هبة القواس: حدودي السماء

بعد اختيارها مديرة للكونسرفتوار اللبناني

هبة القواس
هبة القواس
TT

هبة القواس: حدودي السماء

هبة القواس
هبة القواس

سبق أن عُرض على السوبرانو ورائدة الأوبرا هبة القواس، تسلم إدارة «المعهد الوطني اللبناني العالي للموسيقى»، فاعتذرت. مبررها تمسكها بحريتها وحرصها على الالتزام بحُسن سير عمل مؤسساتها وأكاديميتها. أهالتها حينها فكرة الأسر. في مبنى الكونسرفتوار الرئيسي بمنطقة «سن الفيل»، انتظرتْ لقاء «الشرق الأوسط». قهوة لها وزهورات للمُحاوِرة، فينطلق حوار عن لحظة التسلم حين انقبضت معدتها، استحالة النوم في تلك الليلة، والتوتر الإيجابي مشكلاً قوة دفع.
تمنى عليها زملاء داخل مجلس الإدارة، وهي عضو فيه، التفضل بقبول المنصب، بعد استقالة المدير العام بالإنابة وليد مسلم، الشاهد على تفكك المؤسسة وتشرذم الأوركسترا. كانت في «اجتماع مهم على مستوى التعاون والمشاريع الثقافية» بالرياض حين راحت هواتفها الثلاثة تصدر تنبيهات لافتة. هناك، تبلغت خبر تسلمها إدارة «المعهد» من وسائل الإعلام. «انهيار الصرح يجعل الرفض ترفاً، فتُحتم المسؤولية الموافقة الفورية»، تقول مَن انقبضت معدتها، «ليس خوفاً بل لإدراكي رهبة الحِمْل»، ولم تنم تلك الليلة.
على سبيل المزاح، توجهت لوزير الثقافة اللبناني محمد مرتضى الذي تصفه بالمُحارب: «كان القضاة العرب في الماضي يبكون تأثراً لحظة تسلم مهماتهم لفرط حجم المسؤولية، وها أنني أفعل الشيء نفسه!». ليلة التبلغ، سهرت حتى الفجر تضع استراتيجية العمل، وفي اليوم التالي عقدت اجتماعاً لكتابة الأفكار والخطط. بالنسبة إليها، الموسيقى ليست بعضاً مِن. هي كل. الإبداع والتعليم والأوركسترات لا تتجزأ. ولا يمكن الاستمرار بجهاز إداري وتعليمي وفني يعيش بمذلة. علمت لاحقاً أن التكليف كان صدر داخل مجلس الإدارة ولم تقرأه لغيابها عن «الواتساب». تفضل هبة القواس الفعل على القول، وبرأيها الحديث بالتفاصيل عن الاستراتيجية قد يفقدها وهجها. تتقد عيناها حماسة وهي تدعو لـ«التفكير خارج الصندوق»: «الوضع اللبناني غير تقليدي والتحديات هائلة. أؤلف الخطط كما أؤلف مقطوعة موسيقية، بأفكار واستراتيجية لم يسبق التفكير بها. المرحلة تقتضي استعمال أسلوب الدفع لإتاحة تشكيل النهضة المطلوبة».
تستبق سؤالاً يحاول إعادتها إلى جحيم الواقع، فتجيب: «أدركُ أن المشاريع ليست سهلة، لكنها لا تنتمي إلى كوكب آخر. سنحققها بالتكاتف والشراكة، بدءاً من التعاون مع الأساتذة المُعذبين ضمن رؤية جديدة، ومد جسور غير تقليدية مع المؤسسات الخاصة والحكومية والقطاعات الثقافية، ثم تعزيز حضورنا العربي والعالمي».
يا لها من مُعانِدة لليأس! ترد بأنها تحول القلق السلبي إلى قوة دفع فيصبح مولداً للطاقة. «you have to be alert»، تستعمل العبارة بالإنجليزية، وتتابع: «ليس لدينا وقت، فقد تأخرنا سنوات. المأزق اللبناني أعادنا مائة عام إلى الوراء. طموحي جعْل المؤسسة عابرة للحدود، فلغة الموسيقى تحلق لتعانق الكون».
نبيلة الأحلام وعظيمة هالة الأفكار، لكن عازفين هاجروا والكهرباء مقطوعة وأساتذة لا يملكون أجرة التنقل بين فروع «المعهد». لا مفر من الاصطدام بالأرض. ألا يبدو التفاؤل المُضخم سوريالياً؟ برأيها، لا. ترفض إهدار طاقتها بسلبيات تقر بوجودها وعليها التعامل معها في كل لحظة: «أفضل التركيز على المشكلة لإيجاد حل. تماماً كمَن يسير على حبل معلق بين الوديان، فإن نظر إلى الأسفل أُصيب بدوار ووقع. عليه التركيز على الهدف أمامه. هذا ليس عدم واقعية، إنه رفض الإذعان للإحباط».
مرورها بدراسات وشهادات عليا، يجعلها تقدر شقاء الموسيقي و«انصهاره وانجلاخه كالألماس النادر»، تصفه برفعة. تعلم أن البلد يخنق إنسانه ولا يعبد درب الموهبة لتصل أسرع: «مَن القادر على رفع الصوت ومخاطبة العالم بلغة حضارية؟ وحدها الموسيقى».
ألا تخشين السقوف العالية، في الطموح والآمال؟ ردها واثق: «حدودي السماء». إيمانها بالله يجعلها تطرد المستحيل من قاموسها. فحتى إن رفعت إليه الرجاء، انتقت مفردات تحفز الإيجابية: «سهل لي طريقي، بدل القول إن طريقي صعبة. الكون يسمع كلماتنا والأصوات تسافر في الفضاء، فأزيح السلبيات بالتفاؤل».
تروي قصصاً كثيرة عن عشقها للخليج وأهمية الحضن العربي، «امتدادنا وجذورنا». وتتحدث عن مشاريع مقبلة مع الرياض وأبوظبي والبحرين... ولا يساورها شك بأن الآتي أجمل. تخبرنا: «منذ إعلان التكليف، تلقيت اتصالات خليجية تُكبر القلب وتجعلني أُضاعف التفاؤل. المملكة العربية السعودية لا تنتظر، هي السباقة. وانفتاحها الحضاري خارج كل المعادلات، من شأنه أن يفعل المنطقة بأسرها. أتطلع لتعاون استراتيجي والأفكار لا تنضب. الأمل عظيم حين يكون للبنان قطب كبير داعم كالسعودية، بتاريخها وجغرافيتها ووزنها الثقافي وتكتلها الاقتصادي الدولي. رجائي أن مستقبلها وفق (رؤية 2030) سيعود علينا بالخير».
تلتفت إلى صورة بجانب مكتبها رُسم عليها المبنى الجديد للكونسرفتوار المُقرر افتتاحه العام المقبل في منطقة «ضبيه»، بتمويل صيني. تشير نحوه بالإصبع، لتؤكد أهمية الانفتاح العالمي لإبرام اتفاقات تعاون على المستوى الأكاديمي والأوركسترالي وتبادل الخبراء والموسيقيين، مع سفارة الصين ودول من أوروبا وأميركا. «Sky is the limit»، تختم بضحكة شجاعة.


