بحلةٍ بسيطة تخلو من رابطة العنق، وقف الفنان التشكيلي المصري محمد عبلة يشير منفعلاً وسط حشد من الإعلاميين والنقاد خلال حفل الافتتاح، إلى واحدة من أعماله الضخمة بالطابق الأول من غاليري «ضي» بحي الزمالك، وكأنه يلفت إلى مسيرته الممتدة لنحو خمسين عاماً، احترق خلالها بنار الأحلام والطموحات والمعاناة، في ترويض الإبداع حتى أصبح واحداً من أبرز الأسماء في الحركة التشكيلية مصرياً وعربياً.
المعرض الاستيعادي الذي يحمل اسماً دالاً ومعبراً هو «مراحل»، يضم نحو مائتي عمل تجسد بالفعل مختلف المراحل والمحطات التي مر بها الفنان منذ بدأ تجربته في السبعينات، والتي تتوزع ما بين الرسم والتصوير والنحت والأعمال المركبة والفيديو.
ويُعرَف عبلة بجديته الشديدة في التعامل مع فنه، حتى أنه يستبق كل تجربة جديدة، يقدِم عليها بكم كبير من التحضير عبر القراءة والسفر والسير في الطرقات والتجول عبر الأسواق وزيارة عشرات من المحال التي تحتوى على خامات فريدة أو مواد نادرة تصلح عبر تطويعها لأن تبوح بأسرار الجمال الخفي.
النحت أحد الوجوه الإبداعية لمحمد عبلة
ويأتي المعرض في أعقاب فوز عبلة بوسام «جوته» للفنون والإبداع الذي تمنحه دولة ألمانيا بهدف تكريم المتميزين حول العالم ليصبح الفنان ثالث عربي يحصل عليه بعد الشاعر السوري أدونيس، وأستاذ الفلسفة الناقد المصري عبد الغفار مكاوي. وأشادت حيثيات الفوز بالوسام بقدرة عبلة على التنوع وقدرته على تقديم رؤى شاملة عن ثقافته ومجتمعه.
وعن علاقته بالغرب عموماً وأوروبا بشكل خاص، أوضح عبلة في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أنه سافر إلى ألمانيا عام 1977، حيث أقام أول معرض له هناك كما تزوج وأنجب وأصبح له مرسم دائم، فضلاً عن عيادة يقدم فيها دورات في العلاج بالرسم والألوان، فضلاً عن تدريس الفن في النمسا وسويسرا، قبل أن يقرر العودة النهائية لمصر في منتصف الثمانينات.
والملاحظ في أعمال عبلة تعمقها في البيئة المصرية المحلية، لا سيما الجزر النيلية والحقول وحكايات الطفولة، وثيمات الموروث الشعبي، فما السبب وراء ذلك؟ طرحنا السؤال عليه، فأكد أن الأمر ربما كان يعود إلى نشأته التي تتراوح ما بين الأصول الريفية والأصول البدوية؛ ما جعله يبحث عن بيئات غنية على مستوى الطبيعة، وأيضاً على مستوى الملامح والوجوه والروح الإنسانية، لافتاً إلى أنه يعتبر الفن «التزاماً» في المقام الأول تجاه المجتمع وقضاياه السياسية والاقتصادية والاجتماعية قبل أن يكون منتَجاً جمالياً بحتاً.
ويؤكد محمد عبلة، أنه «يمارس حياته اليومية بحثاً عن شرارة الإبداع التي يطاردها في وجوه رواد المقاهي والأسواق الشعبية والحقول الممتدة على أطراف الجيزة والجزر المتناثرة على ضفاف النهر، فهو لا يرسم إلا كل ما يثير خياله ويستفز ملكاته بشكل مباشر».
وعن تجربته في تأسيس متحف الكاريكاتير، أشار إلى أن فن الكاريكاتير يمثل عشقاً قديماً لديه، وكان إنشاء متحف له يعد حلماً لأحد رواد هذا الفن في مصر وهو الفنان زهدي العدوي الذي وعده عبلة بتحقيق الحلم، لكن المنية وافته قبل تحقيق الحلم، فأخذ عبلة على عاتقه تنفيذ الحلم في مبنى جمالي بمحافظة الفيوم.
وبدأ المشروع بـ500 عمل أصلي، ثم تم التوسع مؤخراً ليضم المتحف قسماً للكاريكاتير العربي، وليصبح الأول من نوعه على مستوى الشرق الأوسط وأفريقيا.
ويقدم عبلة نموذجاً مختلفاً عن الصورة النمطية للفنان التشكيلي الذي يقبع في برج عاجي، فلا تندهش إذا رأيته يرفع مع بعض المزارعين لافتات تحمل مطالب مشروعة أو يعلّم أطفال قرية نائية الرسم على الجداريات، أو يتحول لصوت المهمشين لدى بعض المسؤولين في هذه المدينة أو تلك.
ويعلق محمد عبلة على هذا الملمح في تجربته قائلاً «لم يكن الأمر ليستقيم معي لو كنت بخلاف ذلك، لا يمكنني أن أكون فناناً دون أن أكون صوت الناس، أعكس نبض واقعهم بحلوه ومره. وأذكر أنه بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) وما تبعها من تشويه لصورة العرب عالميا، بادرت إلى تقديم محاضرات نظرية وفنية يومية بألمانيا تتناول قيم الحب والجمال والتسامح في الثقافة العربية».
«مراحل» يبرز المحطات الفنية لمحمد عبلة خلال نصف قرن
معرض استيعادي يضم 200 عمل
«مراحل» يبرز المحطات الفنية لمحمد عبلة خلال نصف قرن
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة