«غربال» ميخائيل نعيمة: سيموت الأدب العربي إذا ما استمعنا إلى «نقيق الضفادع»

أصدره قبل 100 عام وكأنه يتحدث عن واقعنا الراهن

ميخائيل نعيمة
ميخائيل نعيمة
TT

«غربال» ميخائيل نعيمة: سيموت الأدب العربي إذا ما استمعنا إلى «نقيق الضفادع»

ميخائيل نعيمة
ميخائيل نعيمة

هل شاخ كتاب «الغربال» يا ترى؟ هل انتهى مفعوله؟ هل أكل عليه الدهر وشرب؟ ربما في بعض صياغاته الشكلية ولكن ليس في جوهره. روح الكتاب لا تزال منعشة ومنتعشة حتى الآن. لا تزال تنطبق على واقعنا الراهن وبشكل ملح. باختصار شديد: عندما نقرأ الكتاب نشعر أن ميخائيل نعيمة لا يزال معاصرنا، لا يزال حياً بيننا. وهذا أكبر دليل على مدى أهميته وعظمته كمفكر نهضوي عربي رائد. سوف أضرب على ذلك مثلاً محسوساً لكيلا يظل كلامي تجريدياً في الفراغ. هناك فصل كبير في الكتاب بعنوان: «نقيق الضفادع. مكانة اللغة في الأدب». هذا الفصل يكفي لتخليد الكتاب وتخليد ميخائيل نعيمة ذاته.
ماذا يعني ذلك؟ أنه يعني أن ضفادع الأدب تشلنا شلاً بنقيقها ومستنقعها وركودها. إنها تشل تطور اللغة العربية بل والحياة العربية ذاتها. هؤلاء الأشخاص ما ينفكون يصححونك لغوياً، ويقولون لك: قل ولا تقل! هذا حلال وهذا حرام لغوياً. هذا يجوز في نظر الثعالبي أو الأصمعي وذاك لا يجوز. حذار! ثم حذار! إياك أن تنتهك قداسات اللغة الموروثة أو تخرج عليها قيد شعرة. اللغة العربية ينبغي أن تظل ثابتة، جامدة، كما هي منذ مئات السنين.
لماذا لا تكتب بلغة قاموسية سليمة يا أخي؟ وإلا فأنت خارج نطاق الأدب. نضرب مثالاً على ذلك بيت جبران خليل جبران من قصيدة «المواكب» الشهيرة التي تغنيها فيروز:
هل تحممت بعطر
وتنشفت بنور
بيت ولا أروع. بيت يذكرك بجبال لبنان وسواقي لبنان ووديان بشري.. إلخ. من منا لم يتحمم يوماً ما في أحضان الطبيعة حتى دون أن يتحمم؟ يكفي أن تمشي في تلك الوديان لكي تشعر بعطر الوجود. فما بالك إذا سقط عليك شلال من بين الصخور؟ أتحدث هنا عن أبناء الأرياف والجبال. ولكن المشكلة هي أن هذا البيت «السماوي» خاطئ لغوياً! ضفادع الأدب أو بالأحرى ضفادع اللغة العربية تعده خاطئاً من الناحية اللغوية. إنها تستهجنه وتلوم الكاتب عليه لوماً شديداً. لقد ارتكب جبران خليل جبران جريمة نكراء في حق اللغة العربية. ما هي؟ أين هي؟ بالله عليكم قولوا لي ما هي؟ لا أرى شيئاً. لماذا استخدم الشاعر كلمة «تحمم» بدلاً من كلمة «استحم» الفصيحة لغوياً والشرعية قاموسياً؟ يا لهول الفظاعة! ما أغبى جبران خليل جبران! ما أشد جهله باللغة العربية! ولكن هل يمكن لكاتب عبقري خلاق أن يتقيد بلغة الأصمعي والشنفري؟ ألن يقضي ذلك على إبداعه وعبقريته. الشاعر يتفجر، الشاعر يحق له أن يشتق الكلمات الجديدة، أن يفجر اللغة، أن يأخذ حريته.
وإلا فلا إبداع ولا تطور لغوي ولا من يحزنون. سوف يموت الأدب العربي إذا ما استمعنا إلى نقيق الضفادع. لنستمع إلى ميخائيل نعيمة يقول حرفياً: «لو تبصر ضفادع اللغة العربية يوماً ما تاريخ لغتهم لوجدوا فيه أصدق شاهد على هذا القول. ألا يرون أن اللغة التي نتفاهم بها اليوم في مجلاتنا وجرائدنا ومن على منابرنا غير لغة مضر وتميم وحمير وقريش؟ ألا يرون أنه لو أتيح لأسلافهم تقييدنا منذ ألفي سنة لما كان لنا حتى اليوم لغة سوى لغة الحيزبون والدردبيس والطخا والنقاخ والعلطبيس؟».
هنا تكمن أهمية هذا الكتاب الرائد. إنه من شدة حرصه على اللغة العربية يريد تطويرها، يريد إنقاذها؟ كيف؟ عن طريق جعلها تستمد مفرداتها من نسغ الحياة. ولكن المتزمتين لغوياً يريدون تقميطها وخنقها. أحياناً يتفاصحون ويتقعرون إلى درجة أنهم يقولون: النائب سميرة صالح مثلاً! يا أخي لماذا لا تقولون: النائبة سميرة صالح؟ فهي امرأة سيدة وليست رجلاً. شيء عجيب غريب. شيء يجعلني أخرج عن طوري. الفرنسيون يحسدوننا لأنه لا يوجد في لغتهم مؤنث طبيب مثلاً، ولذلك يضطرون للقول: امرأة طبيبة. ولا يوجد في لغتهم مؤنث كاتب. أما نحن فتوجد في لغتنا كلمة طبيبة وكلمة كاتبة، ولا نعاني من أي مشكلة. مؤخراً اخترعوا أو اشتقوا مؤنث كاتب في اللغة الفرنسية، ولكنها كلمة بشعة على عكسنا نحن. وأحياناً يخرج عليك بعض الكتاب العرب ببدعة جديدة. فيقولون للمزيد من التقعر والتفاصح في العام كذا وليس في عام كذا. لماذا يا أخي؟ كنا معتادين دائماً على القول في عام 1960 مثلاً حصل كذا وكذا وليس في العام 1960، لماذا هذا الإثقال والتثقيل؟ اتركوا اللغة العربية تتنفس، اتركوها تتحلحل. اتركوها تقترب من لغة الحياة اليومية. أتذكر أن المتقعرين عابوا عليّ عنوان كتابي الصادر عن «دار الساقي» عام 2013 بعنوان: «الانتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ». لماذا لم أقل «في ضوء فلسفة التاريخ» فهي أصح لغوياً على ما يبدو؟ متى ستنتهي هذه الملاحقات البوليسية؟ كنت قد كرست فقرة غاضبة مشتعلة لهذا الموضوع في كتابي الأخير الصادر عن «دار المدى» بعنوان: «العرب بين الأنوار والظلمات. محطات وإضاءات». الفصل الثاني بعنوان: «هل يمكن إنقاذ الثقافة العربية؟»، وبالتالي فأنا أمشي دون أن أدري على خطى أستاذنا الكبير: ميخائيل نعيمة. الخلاصة: لا تخافوا من التجديد اللغوي، لا تخافوا من الاشتقاقات والاختراعات الضرورية لمسايرة تطور الحياة. أكاد أقول لا تخافوا من انتهاك قوالب اللغة التقليدية والخروج عليها إذا كان ذلك ضرورياً ويلبي حاجة ماسة، إذا كان ذلك يغني اللغة العربية ويضيف إلى الأدب العربي مساحة جديدة من الإبداع والحرية. وهذا ما فعله الكاتب العبقري جبران خليل جبران في قصيدة خارقة من أجمل ما كتب في اللغة العربية.
في الكتاب فصول عديدة تمشي في ذات الاتجاه التجديدي المنعش. إنها فصول متمردة على التقليد والجمود والخمود الذي كان سائداً في عصر ميخائيل نعيمة عندما ألف هذا الكتاب الرائد. ينبغي ألا ننسى أنه ألفه والعالم العربي لما يكد يخرج من نير السلطنة العثمانية وظلماتها. وفي الكتاب دعوة إلى تحطيم الأوزان والقوافي والخروج عليها لأنها تقيد حرية الشاعر المبدع. فهو يفرق بين النظَامين والشعراء الحقيقيين. ولكن دعوته هذه لم تتحقق عملياً إلا بعد ظهور الشعر الحديث في الخمسينات والستينات أي بعد تأليف الكتاب بثلاثين أو أربعين سنة. نقول ذلك وإن كانت بعض نصوص جبران ونعيمة ذاته استبقت على ظاهرة الشعر الحديث وتحررت من الأوزان والقوافي والزحافات والعلل. وقد أعجبني تعريفه للشعر وأدهشني. يقول مثلاً: «الشعر هو غلبة النور على الظلمة، والحق على الباطل»! لم أسمع بهذا التعريف من قبل على الأقل في نطاق الثقافة العربية. من الواضح أن ميخائيل نعيمة عندما ألف هذا الكتاب كان قد سافر في البلدان ودرس في روسيا وأميركا واطلع على الآداب الأجنبية. ولهذا السبب يحث العرب على توسيع مداركهم وعقولهم. كيف؟ عن طريق الترجمة. ولذلك يخصص صفحة كاملة في الكتاب بعنوان حماسي قاطع: فلنترجم! هنا أيضاً نجد أنفسنا متفقين معه، ونجد أن دعوته لا تزال راهنة وملحة تماماً. يقول بالحرف الواحد:
«نحن في دور من رقينا الأدبي والاجتماعي قد تنبهت فيه (أي استيقظت فيه) حاجات روحية كثيرة لم نكن نشعر بها من قبل احتكاكنا الحديث بالغرب.
وليس عندنا من الأقلام والأدمغة ما يفي بسد هذه الحاجات. فلنترجم! ولنجل مقام المترجم لأنه واسطة تعارف بيننا وبين العائلة البشرية العظمى».
كل من مارس الترجمة يعرف معنى كلام ميخائيل نعيمة هذا ومغزاه. ولكن لكي تنجح عملية الترجمة ينبغي توافر ثلاثة شروط: الأول حسن اختيار الكتب التي تستحق الترجمة. والثاني عدم التقيد بالترجمة الحرفية. الخيانة مكروهة في كافة المجالات (لاحظوا هنا ارتكبت خطأ لغوياً قاتلاً: كان ينبغي أن أقول في المجالات كافة وليس في كافة المجالات! أستغفر الله). قلت إذن بأن الخيانة شيء بشع ما عدا في مجال الترجمة. ولكنها خيانة محسوبة: بمعنى أنها تخون الحرف لكي تخلص للجوهر. والشرط الثالث هو توافر مترجمين حقيقيين في العالم العربي. فالترجمات الرديئة تملأ الشوارع... وهي تؤدي إلى تشويه أجيال بأسرها من الناحية الثقافية. من هنا خطورة الترجمة والمسؤولية الجسيمة التي تترتب على المترجمين.
وأخيراً ما هو النقص الوحيد الذي يعتري كتاب «الغربال» هذا؟ أنه في رأيي يكمن فيما يلي: لقد تحدث عن التجديد اللغوي والأدبي والاجتماعي وكل شيء تقريباً، ولكنه تحاشى عملياً التحدث عن التجديد في مجال الفكر الديني. ولكن هل كان بإمكانه طرق هذا الموضوع الخطير في ذلك الوقت العصيب من ظروف سوريا ولبنان والمشرق العربي عموماً؟ كان ذلك سابقاً لأوانه.
كان ذلك خارجاً عن إرادته وإن كان قد فكر فيه في خفايا نفسه دون أن يستطيع الخوض فيه. بل حتى في وقتنا الراهن نحن نعد على العشرة قبل أن نكتب حرفاً واحداً!


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

محمد رحيم... رحيل يستدعي حزن جيل التسعينات

الملحن المصري محمد رحيم (حساب رحيم على فيسبوك)
الملحن المصري محمد رحيم (حساب رحيم على فيسبوك)
TT

محمد رحيم... رحيل يستدعي حزن جيل التسعينات

الملحن المصري محمد رحيم (حساب رحيم على فيسبوك)
الملحن المصري محمد رحيم (حساب رحيم على فيسبوك)

ما أن تم الإعلان عن خبر الرحيل المفاجئ للملحن المصري محمد رحيم، حتى سيطرت أجواء حزينة على الوسط الفني عامة والموسيقي خاصة بمصر، كما أعرب عدد كبير من متابعي «السوشيال ميديا» من جيل التسعينات والثمانينات عن حزنهم العميق لرحيل ملحنهم «المحبوب» الذي يعتبرونه أفضل من عبّر عن أحلامهم وصدماتهم، مشيرين إلى أن رحيله «خسارة فادحة» لعالم الموسيقى والغناء عربياً.

وبدأ الملحن المصري محمد رحيم مسيرته المهنية مبكراً، إذ تعاون مع نخبة كبيرة من النجوم بمصر والعالم العربي، وكان قاسماً مشتركاً في تألقهم، كما صنع لنفسه ذكرى داخل كل بيت عبر أعماله التي تميزت بالتنوع ووصلت للعالمية، وفق نقاد.

الشاعر فوزي إبراهيم والمطربة آية عبد الله والملحن محمد رحيم (حساب رحيم على فيسبوك)

ومن بين النجوم الذين تعاون معهم رحيم عمرو دياب، ونانسي عجرم، ومحمد منير، وأصالة، وإليسا، ونوال الزغبي، وأنغام، وآمال ماهر، وروبي، ومحمد حماقي، وتامر حسني، وغيرهم.

وقدم رحيم أول ألحانه مع الفنان عمرو دياب أواخر تسعينات القرن الماضي، قبل أن يكمل عامه الـ20، من خلال أغنية «وغلاوتك» ضمن شريط «عودوني»، التي حققت نجاحاً كبيراً وكانت بداية الطريق لأرشيف غنائي كبير صنع اسم رحيم في عالم الفن.

وقدم رحيم، الذي رحل السبت عن عمر يناهز الـ45 عاماً، مع عمرو دياب أغنية «حبيبي ولا على باله»، التي حصد عنها دياب جائزة «ميوزك أورد» العالمية عام 2001.

بدأ رحيم في عصر ازدهار «شرائط الكاسيت»، التي كانت الملاذ الوحيد لمحبي الأغاني وخصوصاً في مواسم الإجازات، وانتظار محلات وأكشاك بيع الشرائط في الشوارع والميادين بمصر كي تعلن عبر صوت صاخب طرح «شريط جديد».

الملحن محمد رحيم والمطربة جنات (حساب رحيم على فيسبوك)

ووفق موسيقيين؛ فإن الملحن الراحل قد نجح في صناعة ألحان يعتبرها جيل التسعينات والثمانينات «نوستالجيا»، على غرار «أنا لو قلت» لمحمد فؤاد، و«الليالي» لنوال الزغبي، و«يصعب علي» لحميد الشاعري، و«ياللي بتغيب» لمحمد محيي، و«أحلف بالله» لهيثم شاكر، و«جت تصالحني» لمصطفى قمر، و«مشتاق» لإيهاب توفيق، و«أنا في الغرام» لشيرين، وغيرهم. لذلك لم يكن مستغرباً تعليقات نجوم الغناء على رحيل رحيم بكلمات مؤثرة.