مقالات ذات صلة

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

يوميات الشرق رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً. فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه.

يوميات الشرق ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته.

فاطمة عبد الله (بيروت)
يوميات الشرق هشام خرما لـ«الشرق الأوسط»: أستلهمُ مؤلفاتي الموسيقية من التفاصيل

هشام خرما لـ«الشرق الأوسط»: أستلهمُ مؤلفاتي الموسيقية من التفاصيل

يعتمد الموسيقار المصري هشام خرما طريقة موحّدة لتأليف موسيقاه، تقتضي البحث في تفاصيل الموضوعات للخروج بـ«ثيمات» موسيقية مميزة. وهو يعتزّ بكونه أول موسيقار عربي يضع موسيقى خاصة لبطولة العالم للجمباز، حيث عُزفت مقطوعاته في حفل الافتتاح في القاهرة أخيراً.

محمود الرفاعي (القاهرة)
يوميات الشرق معرض «أحلام الطبيعة» في ألمانيا

معرض «أحلام الطبيعة» في ألمانيا

زائرون يشاهدون عرضاً في معرض «أحلام الطبيعة - المناظر الطبيعية التوليدية»، بمتحف «كونستبلاست للفنون»، في دوسلدورف، بألمانيا. وكان الفنان التركي رفيق أنادول قد استخدم إطار التعلم الآلي للسماح للذكاء الصناعي باستخدام 1.3 مليون صورة للحدائق والعجائب الطبيعية لإنشاء مناظر طبيعية جديدة. (أ ب)

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق «نلتقي في أغسطس»... آخر رواية لغارسيا ماركيز ترى النور العام المقبل

«نلتقي في أغسطس»... آخر رواية لغارسيا ماركيز ترى النور العام المقبل

ستُطرح رواية غير منشورة للكاتب غابرييل غارسيا ماركيز في الأسواق عام 2024 لمناسبة الذكرى العاشرة لوفاة الروائي الكولومبي الحائز جائزة نوبل للآداب عام 1982، على ما أعلنت دار النشر «راندوم هاوس» أمس (الجمعة). وأشارت الدار في بيان، إلى أنّ الكتاب الجديد لمؤلف «مائة عام من العزلة» و«الحب في زمن الكوليرا» سيكون مُتاحاً «عام 2024 في أسواق مختلف البلدان الناطقة بالإسبانية باستثناء المكسيك» و«سيشكل نشره بالتأكيد الحدث الأدبي الأهم لسنة 2024».

