الالتحاق بكلية الحقوق الشهيرة في هارفارد، وتخرج عام 1979 بدرجة دكتوراه في القانون بامتياز مع مرتبة الشرف. واليوم روبرتس هو واحد من 15 قاضياً كاثوليكياً، من إجمالي 115 قاضياً، في تاريخ المحكمة العليا. ومن بين هؤلاء القضاة الخمسة عشر، هناك ستة (روبرتس، وكلارنس توماس، وصمويل أليتو، وسونيا سوتومايور، وبريت كافانو، وإيمي باريت) أعضاء حاليون في المحكمة العليا.
- مشواره مع القضاء
بدأت مسيرة روبرتس القانونية العملية كاتباً قانونياً لأحد القضاة، ثم مساعداً قضائياً للقاضي ويليام رينكويست -الذي أصبح لاحقاً رئيساً للمحكمة العليا- قبل أن يعيّنه الرئيس الراحل رونالد ريغان مساعداً في مكتب وزير العدل.
أيضاً، عمل روبرتس إبّان إدارة جورج بوش الأب في وزارة العدل ومكتب مستشار البيت الأبيض. وبعدها رشحه بوش لمحكمة الاستئناف الأميركية لدائرة العاصمة، لكنه لم يوفق في التصويت على ترشيحه. ولذا، أمضى 14 سنة في ممارسة القانون الخاص. وخلال هذا الوقت، رفع 39 قضية أمام المحكمة العليا، أشهرها تمثيله 19 ولاية في قضية ضد شركة «مايكروسوفت».
في عام 2003 أصبح روبرتس قاضياً فيدرالياً، عندما عيّنه الرئيس جورج بوش الابن في محكمة الاستئناف الأميركية بالعاصمة واشنطن. وخلال فترة عمله التي استمرت سنتين في العاصمة، أصدر 49 رأياً قضائياً.
وعام 2005، رشحه بوش لعضوية المحكمة العليا، ليكون في البداية قاضياً يملأ تعيينه المقعد الشاغر بتقاعد القاضية ساندرا داي أوكونور. غير أنه إثر وفاة رئيس المحكمة ويليام رينكويست، بعد ذلك بوقت قصير، وقبل بدء جلسات الاستماع في مجلس الشيوخ لتعيين روبرتس، قام بوش بسحب ترشيحه، ورشحه ليكون رئيساً للمحكمة.
كذلك، اختار بوش يومذاك، بديلاً للقاضية المتقاعدة داي أوكونور، القاضي صموئيل أليتو -وهو اليميني المحافظ المتشدد الذي لعب دوراً أساسياً الأسبوع الماضي، في توجيه «الضربات» لروبرتس ونقض آرائه المدافعة عن تأجيل البتّ في قانون «رو ضد ويد».
أخيراً، رغم أن روبرتس انحاز في كثير من الأحيان إلى القاضيين اليمينيين المحافظين المتشددين أنتوني سكاليا وكلارنس توماس، يُذكر عنه أنه عارضهما أيضاً في الكثير من القضايا. ومن هذه القضايا حقوق المالكين، وقوانين من بقايا العنصرية وتقييد بعض حقوق الإجهاض.
عارض رويرتس أيضاً إلغاء قانون «أوباما كير»، ورفض إلغاء التمويل الذي تقدمه الرعاية الصحية «ميديكيد» لتنظيم الأسرة المخططة. وكان صوته حاسماً في قرار 5 - 3 لوقف الإعدام عام 2016 قبل تعيين قاضٍ جديد خلفاً لسكاليا المتوفى، وجزءاً من قرار الأغلبية 5 - 4 عام 2019 رفض طلب سجين مسلم تأجيل الإعدام من أجل حضور إمام معه في الإعدام.