ويرى الشاعر والناقد الموسيقى المصري فوزي إبراهيم أن «محمد رحيم ملحن كان يتمتع بموهبة فريدة، وألحانه تميزت بالبساطة والقرب من ذائقة الجمهور التي يعرفها بمجرد سماعها، لذلك اقتربت موسيقاه من أجيال عدة».

لم يقم الموسيقار الراحل باستعارة أو اقتباس جمل موسيقية مطلقاً خلال مشواره، بل اعتمد على موهبته الإبداعية، برغم ترجمة أعماله للغات عدة، وفق إبراهيم، الذي أشار في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» إلى «أن محمد منير وصف رحيم بأنه (أمل مصر في الموسيقى)، مثلما قالها عبد الحليم حافظ للموسيقار بليغ حمدي».

محمد حماقي ومحمد رحيم (حساب رحيم على فيسبوك)

«بدأ شاباً وكان يعي متطلبات الشباب»، على حد تعبير الناقد الموسيقى المصري أمجد مصطفى، الذي يقول في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» إن «ارتباط جيل التسعينات بأعماله يرجع لكونه نجح في القرب منهم والتعبير عن أحلامهم ومشاعرهم، بجانب ثقافته الموسيقية المبكرة التي حملت أبعاداً مختلفة».

ولفت مصطفى إلى أن «رحيم كان تلميذاً للملحن الليبي ناصر المزداوي، الذي يتمتع بتجارب عالمية عديدة، كما أن رحيم كان متميزاً في فن اختيار الأصوات التي تبرز ألحانه، بجانب إحساسه الفني الذي صنع شخصيته وميزته عن أبناء جيله».

الملحن محمد رحيم والفنان محمد منير (حساب رحيم على فيسبوك)

وكان للملحن المصري بصمة واضحة عبر أشهر شرائط الكاسيت مثل «الحب الحقيقي» لمحمد فؤاد، و«عودوني» لعمرو دياب، و«غزالي» لحميد الشاعري، و«أخبارك إيه» لمايا نصري، و«صورة ودمعة» لمحمد محيي، و«شوق العيون» لرجاء بلمليح، و«وحداني» لخالد عجاج، و«حبيب حياتي» لمصطفى قمر، و«عايشالك» لإليسا، و«جرح تاني» لشيرين، و«قوم أقف» لبهاء سلطان، و«ليالي الشوق» لشذى، و«ليلي نهاري» لعمرو دياب، و«طعم البيوت» لمحمد منير، وغيرها من الألحان اللافتة.

الملحن محمد رحيم والفنانة نانسي عجرم (حساب رحيم على فيسبوك)

من جانبها قالت الشاعرة المصرية منة القيعي إنها من جيل التسعينات وارتباطها بأغاني رحيم لم يكن من فراغ، خصوصاً أغنية «غلاوتك»، التي أصرت على وجودها خلال احتفالها بخطبتها قبل عدة أشهر، رغم مرور ما يقرب من 26 عاماً على إصدارها.

وتوضح منة لـ«الشرق الأوسط» أن «رحيم كان صديقاً للجميع، ولديه حس فني وشعور بمتطلبات الأجيال، ويعرف كيف يصل إليهم بسهولة، كما أن اجتماع الناس على حبه نابع من ارتباطهم بأعماله التي عاشت معهم ولها ذكرى لن تزول من أذهانهم».

الملحن محمد رحيم والموسيقار الراحل حلمي بكر (حساب رحيم على فيسبوك)

وتؤكد منة أن «ألحان رحيم جزء لا يتجزأ من الهوية المصرية، والقوى الناعمة التي تملكها مصر، وفنه الراسخ هو (تحويشة) عمره، فقد بدأ صغيراً ورحل صغيراً، لكن عمره الفني كان كبيراً، وأثر في أجيال عديدة». على حد تعبيرها.