«الشرق الأوسط» (بوغوتا)

«البحث عن رفاعة»... وثائقي يستعيد سيرة «رائد النهضة المصرية»

فيلم «البحث عن رفاعة» يتناول مسيرة رفاعة الطهطاوي (فيسبوك)
فيلم «البحث عن رفاعة» يتناول مسيرة رفاعة الطهطاوي (فيسبوك)
TT

«البحث عن رفاعة»... وثائقي يستعيد سيرة «رائد النهضة المصرية»

فيلم «البحث عن رفاعة» يتناول مسيرة رفاعة الطهطاوي (فيسبوك)
فيلم «البحث عن رفاعة» يتناول مسيرة رفاعة الطهطاوي (فيسبوك)

يستعيد الفيلم الوثائقي المصري «البحث عن رفاعة» سيرة أحد رواد النهضة الفكرية في مصر ببدايات القرن الـ19، رفاعة رافع الطهطاوي، الذي كان له دور مهم في التعليم والترجمة، ويستضيف الفيلم المركز الثقافي بيت السناري بحي السيدة زينب (وسط القاهرة)، التابع لمكتبة الإسكندرية، الأربعاء.

يتتبع الفيلم مسيرة رفاعة الطهطاوي عبر رؤية سينمائية تدمج المكان بالأحداث بالموسيقى، ويتناول شخصية وأفكار رفاعة الطهطاوي، أحد رواد النهضة الفكرية في مصر، ويُقدم رؤية سينمائية تجمع بين التاريخ والواقع، مسلّطاً الضوء على إسهاماته في تشكيل الوعي العربي الحديث، وفق بيان لمكتبة الإسكندرية.

ويُعدّ رفاعة الطهطاوي من قادة النهضة العلمية في مصر خلال عصر محمد علي، وقد ولد في 15 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1801، في محافظة سوهاج بصعيد مصر، والتحق بالأزهر ودرس على يد علمائه علوم الدين مثل الفقه والتفسير والنحو، ومن ثَمّ سافر إلى فرنسا في بعثة علمية وعاد ليضع خطة لإنشاء مدرسة الألسُن، ووضع كتباً عدّة من بينها «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، و«مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية»، و«المرشد الأمين في تربية البنات والبنين»، وتوفي رفاعة الطهطاوي عام 1873، وفق الهيئة العامة للاستعلامات المصرية.

بيت السناري في القاهرة (بيت السناري)

جدير بالذكر أن الفيلم وثائقي طويل، تبلغ مدته 61 دقيقة، وأخرجه صلاح هاشم، وقام بالتصوير والمونتاج المصور اللبناني سامي لمع، والمنتج المنفذ نجاح كرم، والموسيقي يحيى خليل، وهو من إنتاج شركة سينما إيزيس.

وأوضحت «سينما إيزيس» المنتجة للفيلم أنه عُرض لأول مرة في 2008 بجامعة لندن، قسم الدراسات الشرقية. وشارك في مهرجانات عربية وعالمية عدّة، من بينها «كارافان السينما العربية والأوروبية» في عمّان بالأردن، و«متحف الحضارات الأوروبية والمتوسطية» في مارسيليا بفرنسا، تحت عنوان «الطهطاوي... مونتسكيو العرب».

وكان مخرج الفيلم قد تحدّث في ندوة بجامعة لندن عقب العرض الأول له، عن تصوير أكثر من 20 ساعة بين القاهرة وأسيوط وطهطا (بلد رفاعة)، وأن مونتاج الفيلم استغرق نحو 6 أشهر بين مدن أوروبية، موضحاً أن الهدف من صنع الفيلم هو التحفيز على التفكير في فكر رفاعة ومعتقداته بخصوص مفاهيم ومعاني النهضة والتقدم.

ولفت إلى أنه أراد تقديم رؤية لرفاعة بأسلوب موسيقى الجاز، وهو ما ظهر في إيقاع الفيلم، موضحاً أن الفيلم أيضاً أراد أن يبعث برسالة مفادها بأن السينما ليست مجالاً للتسلية أو الترفيه فقط، بل يمكن أن تكون أداة للتفكير في الواقع ومشاكل مجتمعاتنا، كما يمكن أن تكون وسيلة للمحافظة على ذاكرتنا.

ويُعدّ بيت السناري الذي يستضيف عرضاً جديداً للفيلم من المراكز الثقافية التي تعتمد على تقديم الأنشطة المتنوعة، والمركز التابع لمكتبة الإسكندرية، هو بيت أثري يعود لنهايات القرن الـ18، وكان مقراً لعلماء وفناني الحملة الفرنسية على مصر بين 1798 و1801م.